نعمة البصر وحفظها

منذ 2023-07-22

فالعاقل الحصيف يقدر نعمة البصر قدرها، وينظر حال من حُرمها، ويسخرها فيما يرضي المنعم بها، ويحذر سخطه جل وعلا إن سخرها فيما يُغضبه فربما عاجل العبد بزوالها مع الحساب يوم الدين.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإنَّ مِن أجَلِّ نِعَمِ الله تعالى على الإنسانِ التي تستوجب الشكر: نعمة البصر، قال الله تعالى:  {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}  [الإسراء: 23]، وقال تعالى في معرض تذكير العبد بنعمه عليه:  {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ}  [البلد: 8]، فبهما يرى ما حوله، ويُميِّز الأشياء، ويعرف الأحجام والألوان، وبهما يتفكَّر في خلق الله تعالى وما بثَّه في هذا الكون من آيات دالة على وحدانيته جل وعلا وعظيم صنعه وغير ذلك من الفوائد العظيمة؛ ولذلك عَظُم ثَوابُ مَن ابتُلي بالعمى وصبَر، وابتَغى الأجرَ في ذلك واحتسب؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال اللهُ عزَّ وجلَّ: «إذا ابتليتُ عبدي بحبيبَتَيه -يريد عينَيه- ثم صبَر، عوَّضتُه الجنَّةَ»؛ (رواه البخاري).

 

ففي هذا الحَديثِ بُشرَى عَظيمةٌ بالجنة لكلِّ مُؤمنٍ ابتلاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ في بصَرِه واحتسب، وقد سمَّىالله تعالى العَينينِ بالمحبوبتينِ؛ لأنَّهما أحَبُّ أعضاءِ الإنسانِ إليه؛ لِمَا يَحصُلُ له بفَقْدِهما مِن الأسَفِ على فَواتِ رُؤيةِ ما يُريدُ رُؤيتَه في الدنيا مِن خيرٍ فيُسَرُّ به، أو شَرٍّ فيَجتنِبُه،وفي الحَديثِ حَثٌّ لِمن ابتُلِيَ بذَهابِ بَصَرِه أن يتلقَّى ذلك بالصَّبرِ والشُّكْرِ والاحتسابِ، ولِيَرضَ باختيارِ اللهِ تعالى له ذلك؛ ليحصُلَ على أفضَلِ العِوَضَينِ وأعظَمِ النِّعْمَتينِ، وهي الجنَّةُ، كما أنه متضمن بيان أن نعمة البصر من أجَلِّ نِعَم الله على العبد، وأنها محل للسؤال يوم الدين كما قال جل وعلا:  {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فهنيئًا لمن سخر بصره فيما يرضي الله تعالى، فكان شاهدًا له يوم الدين! ويا خسارة من سخره فيما يُغضب الله تعالى فكان شاهدًا عليه يوم الدين!

 

ومن تأمَّل البواعث على فعل المُحرَّمات وترك الواجبات، وجدها كثيرة لكن منأبرزها وأشدها أثرًا: اتباع الهوى، فإن الله تعالى لم يجعل للجنة سبيلًا غير مخالفته إلى الصراط المستقيم، ولم يجعل للنار طريقًا غير متابعته والصد عن سبيل المؤمنين، فقال جل وعلا:  {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}  [النازعات: 37 - 41]، فمن خالف هواه واتبع الهدى فقد أفلح في الدنيا والآخرة، وإن مما يُزيِّنه الهوى للعباد إطلاق البصر فيما حرَّم الله تعالى خاصةً في هذا الزمن الذي سهل فيه إطلاق البصر في المُحرَّمات وخاصةً النساء الأجنبيات عبر الوسائل الإعلامية المختلفة والتطبيقات المتعددة، وتساهل بعض النساء -هداهن الله- بالستر والعفاف، ولا شكَّ أن عواقب إطلاق البصر فيما حرَّم الله تعالى سيئة على العبد في الدارين، فمَنْ تدبَّر ذلك سعى لحفظه كما أمره ربُّه جل وعلا.

 

وهذه أشياء من الفوائد العظيمة المترتبة على حفظ البصر، ففي استحضارها إعانة بعد توفيق الله تعالى على تحقيق هذه الفضيلة والواجب:

الأول: أنه امتثال لأمر الله تعالى القائل:  {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}  [النور: 30]، ففي ذلك تحقيق للعبودية، وهي غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده، وسلامته عند السؤال عن هذه النعمة يوم الدين؛ كما قال تعالى:  {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] أحفظ أم ضيَّع؟

 

الثاني: أن في حفظ البصر تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق بصره دامت حسرته؛ ذلك أن أضَرَّ شيء على القلب إرسال البصر في كل شيء فيُرى ما يُعجبه ولا صبر له عنه، ولا يمكن الوصول إليه، وهذا غاية ألم العبد وعذابه، فإن النظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرّميّة فإنها إن لم تقتله جرحته.

