الإلحاد وإيقاف الزمن
عاد أبو الإلحاد مساء وصدره يكاد ينفجر من الغم، شرب حبوبا مهدئة واستلقى في فراشه كأنه جذع أجوف، نظر إلى السقف فخيل إليه أنه يكاد يسقط عليه. أحس بسيل من الهواجس يهجم عليه، فقام إلى الحمام وشرع يمسح وجهه بالماء لعله يطفئ الحرارة التي تنبعث من رأسه، نظر إلى وجهه في المرآة يتأمل تعاسته ويتملى في ذمامته، خيل إليه أنه قبطان تائه كسرت العواصف العاتية دفة مركبه، فغدا قطعة خشب تتقاذفها أمواج المحيط، نظر إلى وجهه طويلا كأنه يتساءل: "من هذا المخلوق الغريب؟" نظر إلى عينيه فبدا كأنهما تنظران إلى داخله، وقد أحاطت بهما دوائر دقيقة بدأت تشق طريقها على تضاريس وجهه الكالح، يبدو أن الطبيعة ستحيل هذا الإهاب السهل المنبسط صحراء جرداء تشقها الأخاديد والوديان، تأمل التجاعيد على جبينه فخمن أنها خطوط لغة لم يتعلم قراءة حروفها بعد، إنها لغة الزمن، إنه اللغز الأكبر، إنه هناك في مكان ما، يستخف بغرورك، ويضحك من غفلتك.
تنهد بعمق وهم أن يستدير حين رأى شيئا يشرق في سواد حاجبه الأيسر. اقترب حتى كاد أنفه يلامس المرآة، فتكدرت صفحتها ببخار نفسه، ثم رآها هناك وحيدة فريدة تنطق دونما لسان، إنها شعرة بيضاء متمردة تتوسط حاجبه في تحد. قطب جبينه في قلق واستغراب، وقال يحدث نفسه: "لقد ابيض مني آخر ما يبيض من بني البشر! هل بلغت الثمانين حتى يبيض حاجباي؟ لا بد أني أسرفت في التفكير وبالغت في إرخاء العنان للهموم والأحزان، يجب أن أجد حلا عاجلا لهذه الورطة."
بدأ يتتبع الشعرة المرعبة ليلتقطها بإبهامه وسبابته، وكلما ظن أنه أمسك بها انسلت من بين أظفاره كأنها تشعر بما يراد بها، خيل إليه أنها تضحك منه، لكن الداروينية علمته ألا يستسلم بسهولة، ظلت عيناه متسمرتين على صورته الكئيبة وسحنته الكالحة، ولمح قطرة عرق تنزلق من جبينه، ثم ظفر بالشعرة أخيرا فجبذها جبذة ظن أن عينه ستنخلع لها. أحس بألم شديد سرعان ما نسيه حين رأى الشعرة المتطفلة بين أنامله. إنها رسول الزمن إليه، إنه عدوه اللدود، إنه يهزأ من إلحاده، إنه خصم عنيد لا يبعأ بسفسطته ولا يلقي بالا إلى جداله، إنه عدو رهيب صامت، يدفعه دفعا إلى حافة العالم، يدفعه إلى عدو آخر أشد منه وأنكى، يدفعه إلى الموت، إنه الزمن فهل يستطيع أحد إيقافه؟
أحس أبو الإلحاد بحقارته، لقد كان في العشرين حين انسلخ من الدين، كان يصرخ في المنتديات: "إلي أيها المتدينون، أنا أبو الإلحاد، أنا قاهر الخرافة، أتحدى كبيركم وأفحم عالمكم" كان طبلا كبيرا فارغا، وكان لفظا فضفاضا بلا معنى، وهاهو يشارف الأربعين وكل ما يعلمه أنه لا يعلم شيئا، وهاهو الزمن (المعلم الأكبر) يلقنه أقسى درس في حياته، وينذره بدنو انقضاء أيامه، إن الشعرة البيضاء سفيره الوقور، لقد استوعب أبو الإلحاد الدرس جيدا، لكنه يرفض أن يستسلم بسهولة لهذا الخصم الخفي. وأي شيء يكون الزمن؟ أهو شيء له حقيقة أم أنه وهم كبير؟ كيف له أن يفسر الزمن وهو لا يؤمن بشيء خلا المادة؟ لكن الزمن خصم لا يسعه إنكاره، إنه ينحت في عقله وفي كل بقعة من جسمه معاني الفناء، لكنه لا يكاد يجد الكلمات المناسبة لوصفه. إنه ظاهر إلى درجة الخفاء.
عاد أبو الإلحاد إلى فراشه وقد استولت عليه الهموم وصار يتنهد وينفث أنفاسا حارة كأنه محموم. ومن مكان ما من أعماق نفسه المتحيرة نبت سؤال جعله يجلس على حافة سريره متفكرا متأملا. تساءل: "هل من سبيل إلى إيقاف الزمن؟ لا بد أن هذا هو مفتاح اللغز" وصار هذا الخاطر يكبر في نفسه شيئا فشيئا حتى قال كأنه يخاطب نفسه: "شيء ينقص منك في كل لحظة، ويفنيك في كل نفس، وينقلك مرحلة مرحلة، حتى يفضي بك إلى آخر الرحلة، فيسلمك للموت، كأنك تركبه، وهو يمضي يشق طريقه، تقاومه بلا جدوى، إنه أشبه شيء بقطار يقطع الأرض من أدناها إلى اقصاها، ويحمل الناس من بلد إلى بلد ومن سهل إلى جبل، وليس بينهم وبين التخلص من هذا التنقل الدائم إلا النزول من هذا المركب السيار، لذا تراهم يسارعون بالهبوط كلما وصلوا إلى محطة، يحاذرون أن توصد دونهم الأبواب فتبدأ قافلة الحديد تقطع الأرض من جديد. نعم إن الزمن مركب لا نعلم له لونا ولا طعما ولا رائحة، ولا نعلم له شكلا ولا صورة، لكنه مركب لا شك. فكل ما ينبغي لمحب البقاء وعاشق الحياة فعله أن يفارق متن هذا المركب الذي يفضي به آخر الرحلة إلى الموت."
توقف صاحبنا قليلا، وهو يقلب أفكاره ويشعر أنه أمسك بالخيط السحري الذي تقف الحياة الأبدية على جانبه الآخر وهمهم: "ترى هل عرض فلاسفة التنوير لمثل هذه المسألة العميقة؟ لا بد أنهم فعلوا، فهذا أمر بديهي، إذا لم تستطع إيقاف الزمن فلا اقل من أن تفارقه، لكن كيف؟" أخفى وجهه بين كفيه وخطر له أن مفارقة الزمن تعني الموت، فاكفهر وجهه، وأحس أنه يدور في حلقة مفرغة، وأنه ذرة حقيرة بين فكي رحى تطحنه طحنا، يديرها الزمن، ويخرج منها ميتا. لكن كيف له أن يخرج من هذه الرحى القاتلة قبل فوات الأوان؟ إنه يؤمن بالعلم ولا شيء غير العلم، لقد قطع العلم بالجنس البشري أشواطا هائلة، فهل يعجز عن إتمام فتوحاته بالانتصار الحاسم على هذه الدوامة التي تمحق الحياة محقا وتنتزع الناس من نعيم الدنيا انتزاعا؟ كلا، إننا في عصر الذرة وغزو الفضاء، في عصر الاستنساخ والخلايا الجذعية، إننا في عصر التكنولوجيا، ولا بد أن يكون هناك حل لهذه المعضلة العويصة، إذا كانت المخلوقات أحادية الخلية قد تطورت عبر الزمن في صبر ومثابرة حتى وهبتنا هذه الأنواع المذهلة وهذه الكائنات المدهشة التي تملأ الكوكب الأزرق، أفنعجز نحن عن حل لغز الزمن؟ تخيل أبو الإلحاد أن العلم سيكتشف يوما ما حقيقة بعد الزمن، فلا بد أن هذا الزمن يوجد بصورة ما في عالمنا، لا بد أنه يحيط بنا كما تحيط الشرنقة بالفراشة، وأول خطوة لنهزمه أن نكشف عن موطنه فنراه ونلمسه، يجب أن نضع أيدينا على جدار الزمن الذي يحيط بالجنس البشري، فإذا فعلنا فحينذاك يمكن أن نصنع آلة الزمن.
على وقع هذه الأفكار الفلسفية المضنية بدأ النوم يدب في أوصال صاحبنا فاستسلم لنوم عميق سرعان ما حمله إلى مملكة الأحلام. رأى أبو الإلحاد نفسه وقد ركب الآلة العجيبة، وأحاطت به قوقعة زجاجية فبدا كأنه من الصدفيات، ورأى أمامه لوحة إلكترونية عليها أرقام كثيرة، لكن الذي استوقفه هو (لوحة التاريخ)، وأمامها (زر التثبيت)، خمن أن هذا هو أهم شيء في الآلة السحرية، يجب أن يختار تاريخا معينا ليحيا فيه، فإذا قام بتثبيته انتقل إلى الفترة المبرمجة، فيستقر فيها ويتوقف الزمن. هذه فرصته ليتغلب على الخصم العنيد، هذه فرصته ليقهر الزمن، هذه فرصته ليخدع الموت، هذه تذكرته لعالم الخلود، شرع يحدث نفسه:
"هيا يا أبا الإلحاد لا مجال للتردد، فأنت لا تدري ما الذي يعرض لك، ربما تتعطل الآلة، وربما يكون بالخارج طابور طويل مثل طابور المواصلات العامة، فلا بد لي أن أحسم أمري وأن أسرع..."
وبالفعل خيل له أنه يسمع جلبة وقرعا على باب الآلة، وأن أحدهم يقول له متوعدا: "بقيت لك دقيقة واحدة إما أن ترحل أو ننزلك بالقوة." عندها تذكر أبو الإلحاد أنه كان سعيدا في طفولته، أو هكذا خيل إليه، فخطر له أن يختار يوما من أيام إحدى سنوات الثمانينات، شرع يعد بأصابعه ليتأكد كم كان سنه حينها، لكنه سمع القرع مرة أخرى، حينها أحس بالارتباك الشديد، فشرع ينقر الأزرار، فنقر يوم الاربعاء الثامن من سنة 1982 ونظر إلى زر إضافي رسمت عليه الساعات والدقائق، وقد كتب بجنبه بالخط العريض (اختياري)، لكنه لم ينتبه فنقر الأزرار فارتسمت أمام التاريخ الذي اختاره الساعة الثامنة والنصف صباحا. ثم سمع النقر وخيل إليه أن أحدهم يسعى لفتح باب المركبة فضغط (زر السفر عبر الزمن) فلم يشعر بنفسه إلا وهو صبي جائع في العاشرة يلج باب المدرسة وهو يلهث، والخوف ينهش فؤاده، فقد تأخر عن موعد الدرس مرة أخرى، ولم يتح له حتى أن يتناول كوبا من الشاي وقطعة من الخبز، لقد تأخر نصف ساعة كاملة، زملاؤه الآن في الفصل، إنه يجري ويتصبب عرقا، ويتمنى أن يكون الناظر المرعب قد نام هو الآخر هذا الصباح، ولم تكد هذه الأمنية تداعب خياله الصغير حتى أحس بصفعة مدوية على خده، وشعر كأن نارا تضرّم على وجهه، ثم أمسك الناظر بأذنه يجره ويقول:
"أيها البليد تأخرت مرة أخرى، متى تتعلم احترام مواعيد المدرسة؟" وقبل أن ينبس ببنت شفة، رأى نفسه مرة أخرى بباب المدرسة يلهث ويأمل أن يمر دون أن يشعر به أحد، ثم جاءت الصفعة، وأحس بيد قوية تجذب أذنه، ثم سمع الكلمات ذاتها، فعلم أبو الإلحاد أنه صار سجين لحظة من الزمن الغابر، بعدما كان سجين زمن رحب يولد في كل لحظة، فكان كلما وصل إلى باب المدرسة يكاد يمد وجهه يترقب الصفعة و يمد أذنه لعل ذلك يكون أخف لألمه، وما زالت اللحظة القاسية تتكرر حتى صار يتمنى الموت كي ينجو من هذا الفخ القاتل، والمصيبة أنه لم يستطع أن يقول شيئا، لم يستطع أن يقول مثلا:
"سيدي الناظر، لقد مضى عليك دهر وأنت تصفعني، فتوقف أرجوك"
لم يقدر على شيء من ذلك لأن آلة الزمن ألقته في حفرة زمنية اسمها الدقيقة الثلاثون بعد الساعة الثامنة من صباح ذلك اليوم البعيد.
أراد الطفل الذي كانه أبو الإلحاد أن يفعل شيئا فلم يستطع، فإن آلة الزمن لا تهبك إلى تذكرة ذهاب واحدة بلا إياب، تقلب في فراشه وهو يتأوه، ولم يزل يتقلب والناظر يصفعه ويوبخه، حتى سقط من فراشه على وجهه فأفاق من حلمه و فرح فرحا شديدا، لقد سره أنه خرج من تلك الدقيقة الرهيبة، وأنه عاد إلى ضيافة الزمن الواسع الذي كان يسعى جهده أن يفر من قبضته، لكم يتمنى الآن لو يلقى هذا الزمن الحكيم ليشكره على إبداعه وتنوع ألوانه وأشكاله، لولا أنه ما زال لا يعرف له أرضا ولا عنوانا، لكن لأمر ما أحس بوجهه يؤلمه، فقام إلى الحمام، فشرع يغسل وجهه بالماء البارد، ثم نظر إلى خده الأيمن فوجده محمرا، فلم يدر هل أصابه ذلك عند ارتطامه بالأرض، أم أن ذلك الناظر الغليظ كان يصفعه بالفعل طوال ليلته؟
__________________________________________________
الكاتب: هشام البوزيدي
- التصنيف: