هشاشة الأسر

منذ 2023-09-07

إن المتهمَ الأوَّل إن لم يكنِ الوحيدَ في قطْع الأواصِر، وغيبةِ التوادُدِ - هو طغيانُ المصالحِ الخاصةِ، وطوفان الذاتية، والأثرة

كانتشار النار في الهشيم انتشر في عصرنا تفكُّكُ الأسر، وهشاشةُ روابطها، وضعُفت عُراها، وقد يلوم البعضُ وسائلَ الاتصال وثورتها، ويسميها بعكس اسمها، فيقول: "وسائل التفاصلِ لا التواصلِ"

ولتكن وقفة للحق: أهِيَ الجاني، ومِنْها نُعاني؟ أم إنَّه تشخيصٌ في عُجَالة، ورميٌ بجهالة؟ وهل يا تُرى لو سَرَت ما بيننا مياهُ المودةِ، ووجدنا ما بين أيدينا هاتفًا وحاسوبًا بواتسِه وفيبره، وفيسه وتويتره، أليست تكون وسائلَ لتحقيقِ غاياتِنا من زيادةِ المودة، ومتانة الروابط، لو كان لنا منها نصيب؟

أليست بتلك الوسائل يزيد منها الرصيد، ويصبح معها البعيدُ كأنَّه القريب، والقريبُ يصير كأنَّه لصيق لا يكاد يُفَارِق أو يَغيب؟ فهل بالفعل تلك الوسائل قطَّعت ما بيننا من أواصِر، فصارَ كلُّ فرد غارقًا في عالمٍ بشاشة زرقاءَ؟

وهل أصبحنا رغم الجوار غرباء؟ وماذا تكلِّفنا رسالة على واتس أو فيس، أو غيره؛ نجدد فيها المشاعر، ونقوِّي بها الروابط بين ابنٍ ووالديه، وإخوانه وأعمامه وأخواله وسائر أقربائه؟ ماذا تكلِّف من الوقت، وكم تستهلك من المال؟

أم أن الوصال لا يخطر على البال، ولا مَرَّ في الخيال؟ ولماذا بنفس الوسائل أنشأ الآخرون روابطَ قد تكون آثمة، لكنَّها قامت واسْتدامت إلى حين، بغضِّ النظر عن كونها روابطَ عاطفيةً فاسدة، أو غير جائزة؟

ولماذا نجح آخرون في إنشاء روابطَ تجاريةٍ مشروعة - أو حتى غير مشروعة - بنفس تلك الوسائل؟ أفنَعْجِز نحن عن استخدامها في تدعيم روابطنا الأسرية؟ التي أصابتها الهشاشةُ فلم يعدْ لها نفس القوة، التي كانت بالأمس تستعصي على الشياطين أن تمزِّق لها شملًا، أو تَفُتَّ في عضدها؟ لذا فلا بد لنا أن نُشَخِّص أسبابَ المرض، ونُزِيل كلَّ ألم وعَرَض؛ لتتعافى العلاقات الأسرية، وتصبح الرابطة المثالية.

 

إن سبب الداء، وأصلَ الوباءِ، هو (طوفان المآرب الشخصية)، والمصالح الذاتية الضيقة، وهذه المصالح الضيقة باتت كسيفٍ مسنون وسلاح بتَّار يُمْسك به شيطان، يمزِّق الروابط، ويفْرِي القلوب، ويقْتُل المشاعر بلا حساب، فماتَ الودادُ، وعاشَتْ تلك المصالح، وأيُّ الروابِط تصْمُد في مهبِّ ريحها، ونفخِ شيطانها؟

وأي مصلحة تُرجى إنْ تجَاهلت أمٌّ مصالحَ أولادِها من أجل إثباتِ ذاتٍ مزعومٍ في عملٍ مرموقٍ؟ فلا تعْبأ بأطفالٍ صغارٍ، أو حتى شباب؛ من أجل هذا العملِ، فيَفْقِدُ أبناؤُها الأمَلَ في حضنِ أمٍّ أو حِصْنِ أمٍّ، وماذا جَنَتْ من هذا العمل بعدَمَا عليْهِم جنَتْ؟ وهل تجاهلَتْ أنَّها الَّراعِيَة ومسؤولة عمَّن رَعَتْ؟ وأيُّ ثراءٍ يسْعَى إليْهِ أبٌ يُهْمِل من أجْلِه قيادَ السفينة لتَرْسُوَ بعد الضَّيَاع في القَاعِ؟ وبماذا يُغنيهِ بعدَها المالُ والجاهُ؟ وأينَ كلُّ راعٍ مسؤول عمن استرعاه الله؟ وأيُّ بِنَايَةٍ للسعادة يرفَعُها ابنٌ على أحْزَانِ أبَوَيْه؟ وهل تنَاسَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14]؟

 

إن المتهمَ الأوَّل إن لم يكنِ الوحيدَ في قطْع الأواصِر، وغيبةِ التوادُدِ - هو طغيانُ المصالحِ الخاصةِ، وطوفان الذاتية، والأثرة؛ فالبُغْضُ والتشاحن، والقتل والتناحر، والتقاطع والتدابر - ليس إلا مصالحَ متعاكسة، وذاتياتٍ متعارضة، ولن ينْفَضَّ هذا التشابكُ حتى نتخلَّق بخُلق الإيثار، الشعار الذي جمع بين المهاجرين والأنصار، في ملحمة الحب والألفة، التي لم يشهد التاريخ لها مثالًا، وهي فضل من الله كما قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]، فربط بين القلوب، وكان المسلم أخا المسلم؛ يحوطه من ورائه.

فهذا دواءُ هشاشةِ الأسَرِ وتفكك الروابط.

__________________________________________________
الكاتب: صفية محمود