 

الثالث: أن حفظ البصر عن الحرام يورث القلب نورًا وإشراقًا يظهر في الوجه والجوارح، وهذا من عاجل آثار الطاعة في الدنيا، كما أن إطلاق البصر في الحرام يُورثه ظلمة تظهر في الوجه والجوارح، وهذا عاجل آثار المعاصي في الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«النظرةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ من سهام إبليس، من تركه خوفًا من الله آتاه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه»؛ (رواه الحاكم).

 

الرابع: أن حفظ البصر عن الحرام يُورِث صحة الفراسة، قال أحد السلف: (مَنْ غَضَّ بصَرَه عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال لم تخطئ فراسته)، فمن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته.

 

الخامس: أن حفظ البصر عن الحرام يُورِث قوة القلب وشجاعته، فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، ففي الأثر: (إن الذي يُخالف هواه يفرق الشيطان من ظله)؛ ولهذا جعل الله تعالى ذلَّ القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها لمن آثر هواه على رِضا مولاه فأطلق بصره في الحرام.

 

السادس: أن حفظ البصر عن الحرام يُورِث القلب سرورًا وفرحًا وانشراحًا للاستجابة لأمر الله تعالى والسلامة من الإثم أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، كما قيل: (والله للذَّةُ العِفَّة أعظمُ من لذة الذنب) لحُسْن عاقبة الأولى وسوء عاقبة الأخرى.

 

السابع: أن حفظ البصر عن الحرام يُخلص القلب من أسر الشهوة، فإن الأسير هو أسيرُ شهوته وهواه، وهذا أشدُّ أنواع الذل والسفه والمهانة.

 

الثامن: أن حفظ البصر عن الحرام يسُدُّ عن العبد بابًا من أبواب عذاب الله تعالى وغضبه؛ ذلك أن من لم يستجب للأمر بغض البصر فأطلقه في الحرام، استحقَّ العذاب.

 

التاسع: أن حفظ البصر عن الحرام يقوِّي العقل ويزيده؛ ذلك أن إطلاق البصر في الحرام لا يحصل إلا من خِفَّة العقل وطيشه، وعدم ملاحظته للعواقب، فإن خاصية العقل هي ملاحظة العواقب، فمن لم يرع ذلك ويلاحظه فقد وقع في خفَّة العقل وطيشه.

 

العاشر: أنه يُخلص القلب من سُكر الشهوة، ورقدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يُوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة، ويُوقِع في سكرة العشق، ويصرف القلب عن التفكُّر في مصالحه والاشتغال بها.

 

الحادي عشر: أن فيه سلامة من تدليس الشيطان وكيده وتزيينه للقبيح وإظهاره بصورة الحسن، كما قال صلى الله عليه وسلم: «المرأةُ عورةٌ فإذا خرجتِ استشرفَها الشَّيطانُ»؛ رواه الترمذي، ومعنى استشرفها؛ أي: زيَّنها في الأنظار ليتبعها الرجال أنظارهم ولو كانت خلاف ذلك.

 

الثاني عشر: أن في حفظ البصر عن النظر للنساء الأجنبيات خاصةً وما يقُمن به من المبالغة في التجمُّل ووضع المساحيق المختلفة حتى يُرى الناظر لهن بأنهم جميلات ولسن كذلك- سلامةً من تبعات هذا النظر المحرم من الزهد في الزوجة أو النُّفْرة منها، وهذا مما يريده الشيطان الرجيم ويسعى إليه.

 

قال ابن الجوزي رحمه الله: (تأمَّلت أمرًا عجيبًا؛ وهو: انهيال الابتلاء على المؤمن وعرض صورة اللذَّات عليه مع قدرته على نيلها، وخصوصًا ما كان في غير كلفة، فقلت: سبحان الله ها هنا يبين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين، فإن اللذات لتعرض على المؤمن فمتى لقيها في صف حربه وقد تأخَّر عنه عسكر التدبُّر للعواقب هُزم، فكم شخص زلَّت قدمه فما ارتفعت بعدها، وكثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها قريبة، وهي تقدح في الأصول كإطلاق البصر استهانةً بتلك الخطيئة فيظنها صغيرة وهي عظيمة، فأهون ما يصنع ذلك بصاحبه أن يحطه من مرتبة المتميزين بين الناس، ويُسقطه من مقام رفعة القدر عند الحق، فاعرفوا عظمة الناهي، واحذروا من شررة تُستصغر فربما أحرقت بلدًا).

 

فالعاقل الحصيف يقدر نعمة البصر قدرها، وينظر حال من حُرمها، ويسخرها فيما يرضي المنعم بها، ويحذر سخطه جل وعلا إن سخرها فيما يُغضبه فربما عاجل العبد بزوالها مع الحساب يوم الدين.

 

اللهم طَهِّر أعيننا من النظر إلى الحرام، وارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ (مستفاد من كتاب الداء والدواء، وصيد الخاطر).

__________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف