اغتنام الأوقـات

منذ 2023-08-18

"المبذر في ماله الذي لا يحسن التصرف فيه يعتبر سفيهًا، ولكن التبذير بالوقت أشد سفهًا من التبذير بالمال"

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن وقت الإنسان خزائن أعماله، وحياته التي يعيشها في زمانه، إن اغتنمها غنم، وإن فرط فيها ندم، هي فرصة لا تتكرر، ولا يفوز فيها إلا من اجتهد وشمَّر.

 

الوقت أغلى من نفيس الجواهر، قال صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ الناسِ الصحَّةُ وَالْفَرَاغُ»؛ (رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه).

 

وقد جعل الله تعالى الليل والنهار مزرعة للآخرة، بالعمل الصالح، قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62 ].

 

ووبَّخ الله تعالى الذين أضاعوا أعمارهم ولم يعبدوا الله تعالى فيها، فقال سبحانه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37].

 

ويوم القيامة يكرم الله تعالى المؤمنين الذين عمَّروا أوقاتهم بطاعته، قال سبحانه: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].

 

وأقسم الله تعالى بالزمن وببعض الزمن في آيات؛ منها قول الله تعالى: {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1]، وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1، 2].

 

الوقت هو عمرنا، ونحن مسؤولون عن أعمارنا يوم القيامة، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( «لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيم أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ» )؛ (رواه الترمذي وصححه الألباني).

 

فهل أعددنا لهذا السؤال جوابًا؟

كم من أوقاتنا اليوم تضيع منا سدى، كم من أوقاتنا نصرفها لأجل الدنيا الفانية، ونبخل على أنفسنا أن نستغل أوقاتنا فيما يقرِّبنا من الله تعالى إلا مَن رَحِمَ الله.

 

فلنحرص على أوقاتنا، فإنا لم نخلق عبثًا، ولن نترك سدى، قال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].

 

وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36].

 

قال السعدي رحمه الله: أي: أيحسب الإنسان أن يترك معطلًا، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب؟ هذا حسبان باطل وظن بالله بغير ما يليق بحكمته؛ ا.هـ.

 

أيها الإخوة الكرام، لقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله يعرفون قيمة الوقت حق المعرفة، ولذا حذَّروا من تضييعه وحثوا على اغتنامه، وكانوا أشد الناس حرصًا عليه؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي".

 

وكتب عمر رضي الله عنه: القوة في العمل ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد،فإنكم إذا فعلتم ذلك تداركت عليكم الأعمال،فلم تدروا بأيها تأخذون، فأضعتم.

 

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "ابن آدم، إنما أنت أيام، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك، ابن آدم، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ ولدتك أمك".

 

وقال الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما،

 

وقال يحيى بن معاذ: "الليل طويل فلا تقصِّره بمنامك، والنهار نقي فلا تدنِّسه بآثامك".

 

وقال بعض السلف: "كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته".

 

وقال الحسن: "أدركت أقوامًا كان أحدهم أشحَّ على عمره منه على درهمه".

 

وقال مالك بن دينار: "إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما".

 

أيها الإخوة الكرام، إن الوقت يمضي لا محالة والوقت، إن لم يملأه الإنسان بالخير ملأه بالشر عياذًا بالله، أو ملأه بما لا خير فيه، وكم من الناس للأسف تضيع كثير من أوقاتهم في اللهو واللعب أو فيما لا نفع فيه، بل أحيانا فيما فيه ضرر، نسأل الله السلامة.

 

لكن أوقات سلفنا الصالح كانت عامرة بطاعة الله وفعل الخير، فقد كانوا أحرص الناس على أوقاتهم، ولو تأملت كيف كانوا يحرصون على أوقاتهم لتعجبت أشد العجب.

 

قال حماد بن سلمة: "ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عزَّ وجل فيها إلا وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئًا، أو عائدًا مريضًا، أو مشيعًا جنازة، أو قاعدًا في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله عز وجل".

 

وجاء في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الإمام أبي حاتم:
قال ابنه عنه: كان يأكل واقرأ عليه، ويمشي واقرأ عليه، ويدخل الخلاء واقرأ عليه!

 

وكان الإمام ابن عقيل رحمه الله لا يضيع ساعة من وقته: قال رحمه الله: لا يحل أن أضيع ساعة من عمري، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين.

 

وقال رحمه الله: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حالة راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره.

 

وقال رحمه الله: أنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه؛ (ذيل طبقات الحنابلة) 1/ 145.

 

وقد أثمر حرصه على الوقت علمًا غزيرًا، ومن ذلك تأليفه كتاب الفنون، أكبر كتاب في الدنيا يؤلفه فرد واحد، قال الحافظ الذهبي: لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتابإلى جانب تآليف كثيرة غيرها..

 

وكان ابن الجوزي رحمه الله يستغل وقت زيارة الناس له، يقول: أقمت أعمالًا لأوقات لقائهم؛ لئلا يمضي الزمان، فجعلت للقائهم، قص الورق وبري الأقلام وحزم الدفاتر!

 

أيها الإخوة الكرام، إن المبذر في ماله الذي لا يحسن التصرف فيه يعتبر سفيهًا، ولو أن الناس وجدوا رجلًا يرمي ماله لقالوا عنه مجنون، ولكن التبذير بالوقت أشد سفهًا من التبذير بالمال؛ لأن الوقت أغلى من المال، وما أكثر المبذرين بأوقاتهم، تجدهم يبحثون عما يقتلون به أوقاتهم، وفي الحقيقة أن هؤلاء إنما يقتلون حياتهم وينهونها دون فائدة.

 

قال الوزير الصالح يحيى بن هبيرة:

والوقتُ أنفسُ ما عُنِيتَ بحفظِه *** وأراهُ أسهلَ ما عَلَيْكَ يَضيعُ!

 

نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن استغلال الأوقات فيما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.