أعظم الهبات
قال ابن عباس ( الموءودة) هي المدفونة حية ، وإذا كان يوم القيامة سئلت هذه الموءودة وهى المظلومة بأي ذنب قتلت، سئلت من باب التقريع والتوبيخ لقاتلها فإذا سئل المظلوم فما ظن الظالم..
أيها الإخوة الكرام: إن من أعظم الهبات، ( هبة البنين والبنات) قال رب العالمين سبحانه وتعالى {﴿ لِّلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ ﴾﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَٰثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾}
نزل الإسلام أول ما نزل في جزيرة العرب نزل على قوم يهب الله لهم البنين والبنات ( بوفرة) يولد لأحدهم العشرة والعشرين من البنين والبنات..
الناس في جزيرة العرب في الجاهلية قبل الإسلام (جحدوا) هذه النعمة فجعلوا يقتلون البنين ويئدون البنات..
أما وأد البنات فكان سببه:
الخوف من وقوعهن في ( الفواحش) أو فرارا من النفقة عليهن
قال الله تعالى: « وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت »
كان الرجل في الجاهلية قبل الإسلام إذا بشر بأنثى اسود وجهه كراهية وحزنا وأسفا أن ولدت له أنثى { ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُۥ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ ﴿ يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓ ۚ أَيُمْسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُۥ فِى ٱلتُّرَابِ ۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾}
لم يكونوا جميعا يكرهون البنات ويقتلون البنات لكن كان من بينهم من يفعله من دون أن ينكر عليه أحدهم..
كان أمام من ولدت له ( أنثى) في ذلك الوقت أحد اختيارين اثنين ( إما أن يبقيها حية لكنه يبقيها على حال من الإذلال والهوان، وإما أن يدسها في التراب حية حتى تموت.. بئس الحكم حكمهم وبئس الصنيع صنيعهم قال الله تعالى {﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُۥ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ ﴿ يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓ ۚ أَيُمْسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُۥ فِى ٱلتُّرَابِ ۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾}
قال ابن عباس ( الموءودة) هي المدفونة حية ، وإذا كان يوم القيامة سئلت هذه الموءودة وهى المظلومة بأي ذنب قتلت، سئلت من باب التقريع والتوبيخ لقاتلها فإذا سئل المظلوم فما ظن الظالم..
قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ما معناه أن ( الوائد في النار إلا أن يدرك الإسلام فيعفو الله عنه )
حكى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه مشهد قتله ( ابنته) في الجاهلية، حكاه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمشاهد مؤلمة، وكلمات مؤثرة فدمعت عين رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحمة) بهذه الموءودة البريئة ثم قال فيما روى عنه { يا عبد الله ! والله لو كنت مقيماً الحد على رجل فَعَل فعلاً في الجاهلية لأقمته عليك، لكن الإسلام يَجبُّ ما قبله } أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
وعن ابن عباس أنه قرأ « وإذا الموءودة( سئلت) بأي ذنب قتلت » بفتح السين أي أنها سألت عن حقها .. ومن مراسيل الحسن البصري عليه رحمة الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( يا رسول الله من في الجنة قال: ( الموءودة في الجنة)
وعن هذه الجريمة ( جريمة وأد البنات)،( ندم وتاب) بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بعد إسلامهم منهم ( قيس بن عاصم) جاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله إني وأدت ( ثمان) بنات لي في الجاهلية فقال عليه الصلاة والسلام (أعتق عن كل واحدة منهن رقبة) قال يا رسول الله إني صاحب إبل قال (فانحر عن كل واحدة منهن بدنة)
وأما قتل البنين فكان يرجع إلى أسباب ثلاثة
أولها: استجابة لوساوس الشياطين فكما زينت الشياطين لهؤلاء القوم أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا كذلك زينت لهم الشياطين قتل الأولاد خشية الإملاق وزينت لهم وأد البنات خشية العار قال الله تعالى {﴿ وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا۟ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۖ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾}
وأما السبب الثاني لقتل البنين فهو (خوف الفقر وتوقعا له ) وقد قطع الله تعالى عليهم هذه العلة ببيان أن الله هو الذي خلق وهو الذي يرزق الولد والوالد من فضله فقال {﴿ وَلَا تَقْتُلُوٓا۟ أَوْلَٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَٰقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْـًٔا كَبِيرًا ﴾}
وثالث الأسباب فرارا من النفقة عليهم بسبب ضيق الحال وقلة ذات اليد {﴿ وَلَا تَقْتُلُوٓا۟ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ ﴾}
قال الفخر الرازي رحمه الله تعالى عند تفسيره لهذه الآيات: إن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر، فهو سوء ظن بالله وهذا (ضد التعظيم لأمر الله- تعالى- ) وسوء الظن هذا مذموم.. وإن كان قتلهم لأجل الغيرة على البنات فهو سعى في تخريب العالم، وهو (ضد الشفقة على خلق الله)، وهذا أيضا مذموم •
أما عن نظرة الإسلام إلى البنين والبنات:
فنظرته إليهم على أنهم ثمار قلوبنا ونور أبصارنا، وفلذات أكبادنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة..
نظرة الإسلام إلى البنين والبنات:
على أنهم ودائع وأمانات يلزمنا حفظهم، ننظر إليهم نظرة إقرار بالنعمة وشكر للمنعم، فتكلم الإسلام أول ما تكلم عن أن البنين والبنات هبة من أجل الهبات ونعمة من أجل النعم { ﴿ لِّلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ ﴾﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَٰثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾}
نظرة الإسلام إلى البنين والبنات أنهم نعمة يرزقنا الله تعالى بها من غير حول منا ولا قوة..
نعمة تستوجب الشكر لا تستوجب الحجود نعمة تستوجب العرفان لا تستوجب الكفران {﴿ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ ۚ أَفَبِٱلْبَٰطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾}
ثم إن الإسلام حرم كل صور العدوان على نعمة البنين والبنات بأي صورة من العدوان سواء بالإضاعة أو بالإهمال أو بالعبث الذي كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام قال الله تعالى { ﴿ وَلَا تَقْتُلُوٓا۟ أَوْلَٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَٰقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْـًٔا كَبِيرًا ﴾}
حتى دعوة الوالد على الولد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأن دعوة الوالد تلحق الولد وتستجاب فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ » )
نسأل الله العظيم أن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث عن أعظم الهبات نعمة البنين والبنات بقي لنا أن نقول:
إن صاحب كل نعمة مسئول عن النعم التي بين يديه يوم القيامة حتى ورد أن الإنسان يسئل عن الماء البارد على الظمأ..
ومن بين النعم التي سيحضر عنها السؤال يوم القيامة نعمة البنين والبنات..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( «إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته» )
الإسلام يوجه إلى حفظ الأمانة في البنين والبنات، الإسلام يوجه إلى حفظ حقوقهم وإلى ضرورة الإحسان إلى البنين والبنات قبل أن يروا الحياة الدنيا..
نحسن اختيار الأمهات، ونحسن أيضا اختيار الآباء، نحسن اختيار الأسماء، نربيهم على مائدة القرآن الكريم، والمحبة والخشية والسمع والطاعة لله رب العالمين..
قال النبي عليه الصلاة والسلام ( «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» )
من حفظ الأمانة في نعمة البنين والبنات أن ندعوا لهم بالهداية والتوفيق والنجاح والفلاح، نصاحبهم ننصح لهم، نسلم عليهم، نقبلهم، نمسح رؤوسهم، نتعاهدهم بالرأفة والرحمة فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ( «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» )
حمل رسول الله حفيدا له بين يديه وقبله فتعجب أعرابي كان بصحبته وقال يا رسول الله أتقبلون صبيانكم؟!
والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم!!
فقال النبي عليه الصلاة والسلام وهل أملك أن يكون الله قد نزع الرحمة من قلبك؟
من حفظ الأمانة في نعمة البنين والبنات أن نعلمهم أن نؤدبهم، أن نهذبهم، أن نربيهم على المكارم والفضائل، أن نزرع في نفوسهم ونعلق قلوبهم بمحبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال رسول الله لابن عمه يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك..
وفي الختام:
إن القرآن الكريم تكلم عن أن الأولاد يعيشون في نعمة ويحفظهم الله تعالى ويحرسهم بعينه التي لا تنام إذا كان الوالد صالحا.. فصلاح الآباء ينفع الأبناء في حياة الآباء وبعد مماتهم قال الله تعالى {﴿ وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا۟ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا خَافُوا۟ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُوا۟ قَوْلًا سَدِيدًا ﴾}
وقال في سورة الكهف {وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُۥ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُۥ عَنْ أَمْرِي}
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوال أزواجنا، وأحوال أبناءنا وبناتنا.. اللهم آمين.
محمد سيد حسين عبد الواحد
إمام وخطيب ومدرس أول.
- التصنيف: