المشوق إلى اغتنام يوم عرفة
جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده».
1- يوم عرفة يوم أكمل الله فيه الدين:
كما جاء في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: ((جاء رجل من اليهود، فقال: يا أمير المؤمنين، آيةٌ في كتابكم تقرؤونها، لو علينا - معشرَ اليهود – نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: وأي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فقال عمر رضي الله عنه: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم جمعة)).
ولما نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فرِح الصحابة، وبكى عمر، وقال: ما بعد الكمال إلا النقصان[1].
وصدق - والله - فلقد نقص الدين عند كثير من الناس، فها أنت ترى نقص الإيمان، ونقص الهمم، ونقص العزائم، ونقص الاستقامة، ونقص الخلق، ولكن من الممكن أن يجعل العبد من يوم عرفة فرصةً لتجديد العهد مع الله، ولتكميل النقص، وأن يكون يوم عرفة بدايةَ ذكرٍ وقرآن وقيام، وإقبال على الله، لا أن ينتظر الصائم أذان المغرب ليعود إلى شهواته وغفلته.
2- يوم عرفة، يوم المغفرة، يوم العتق من النار:
فقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده».
وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟...».
وفي رواية: «اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرتُ لهم»[2].
فيغفر الله تعالى في يوم عرفة، لمن وقف بعرفة، ولمن لم يقف ممن قبِل توبتهم واستغفارهم.
3- يوم عرفة يوم الجود والكرم، يوم العفو والصفح، يوم التسامح:
وقف حكيم بن حزام يومَ عرفة بمائة بَدَنَة مقلدة، ومائة رقبة، فأعتق المائة رقبة، وذبح المائة بدنة لله تعالى في هذا اليوم العظيم، فضجَّ الناس بالبكاء، وهم يقولون: هذا عبدٌ من عبادك أعتق عبيده، فأعتِق رقاب عبادك من النار[3].
4- يوم عرفة يوم دعاء وخوف وخشوع وخشية:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»[4].
ففي هذا الدعاء إعلان الصدق والولاء والتوحيد لله، فلا يدعون غيره ولا يرجون سواه.
5- يوم عرفة يوم فخر للمسلمين:
إذ لا يمكن للمسلمين في أي مكان أن يحتشدوا بهذا العدد في وقت واحد، إلا في هذا المكان، فلم تُرَ شياطين الإنس والجن، وأعداء الله مغتاظين، كما رُؤوا مغتاظين في هذا المكان، وفي ذلك اليوم.
6- يوم عرفة يوم دالٌّ على عظمة الله وقدرته:
إذ إن الله سبحانه يسمع دعاء هؤلاء جميعًا، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم، ويعطيهم سُؤْلَهم، دون أن تختلط عليه المسائل والحاجات، أو تخفى عليه الأصوات والكلمات، سبحانه هو السميع البصير، العلي الخبير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
7- يوم عرفة يوم أقسم الله تعالى به:
والعظيم لا يقسم إلا بعظيم؛ فهو اليوم المشهود في قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3]، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة...»[5].
8- يوم عرفة يوم التجلي:
ينزل ربنا جل جلاله كل ليلة إلى السماء الدنيا، في ثلث الليل الآخر، ويتجلى لعباده، لكن يوم عرفة يتجلى الله تعالى لعباده نهارًا، يباهي بهم ملائكته؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كنت جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد مِنًى، فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فسلَّما، ثم قالا: يا رسول الله، جئنا نسألك، فقال: «إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت» ، فقالا: أخبرنا يا رسول الله، فقال الثقفي للأنصاري: سَلْ، فقال: أخبرني يا رسول الله، فقال: «جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم[6] البيت الحرام، وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة[7]، وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك فيه، وعن نحرك وما لك فيه مع الإفاضة» ، فقال: والذي بعثك بالحق عن هذا جئت أسألك.
قال: «فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام، لا تضع ناقتك خفًّا ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف، كعتق رقبة من بني إسماعيل عليه السلام، وأما طوافك بالصفا والمروة، كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة، يقول: عبادي، جاؤوني شعثًا من كل فج عميق يرجون جنتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزَبَدِ البحر، لَغفرتُها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم، ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار، فَلَكَ بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك، فمذخور لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك، فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، ويُمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك، فيقول: اعمل فيما تستقبل، فقد غُفِر لك ما مضى»[8].
وذكر ابن القيم رحمه الله:
"أنه في يوم عرفةَ يدنو الرب تبارك وتعالى عشية من أهل الموقف، ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: «ما أراد هؤلاء؟ أشهدكم أني قد غفرت لهم»، وتحصل مع دنوِّه منهم تبارك وتعالى ساعة الإجابة التي لا يُرَدُّ فيها سائلٌ يسأل خيرًا، فيقربون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة، ويقرب منهم تعالى نوعين من القرب؛ أحدهما: قرب الإجابة المحققة في تلك الساعة، والثاني: قربه الخاص من أهل عرفة، ومباهاته بهم ملائكته، فتستشعر قلوب أهل الإيمان بهذه الأمور، فتزداد قوة إلى قوتها، وفرحًا وسرورًا وابتهاجًا ورجاء لفضل ربها وكرمه، فبهذه الوجوه وغيرها فُضِّلت وقفة يوم الجمعة على غيرها"[9].
وذكر السعدي رحمه الله في تفسيره للآية الكريمة: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] فقال: "في أيام عشر ذي الحجة الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فما رُئِي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله لعباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظَّمة، مستحقة، لأن يقسم الله بها"[10].
لكن ينبغي أن نتخلص قبل دخول هذا اليوم العظيم من الموانع الثلاثة للمغفرة:
الأول: القطيعة والخصام والشحناء:
ففي مثل هذه الأيام العظيمة، يغفر الله سبحانه لكل مسلم لا يشرك بالله شيئًا، إلا من كانت بينهم قطيعة أو خصومة أو شحناء؛ فيقول الله: «أنْظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا»[11].
الثاني: الإصرار على المعاصي:
فكيف يُغفَر لمصرٍّ على المعصية، عازم على أن يعود إليها؛ وقد قال سبحانه مخبرًا عن عباده المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136].
الثالث: الكبر والاختيال:
فيوم عرفة يوم التواضع، يوم يفتقر فيه الصالحون إلى الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْرٍ»[12].
وقف مطرف بن عبدالله، وبكر المزني، بعرفة، فقال أحدهما: "اللهم لا تردَّ أهل الموقف من أجلي"، وقال الآخر: "ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله، لولا أني فيهم"[13].
9- يوم عرفة، ذلكم اليوم الذي ودَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أمته:
وخطب فيهم خطبةً جامعة، أرسى فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الجاهلية، وعظم فيها حرمات المسلمين؛ فقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألَا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألَّا يُوطِئن فُرُشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله، وأنتم تُسألُون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد؛ ثلاث مرات»[14].
[1] تفسير القاسمي.
[2] صحيح الترغيب والترهيب.
[3] لطائف المعارف.
[4] صحيح سنن الترمذي.
[5] رواه الترمذي وحسنه الألباني.
[6] تقصد.
[7] عشية يوم عرفة هي الوقت الممتد من الظهيرة حتى غروب الشمس.
[8] رواه الطبراني في الكبير، والبزار، واللفظ له، وقال: وقد رُوِيَ هذا الحديث من وجوه، ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
[9] زاد المعاد في هدي خير العباد.
[10] تفسير السعدي.
[11] رواه مسلم.
[12] رواه مسلم.
[13] لطائف المعارف.
[14] رواه مسلم.
___________________________________________________
الكاتب: د. شريف فوزي سلطان
- التصنيف: