وسائل معالجة مشكلة الفقر في الإسلام

منذ 2023-10-01

إن مشكلة الفقر من أهم المشاكل التي تواجه الإنسان، والتراث الفقهي يمتلئ بالكثير من المسائل حول مشكلة الفقر وما يرتبط بها؛ مثل: تعريف الفقر، وكيفية قياسه، وأهم مؤشراته، وكيفية مواجهته.

يقول أحد الحكماء: (من أراد النجاح في هذا العالم فعليه أن يتغلب على أسس الفقر الستة: النوم، التراخي، الخوف، الغضب، الكسل، المماطلة).

 

إن مشكلة الفقر من أهم المشاكل التي تواجه الإنسان، وقد أشار القرآن الكريم إليها في مواضع كثيرة، يقول الله تعالى في سورة قريش:  {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}  [قريش: 1 - 4].

 

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» ؛ (هذا الحديث يرويه سَلَمَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ -وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» ؛ (رواه البخاري في الأدب المفرد (رقم/300)، والترمذي في السنن (2346)، وقال: حسن غريب، وقال الشيخ الألباني رحمه الله بعد تخريجه الحديث عن جماعة من الصحابة: وبالجملة، فالحديث حسن إن شاء الله بمجموع حديثي الأنصاري وابن عمر، والله أعلم؛ انتهى، السلسلة الصحيحة (رقم/ 2318).

 

إن التراث الفقهي يمتلئ بالكثير من المسائل حول مشكلة الفقر وما يرتبط بها؛ مثل: تعريف الفقر، وكيفية قياسه، وأهم مؤشراته، وكيفية مواجهته.

 

تعريف مشكلة الفقر: تتعدد تعريفات الفقر حسب الدول، وحسب مستوى التقدم الاقتصادي، وهناك درجات للفقر، ومن هذه الأنواع الفقر المدقع؛ وهو الفقر في الغذاء؛ أي: إن الفقير لا يجد ما يسد رمقه، ويدل ذلك على انقطاع السُّبُل أمام الفقير.

 

وقد أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة أن يسأل الفقير الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مُدْقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مفظعٍ، أو لذي دمٍ مُوجعٍ» ؛ (أخرجه مسلم، باب من تحل له المسألة (2/ 722)، رقم: (1044).

 

وقد تناول فقهاء الإسلام هذه المشكلة منذ قرون طويلة خلت، ونشير هنا إلى أن جمهور المالكية والشافعية والحنابلة يقولون: إن معنى الفقر مرتبط بمستوى الكفاية، ومدى تلبية احتياجات الإنسان الأساسية؛ أي: بمستوى معيشة يوفر الضروريات.

 

جمود الدراسات الفقهية: الأسباب ومحاولة العلاج:

وقد دلَّت الآيات القرآنية على مشكلة الفقر، قال الله تعالى:  {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}  [الأنعام: 151]، وتدل الآية الكريمة على أن الفقر واقع في الوقت الحالي، ويقول سبحانه وتعالى:  {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}  [الإسراء: 31]؛ أي: إن الفقر غير موجود في الوقت الحالي، ويخشى من وقوعه مستقبلًا.

 

ومن أهم أسباب الفقر في الجانب العقائدي الانحراف عن الكسب الطيب، كما توضِّحه بعض الآيات الكريمة؛ مثل قول الله تعالى:  {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}  [الأعراف: 96]، كما أنه اختبار، يقول الله تعالى:  {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}  [البقرة: 155].

 

وسائل محاربة الفقر:

أولًا: الجانب العقائدي:

1- ينكر الإسلام النظرة الرأسمالية من أساسها، ويرى أن المال مال الله، والإنسان مستخلف فيه، يقول الله تعالى:  {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}  [الحديد: 7]، ويقول سبحانه وتعالى:  {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}  [النور: 33].

 

2- الإيمان بأن الله تعالى يملك خزائن الرزق، يقول الله عز وجل:  {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}  [الذاريات: 22، 23]، ويقول الله تعالى:  {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}  [طه: 6]، ويقول سبحانه وتعالى:  {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}  [هود: 6].

 

3- الدعاء والاستغفار من موجبات الرزق، يقول الله عز وجل:  {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}  [نوح: 10- 12]، ويقول سبحانه وتعالى:  {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}  [هود: 3]، وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفقر، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت» ؛ (وإسناد الحديث حسن، وصححه ابن حبان في صحيحه (3/ 303)، وابن خزيمة في صحيحه (1/ 367)، والحاكم في مستدركه (1/ 383)، والألباني في صحيح النسائي، وقوَّاه محققو مسند أحمد (34/ 17) وغيرهم).

 

وقد قرن صلى الله عليه وسلم الكفر بالفقر؛ حيث إن الفقر قد يسبب الكفر والعياذ بالله، إذا لم يقترن بإيمان قوي.

 

4- الإيمان بالله وتقواه سبحانه وتعالى، والالتزام بالمنهج الرباني في (افعل) و(لا تفعل) من موجبات الرزق، يقول الله تعالى:  {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}  [الأعراف: 96]، ويقول الله عز وجل:  {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}  [البقرة: 172].

 

ثانيًا: الأخذ بالأسباب:

1- يحدد المنهج الاقتصادي الإسلامي السياسات الاقتصادية والوسائل التي تعالج الفقر؛ وهي كالآتي: العمل الجاد والضرب في الأرض، والهجرة من مكان إلى مكان طلبًا للرزق الطيب، والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية التي سخَّرها الله تعالى للإنسان، والاقتصاد في النفقات، وتجنب الإسراف، والادِّخار والاستثمار.

 

2- كما يحدد الإسلام طرق تنمية المال، ولا يقر أي وسائل غير مشروعة؛ مثل: الربا، والغش، والقمار، والاحتكار، والاستقطاع من أجور العمال لكي يزيد الربح، كما لا يعترف بالنهب أو السرقة أو السلب بالإكراه كوسائل للتملُّك أو لتنمية المال.

 

3- إن للإسلام في إعادة توزيع الثروة سياسة حكيمة عادلة تتفوق على الأنظمة الغربية المالية في عصرنا الحالي، فمثلًا الإسلام يعد العمل هو الأساس والسبب الوحيد للكسب والملكية، سواء عمل الجسم أو الفكر، ويحرم الربا؛ لأن رأس المال في ذاته ليس سببًا من أسباب الكسب الصحيحة.

 

4- إن العلاقة وثيقة بين الفقر والبطالة، بل إن السعي في طلب الرزق من أهم وسائل علاج مشكلة الفقر، ومن وسائل الإسلام في زيادة التشغيل: الحث على العمل، والسير في الأرض، وتنمية العنصر البشري ذاته؛ مما يؤدي إلى تقليل التفاوت بين أفراد المجتمع.

 

5- تعتبر الزكاة، والصدقات الاختيارية، وكفالة الموسرين من الأقارب من أهم وسائل علاج مشكلة الفقر، وزكاة الأموال هي أداة لإعادة توزيع الدخل لصالح الفقراء، وهي ضريبة دائمة تؤخذ بنظام ثابت ما يعادل 2,5% إلى 5% من أصل الثروة كل عام.

 

وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى أرض اليمن وأمره أن يأخذ الزكاة من الأغنياء ويردها على فقرائهم.

 

إن أهم مشكلة يمكن من خلال الزكاة حلها؛ هي مشكلة التفاوت الاقتصادي الفاحش؛ حيث يعمل الإسلام على عدالة التوزيع، وتقارب الملكيات في المجتمع.

 

والزكاة أول تشريع مُنظَّم في سبيل الضمان الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة لصالح الفقراء، والدولة هي التي تجمع هذه الضريبة، وتتولى إنفاقها بنظام معين، وفي يد الدولة أيضًا أن تفرض ضرائبَ لكل وجه آخر (مثل: ضريبة للتعليم أو الصحة أو الضمان الاجتماعي..) تعجز الموازنة العامة عن الإنفاق عليه.

 

6- إن محاربة البطالة عن طريق الزكاة يسهم في عدالة توزيع الثروات؛ كما تسهم في حل مشكلة الفقر، وهنا نجد أن من يستحق الزكاة من العاطلين عن العمل، هم من في بطالة إجبارية وليس بطالة اختيارية، وقد تمت الإشارة إلى الفرق بينهما.

 

7- كما أن من حق الدولة نزع الملكيات، وأن تأخذ نسب معينة من الثروات تجد أنها ضرورية لحماية المجتمع من أزمات أو أوبئة أو أمراض.. وأي آفات في المجتمع، كل ذلك في سبيل تحقيق مستوى معيشة لائق لكل فرد في المجتمع الإسلامي.

 

8- لأن العلاقة وثيقة بين الفقر والقهر من جهة، وبينه وبين الجهل والمرض من ناحية أخرى؛ فإن محاربة الفقر تقع في مقدمة أولويات العمل الخيري في الممارسة الاجتماعية في الاجتماع السياسي الإسلامي، وتجلَّى ذلك بوضوح في نظام الوقف الإسلامي من قديم الزمن.

 

وشرع الزَّكاة، والصَّدقات، وجعلهما سببًا للقضاء على الفقر؛ بل جعل الزَّكاة من قبيل المشاركة الفعَّالة لأعضاء المجتمع في مجتمعاتهم، قال تعالى:  {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}  [التوبة: 103]، فأخذ الصَّدقة منهم يرد إليهم شعورهم بعضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة، فهم يشاركون في واجباتها، وينهضون بأعبائها، وهم لم ينبذوا منها، ولم ينبتوا عنها، وفي تطوُّعهم بهذه الصَّدقات تطهير لهم وتزكية.

 

وخلاصة القول: إنَّ الإسلام قد تطرَّق لمشكلة الفقر من البداية، وجعل مسئوليَّة القضاء على الفقر مسئوليَّة مشتركة بين الفرد والدَّولة، فعلى الفرد أن يسعى إلى إتقان العمل، وزيادة الإنتاج، وربط هذا بالعبادة.

 

وعلى الدَّولة أن تحرص على القضاء على الفقر بخلق فرص عمل للعاطلين، وتوفير الحياة الكريمة لغير القادرين، وَصَدَقَاتٍ جَارِيةٍ، ثِمَارُهَا مُسْتَمِرَّةٌ إلى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَهُوَ خَيْرُ الوَارِثِينَ.

 

اللهم فرِّج هَمَّ المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين، واقْضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِنا يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وسلم تسليمًا.

______________________________________________________
الكاتب: الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري