نار وطين

منذ 2023-07-05

يريد إبليس وأتباعه أن يكون الموضوع موضوع نار وطين، بينما هو في حقيقته كِبْرٌ أردى صاحبه، وعقل أهوى به إلى الهلاك.

منذ جاءه الأمر، وقلبه يشتعل حسدًا، قد أضمر في نفسه العصيان، وعندما يحين الوقت وفي منظر مهيب، تخِرُّ الملائكة سُجَّدًا؛ استجابة لأمر الله؛ {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص: 71 - 73].

 

جميعهم ساجد إلا واحدًا بقِيَ منتصبًا، قد انتفخ رأسه كِبْرًا {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص: 74].

 

{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12].

 

{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}  إبليس معترضًا، كيف يُؤمَر الفاضل بالسجود للمفضول؟

فالنار أشرف من الطين، فيها القوة والنور، والصفاء والتطهير، وغفل المسكين أن حُجَّتَه ينقُض آخرها أولَّها، فمن أمره بالسجود لآدم هو الذي خلقه من نار، ووهبه الفضل الذي يزعمه، عمِيَ قلبه، ولم ينظر إلى الشرف العظيم الذي حباه الله آدمَ؛ {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 73]، وهو أنه سبحانه خلقه بيده، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، ونفخ فيه من روحه؛ {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، استكباره منعه من رؤية الأمر على حقيقته، هو يراه كما يتمناه.

 

ففي النار الخفَّة والطَّيش والاضطراب، والحرق والإتلاف، وهي لا تقوم بنفسها، فخمودها يكون بانطفاء الأجسام الْمُلْهِبة لها، أما الطين، ففيه الثبات والأناة والسكون، فيه يستقر الماء، ومنه يخرج الزرع، فالطين رمزٌ للحياة، والنار رمز للهلاك.

 

هل غرَّه ما عَرَفه من حِلْمِ الله ورحمته، وهل ظن المسكين أنه بمأمن عن مَقْتِ الله، وبعيد عن غضبه: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]؟

 

هل كان يتوقع تلك العقوبة من الطرد الأبدي عن رحمة الله، والخلود في نار جهنم؛ {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 77، 78]؟

 

هل ظن أنه آمِنٌ مِنْ مكر الله؛ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]؟

 

حلَّتِ اللعنة، ونزلت النقمة، وجرى القلم.

 

لا يُعرَف خذلانٌ أعظمُ من هذا؛ فإبليس من أعلم الخلق بالله، وها هو يدعوه بربويته فيقول: (ربي)، لا ليعفو عنه، بل لينظره إلى يوم الدين، وما كان الحقير ليوفَّق للتوبة، فقد علِم الله منه ذلك قبل أن يخلقه؛ {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص: 79]، ثم يعظُم خذلانه حين يقسم بعزة الله على معصيته، فيقسم أن يغويَ عباده: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40].

 

وا عجبًا لنار وطين أوبقت صاحبها في دينه ودنياه!

 

وا عجبًا لنار وطين أخرجت صاحبها من جنات الخلود!

 

وا عجبًا لنار وطين نقلت صاحبها من شرف العبادة إلى ذل المعصية، ومن نور الإيمان إلى دياجير الكفر!

 

وا عجبًا لنار وطين أحلَّت بصاحبها اللعائن وأورثته النقم!

 

يريد إبليس وأتباعه أن يكون الموضوع موضوع نار وطين، بينما هو في حقيقته كِبْرٌ أردى صاحبه، وعقل أهوى به إلى الهلاك.

 

ماء وطين ما كانت على عظمها معصيةً مجردة.

 

حقيقتها عقل طائش صيَّر العبد ندًّا لسيده، وبصيرة عمياء جعلت المخلوق شريكًا لخالقه، يقبل ويرفض، ويُعْرِض ويعترض.

 

شريعة الله وأوامره الثابتة ليست رأيًا من الآراء، إنها الأمر المبجَّل الذي استمدَّ قدسيته من العزيز الذي شرعه، واستقى عظمته من العظيم الذي أمر به، إنها شريعة الجبار صاحب الكبرياء، والمهيمن الذي لا يَعزُب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء.

____________________________________________________
الكاتب: إبراهيم العامر

الشريعة الربانية، والأوامر الإلهية أشرف من أن يخطِّئها حقيرٌ، وأكبر من أن يصوِّبها صغير، وأجلُّ من أن يعيبها غرير.

 

إنما هي أمر الله العزيز الحكيم، وانصياع العبد أو تمرده، فثواب أو عقاب.

 

ولا يزال العبد بخير وإن غلبته نفسه، وطغت عليه شهوته، ما دام مقرًّا بذنبه، راجيًا لعفو ربه، متأرجحًا بين معصية وتوبة، ولكن الويل لمن كان لشريعة الله مُخطِّئًا، وبحكمته مشكِّكًا.

 

{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].