انتظار الفرج

منذ 2023-06-25

الضَّعْفُ قدَرُ اللهِ في البَشرِ، وسِمَتُهم في الوجودِ. وأشدُّ ما يكونُ ذلك الضَّعْفُ عند انعدامِ الحيلةِ، وجُثُومِ البلاءِ، واستبهامِ وجوهِ الأسبابِ...

الضَّعْفُ قدَرُ اللهِ في البَشرِ، وسِمَتُهم في الوجودِ. وأشدُّ ما يكونُ ذلك الضَّعْفُ عند انعدامِ الحيلةِ، وجُثُومِ البلاءِ، واستبهامِ وجوهِ الأسبابِ، وانسدادِ أُفُقِ الفرَجِ في الواقعِ المنظورِ، وانقضاضِ جنودِ اليأسِ على مملكةِ القلبِ الضعيفِ المكْلُومِ بالتَّحزينِ والتخريبِ؛ شأنَ طبيعةِ اليأسِ البشريِّ التي أبانَها الخالقُ -سبحانه- بقولِه: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء: 83]. بَيْدَ أنَّ لأهلِ الإيمانِ في ذلك الموقفِ العصيبِ خصيصةَ رحمةٍ ربانيةٍ يتميَّزونَ بها عن الغَيْرِ؛ يَنْظُرُونَ من خلالِها للواقعِ المَريرِ نظرةَ فأْلٍ لا يراه بها إلا مَن عَمَرَ الإيمانُ قلبَه، وتربَّعَ على مَعْقِدِ عرشِه، ونظرَ للواقعِ بمنظارِ اليقينِ؛ وكان مُفْعَمَاً بما يَضُخُّه الإيمانُ من قوةِ عبادةِ انتظارِ الفرَجِ العظيمةِ؛ لِيَخِفَّ بها وطْأةُ البلاءِ، ويُفْتَحَ للأملِ المُشْرِقِ نافذةً كبرى لا يُمكنُ أيُّ بلاءٍ سَدَّها مهما استحكمتْ شِدَّتُه واحْتلكتْ ظلمتُه. فما حقيقيةُ عبادةِ انتظارِ الفرَجِ؟ وما قدْرُها عندَ اللهِ؟ وما أثرُها في تحسينِ الواقعِ المُرِّ؟

 

عبادَ اللهِ!

إنَّ انتظارَ المؤمنِ فرَجَ اللهِ أملٌ في اللهِ كبيرٌ؛ لا تُضيِّقُه ظروفُ شِدَّةٍ، وتَوقُّعٌ جازمٌ بالخيرِ يَجودُ به اللطيفُ الخبيرُ؛ لا يَمنعُ منه انسدادُ الفُرَصِ أو مَنْعُها؛ فهو في كلِّ آناتِه وساعاتِه مُرْتَقِبٌ تفريجَ كربتِه، وتيسيرَ عسرتِه؛ لا يزيدُه مُضِيُّ ساعاتِ البلاءِ وتراكمُها إلا استدناءً للحظةِ الفرجِ، وارتقاباً لحلولِ ساعتِه، وقَصْرَاً للشكايةِ إلى اللهِ؛ فكما أنَّ الأملَ فيه معْقودٌ وحدَه -سبحانه-؛ فكذلك لا تكونُ الشكايةُ إلا إليه، كما قال يعقوبُ -عليه السلامُ- إثْرَ فُقْدَانِه أبناءَه: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86]، قال قتادةُ:  ذُكِرَ لنا أنَّ نبيَّ اللهِ يعقوبَ لم ينزلْ به بلاءٌ قَطُّ إلا أَتى حُسْنُ ظنِّه باللهِ ‌مِن ‌ورائِه .

والمؤمنُ وهو في ذلك الانتظارِ يتقلَّبُ في أعطافِ عبادةٍ هيَ من عُظْمَى العباداتِ، كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أفضلُ العبادةِ انتظارُ الفرَجِ» (رواه الترمذيُّ وحسَّنَه ابنُ حَجَرِ).

وما كان لانتظارِ الفرَجِ من اللهِ ساعاتِ رَهَقِ البلاءِ أنْ يَتَبَوَّأَ هذا المقامَ العليَّ في سُلِّمَ العباداتِ إلا لما حَوَاه من حقائقِ التوحيدِ المُتْرَعَةِ؛ ففي انتظارِ الفرجِ قَطْعُ ‌العلائقِ والأسبابِ إلى اللهِ -تعالى-، وتعلُّقُ القلبِ به، وشُخوصُ الأملِ إليه، والتبرِّي من الحَوْلِ والقوةِ؛ وهذا خالِصُ الإيمانِ.

وأشرفُ العباداتِ ‌ولُبُّ ‌الطاعاتِ أنْ يتوجَّهَ القلبُ بهمومِه كلِّها إلى مولاه؛ فإذا نزلَ به ضيقٌ انتظرَ فرَجَهُ منه لا من سواه، وأقبلَ على ربِّه في تفريجِ كرْبِه وكشفِ ضرِّه، أو الظَّفَرِ بمطلوبِه، مع صبرِه وعدمِ ضجرِه وعدمِ شكواه للمخلوقِ، وعدمِ اتهامِه للحقَّ فيما ابتلاه وتأخيرِ كشْفِه؛ فتلكمْ -لَعَمْرُ اللهِ- عبادةٌ وأيُّ عبادةٍ؛ لما فيها من الانقيادِ للقضاءِ والتسليمِ لقدْرِ اللهِ. وفي انتظارِ الفرَجِ زيادةُ الخضوعِ للهِ، وإظهارِ الافتقارِ إليه، وانكسارِ القلبِ بين يديه؛ وما أقربَ فرَجُ اللهِ لمن انكسرَ قلبُه بين يديه، ولم يرتضِ جابراً لكَسْرِه سوى الجبَّارِ -سبحانه-! وفي انتظارِ الفرَجِ من اللهِ إفرادٌ له بالربوبيةِ وتدبيرِ الأمورِ، وأنَّ الكونَ بما حواه في قبْضتِه؛ محكومٌ بقدَرِه، ومزمومٌ بأمرِه، وأنَّ مِن وراءِ حدودِ الواقعِ المنظورِ مشيئةً ربانيةً مُطْلَقةً؛ لا يُعجزُها شيءٌ، ولا يصمدُ أمامَ فرَجِها أيُّ قوةٍ وإنْ تمالأَ عليها أهلُ الأرضِ قاطبةً، وليس لذلك الفرَجِ حدٌّ أو سببٌ أو صورةٌ تكْمُنُ في الحُسْبانِ البشريِّ والحصرِ الذِّهنيِّ؛ إذ قد يكونُ فرَجٌ عظيمٌ لبلاءٍ عامٍّ جاثمٍ بدعوةٍ صالحةٍ مِن مؤمنٍ مغمورٍ! وانتظارُ الفرَجِ من اللهِ مُفْرَدَةٌ من مُفرداتِ حُسْنِ الظنِّ به -سبحانَه-؛ إذ حقيقةُ ذلك الانتظارِ إفلاسٌ مما عدا اللهِ، وخيبةُ ظنٍّ فيما سواه، وقَصْرٌ لِحُسْنِ الظنِّ فيه وحدَه -جلَّ شَأْنُه-؛ وذاك أعظمُ درجاتِ حُسْنِ الظنِّ باللهِ! وانتظارُ الفرجِ من اللهِ مُعايَشَةُ التذاذٍ بتذوِّقِ طَعْمِ معاني أسمائه الحُسنى وصفاتِه العُلا؛ من رحمةِ الرحيمِ، ولُطْفِ اللطيفِ، وجَبْرِ الجَبَّارِ، وقَهْرِ القَّهارِ، وعُلُوِّ العليِّ الأعلى، وسَمْعِ السميعِ، وقُرْبِ القريبِ الباطنِ، واطِّلاعِ الرقيبِ، ومودَّةِ الوَدودِ، ومِنَّةِ المنَّانِ، وعِزَّةِ العزيزِ، وسَعَةِ الواسعِ، وهِبَةِ الوهابِ، ورِزْقِ الرزَّاقِ، وحياةِ الحيِّ، وقيَّوميِّةِ القيومِ، وملكوتِ المَلَكِ المالكِ.

ومن هنا باتَ انتظارُ الفرجِ من اللهِ صبراً جميلاً لأمْرهِ وقدَرِه، اتخذَه أنبياءُ اللهِ -عليهم صلواتُه وسلامُه- عُدَّةً لهم في تَخَطِّي عقابيلَ البلاءِ في خاصةِ أمْرِهم وعامِّه؛ فهو الذي أنجى نوحاً بالفلكِ المشحونِ وأغرقَ قومَه بالطوفانِ، وهو الذي صيَّرَ النارَ على الخليلِ بردًا وسلامًا، وهو الذي فرَّجَ عن يونسَ فأخرجَه من ‌بطنِ ‌الحوتِ إذ ناداه في الظلماتِ، وهو الذي أخرجَ الكليمَ من اليمِّ وفَلَقَ له ولقومِه البحرَ وأنجاهم من الكربِ العظيمِ، وهو الذي ردَّ ليعقوبَ بَنِيه وبَصَرَه بعد ابيياضِ عيْنيه، وهو الذي ردَّ على أيوبَ عافيتَه ومالَه وأهلَه بعد فقدانِهم، وهو الذي أخرجَ يوسفَ من الجُبِّ وأخرجَه من السجنِ، وهو الذي رفعَ عيسى ونجَّاه من القتلِ، وهو الذي نجَّا رسولَه من قومِه إذ يَمْكُرون به لِيُثْبِتُوه أو يَقتلُوه أو يُخرِجوه، وسمَّاه المتوكِّلَ؛ لقناعتِه باليسيرِ من الرزقِ، واعتمادِه على اللهِ -تعالى- في الرزقِ والنصرِ والصَّبْرِ على انتظارِ الفرجِ، والأخذِ بمحاسنِ الأخْلاقِ واليقينِ بتمامِ وعْدِ اللهِ. قال الرِّياشيُّ: ما ‌اعْتراني ‌هَمٌّ فأُنْشِدُ قولَ أبي العَتاهيةِ:

هيَ الأيّامُ والغِيَـــــرُ  **  وأَمْرُ اللهِ مُنْتَظَـــرُ 

أتيأسُ أنْ ترى فرجاً  **   فأينَ الرَّبُ والقَدَرُ 

 

أيها المؤمنون!

إنَّ انتظارَ الفرجِ من اللهِ نَداوةُ رحمةٍ ربانيّةٍ تُرَطِّبُ جفافَ الواقعِ، سلّى بها اللهُ قلبَ المُعْدَمِ من المالِ إنْ طَلَبَ أقاربُه رِفْدَه بقولِه: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28]. واليأسُ من رَوْحِ اللهِ، وترْكُ انتظارِ فرجِه ضلالٌ لا يكونُ من مؤمنٍ باللهِ، كما قال الخليلُ - عليه السلامُ -: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]. وحرمانُ التسلِّي بانتظارِ الفرجِ وجثومُ اليأسِ عقوبةٌ يُعذِّبُ اللهُ بها أهلَ النارِ المخلَّدينَ، كما قال -سبحانه-: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75]. وفي انتظارِ فرجِ اللهِ تسريعٌ لفرَجِه، وتَرَقٍّ في سُلِّمِ عبوديتِه، وتلذُّذٌ بمناجاتِه، وظفَرٌ بمواهبِ عِوَضِه إنْ أعطى أو مَنَعَ، واتساعٌ في رؤيةِ الوجهِ المُشرِقِ من بلائه، وعيشٌ بالأملِ الربانيِّ الذي لا يخيبُ صاحبُه ولا تَضِيقُ به شدةٌ، وتَحَلٍّ بالرَّزانةِ والوَقارِ وكريمِ الخُلقِ، وانفساحٌ في وجوهِ الأسبابِ، وتجدُّدٌ في العزيمةِ والنشاطِ، وحسنُ عزاءٍ في كلِّ فائتٍ، وثباتٌ على المبادئ والقِيمِ. قال أحدُ الحكماءِ: العاقلُ ‌يتعزّى فيما نزلَ به من المكروهِ بأمرين؛ أحدُهما السرورُ بما بقيَ له، والآخرُ رجاءُ الفرجِ مما نزلَ به . وقال أبَانُ بنُ تَغْلِبٍ: سمعتُ أعرابياً يقولُ: مِن أفضلِ ‌آدابِ ‌الرجالِ؛ أنه إذا نزلتْ بأحدِهم جائحةٌ، استعملَ الصبرَ عليها، وألْهمَ نفسَه الرجاءَ لزوالِها، حتى كأنَّه لِصبرِه يُعايِنُ الخلاصَ منها والغَنَاءَ؛ توكُّلاً على اللهِ -عزَّ وجلَّ-، وحُسْنَ ظنٍّ به. فمتى لَزِمَ هذه الصفةَ؛ لم يلبثْ أنْ يقضيَ اللهُ حاجتَه، ويُزيلَ كُربتَه، ويُنجحَ طِلْبَتَه، ومعه دِينُه وعِرضُه ومروءتُه . وبالجملةِ، فإنَّ عُقبى انتظارِ الفرجِ محمودةُ الأثرِ في الدنيا والآخرةِ، وبها يَعْظُمُ الاغتباطُ إن زالتِ الشِّدَّةُ أو بقيتْ. هذا، وإنَّ من جديرِ مُصحِّحَاتِ فَهْمِ انتظارِ فرجِ اللهِ ألا يَستكينَ المرءُ بسلبيةٍ قعودٍ يرومُ من ورائها فرجَ اللهِ؛ كلا، بل فرجُ اللهِ كامنٌ في أسبابٍ يُقدِّرُها أو يَمنعُها، وما على المؤمنِ إلا أنْ يَجِدَّ في طلبِها مُعَلِّقاً قلبَه باللهِ لا على غيرِه، مباشِراً هذه الأسبابَ وإنْ بَدَتْ ضئيلةَ الجدوى في أعينِ الخلْقِ؛ فما غِنَاءُ عصا موسى -عليه السلامُ- حين ضَرَبَ بها البحرَ فانفلقَ فكان كالطَّوْدِ العظيمِ؟!

وما أثرُ هَزِّ مريمَ -عليها السلامُ- وقد أنْهَكَها أَلَمُ المخاضِ زيادةً على ألمِ الحُزْنِ في جذْعِ النخلةِ حتى تُسَاقِطَ عليها الرُّطَبَ الجَنِيَّ؟! وإنْ بَارَ كلُّ سببٍ فثمةَ سببٌ لا يَلْحقُه بَوارٌ البتةَ؛ دعاءُ اللهِ، وصبْرٌ باللهِ، وانتظارُ فرجِ اللهِ! فلنْ يَغلبَ عسرٌ يسريْنِ، والشدةُ بتْراءُ لا تدومُ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِذَا جَاءَكَ أَمْرٌ لَا ‌كِفَاءَ لَكَ بِهِ؛ فَاصْبِرْ، وَانْتَظِرِ الْفَرَجَ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ، فإمّا يُذْهِبُ اللهُ الشدةَ، أو يُعينُ عليها بالصبرِ والتعايشِ والاسترواحِ بارتقابِ الفرجِ. قال ابنُ رجبٍ: انتظارُ الفرجِ بالصبرِ عبادةٌ؛ فإنَّ البلاءَ لا يدومُ:

اصبرْ لكلِّ مصيبةٍ ‌وتَجَلَّـــــــــــــدِ   **   واعلمْ بأنَّ الضُرَّ غيرُ مُؤَبَّـــــــــدِ 

واصبرْ كما صَبَرَ الكرامُ فإنّهـــــــا   **   نُوَبٌ تَنُوبُ اليومَ تُكْشَفُ في غدِ

ادْفَعْ بِصَبْرِكَ ‌حَادِثَ ‌الْأَيَّـــــــــــامِ   **   وَتَرَجَّ لُطْفَ الْوَاحِدِ الْعَــــــــــلَّامِ 

لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ تَضَايَقَ كَرْبُهَـــــــــا   **   وَرَمَاك رَيْبُ صُرُوفِهَا بِسِهَــــــامِ 

فَلَهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فُرْجَـــــــــــةٌ   **   تَخْفَى عَلَى الْأَبْصَارِ وَالْأَفْهَـــــامِ 

كَمْ مَنْ نَجَا مِنْ بَيْنِ أَطْرَافِ الْقَنَا   **   وَفَرِيسَةٍ سَلِمَتْ مِنْ الضِّرْغَـــــامِ