مصلحة التدين أم تدين المصلحة؟!
(قراءة شرعية في واقع كثير من المجتمعات مع قضية التدين)
الحمد لله وحده، وسمع الله لمن حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فأثناء مسيرة الإنسان في هذه الحياة لا ينفك -طوعاً أو كرهاً- عن مطالعة طبائع الناس، وطرائق الشعوب، وتعاملات الأمم بعضها مع بعض، غير أن الهم الذي يحتوي مجامع قلب كل مؤمن، حينما يشاهد ترهل حالة التدين داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وكذا في أقاليم إقامة الجاليات الإسلامية في الدول غير الإسلامية!
لقد صار كثير من الناس يتعاملون مع الدين لأجل مصالحهم الخاصة، وذلك لأن التدين عندهم عادةٌ لا عبادة، وعرفٌ وتقاليد لا عقيدة وشريعة، وتدين مصلحة فحسب، لا قياماً بواجب التدين ومصلحة القيام به!
لا جرم أن ما يدعو إليه كثير من الناس الآن في طبيعة تعاملهم مع التدين يخالف تماماً ما كان يدعو إليه وينصاع له جيل الرعيل الأول من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين تشرفوا بالقرآن المنزل في وقتهم، فلم يكن هذا الدين عندهم إلا على حالته التي عُرف بها: (الدين المنزل)، بعيداً عن أن يكون من قبيل المبدل أو المؤول، ولهذا نرقب حالة سماع الصحابة للوحي، فلا تنطق ألسنتهم إلا بقولهم: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285].
إن من فهم حقيقة الإسلام يعلم أن هذا الدين تكمن روعته في حيويته، وطلاوته في فهم معاني آياته، وسعادة أمة الإسلام بالتزام ما أنزله الله تعالى على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ لو أن كل شخص أخذ من الدين ما يشتهيه قلبه، وتهواه نفسه؛ لما شعر بطعم التدين الحقيقي الذي يشعر به كل من تمسك بأهداب الدين، حيث يشعر بطعم الإيمان وحلاوته التي لا يعرفها إلا من ذاقها بروحه ونفسه!
• تقرير وتنوير:
لقد قرر علماء الإسلام أن كل خير للعباد يكمن بطاعة الله عز وجل، وكل شر فإنه يجتمع حول معصيته سبحانه وتعالى.
إن شرائع الإسلام لم تشرع إلا لإسعاد البشرية؛ ليستشعروا أثناء تطبيقهم لها سرور أنفسهم وحبورها، ومتعة حياتهم وهناءها، وأن من أعرض عن ذكر الرحمن؛ فالشيطان قرينه.
قال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} [الزخرف: 36، 37].
ومن خالف شرعة الإسلام فسيكون في حياة صعبة، ونفسية تعيسة ملازمة له.
فقد قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 124، 126].
إذا علم هذا، فالمؤمن لا يعيش في هذه الحياة إلا ببسمة الإيمان، وتذوقه لحلاوة عبادة الإحسان، وتزكية قلبه بمطالعة القرآن، ومشاهدة بديع الأكوان، ويرى أن قيامه بهذه العبادة سبيل سعادته، وأن إعراضه عنها سبب ضلاله وشقائه، وأن كل خير فيما شرعه الله تعالى، وكل شر فيما حذر منه رسوله -صلى الله عليه وسلم- فالمصلحة كل المصلحة للنفس البشرية كامنة في شريعة الإسلام.
• شريعة الإسلام يقوم أساسها على المصلحة:
إن هذه الشريعة اعتبرت المصلحة بجوهرها المقاصدي، ولم تهمل مصالح العباد في الدارين، فليست المصلحة الحقيقية للنفس البشرية خارجة عن مدارك المنظور الإسلامي، فلقد جاءت الشريعة بكل مصلحة لنا، وأبعدتنا عن كل مفسدة قد تضرنا، حتى لو كان في المفسدة جلب مصلحة؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
يقول الإمام الغزالي: "أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة؛ ولسنا نعني بها ذلك؛ فإن جلب المنفعة أو دفع المضرة مقاصد الخلق؛ وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع" (1).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والقول الجامع: أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة" (2).
ويقول الإمام ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل" (3).
وقال الإمام الشاطبي: "المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد، فالتكليف كله، إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معاً" (4).
هذا نزر يسير مما سطره عدد من مشاهير علماء الإسلام؛ كالغزالي، وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، حيال هذه القضية التي أوضحت كمال هذا الدين، وأنه دين أتى للبشرية بكل ما يسعدها من مصالحهم التي قد ارتضاها لهم الله تبارك وتعالى، فكل ما جاء في شرعته فهو خير ومصلحة للعباد في الدارين.
إذا علم العبد أن الشريعة لن تقدم له إلا كل نافع ومصلحة، ولن تبعد عنه إلا كل ضار له ومفسدة، وأن لهذه الشريعة الإسلامية مقاصد سامية، وأسراراً بديعة -فإنه سيدرك عظمتها وروعتها، لكن للخطر المنهجي في طريقة التصور والاستدلال- ظن بعض الأشخاص أن مصلحتهم تكمن في اختياراتهم النفسية ورغباتهم الشخصية، ولربما رأى أحدهم الخير في ارتكاب ما يظنه مصلحة؛ مسوغاً ذلك بأنه: قضية خيرية، وضرورة شرعية، لكنها في حقيقة أمرها لا تنفصل عن أن تكون مفسدة كبرى في حقه، ولربما يخالف نصوص الشرع بحجة المصلحة؛ فيقع في المفسدة الكبرى، وهي: مخالفة شريعة رب العالمين، مع أنه سبحانه وتعالى يعلم سر المصلحة فهو القائل: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14]، ويقول عز من قائل: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، وذلك لأن: "المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له؛ فقد يكون ساعياً في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلاً لا آجلاً، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربو في الموازنة على المصلحة؛ فلا يقوم خيرها بشرها"؛ كما يقول الإمام الشاطبي (5).
• نماذج من طرائق الناس في تدين المصلحة:
لن أجعل ما هو مكتوب في هذه الورقة مجرد خيال أسبح به في الفضاء، دونما نظر في الواقع المعيش، فإن المشكل حقاً أن كثيراً من الناس حينما يتعاملون مع نصوص الشريعة فإنهم يتعاملون فيها بحسب أهوائهم ومصالحهم الشخصية، ولنضرب على ذلك أمثلة، فلعله يتضح المقال بذكرها:
هنالك من يتعامل مع قضية الميراث بمبدأ: (حيثما كانت مصلحتي فثم ديني)، فتراه يحرم بعض قريباته من الميراث؛ بحجة أن المرأة هنالك من يعولها وينفق عليها، وأنها لا تعمل، وأنها أقل قدراً من الرجال ... إلى غير ذلك من الأقوال التي تلقى على عواهنها!
قبالة ذلك لو أن زوجته حرمت الميراث أو أن زوج ابنته مات، وحرمها أهلها من الميراث لانقلب الحال رأساً على عقب، وبدأ ينادي بتحكيم شريعة الإسلام، وهو نفسه قد حارب إعطاء المرأة ميراثها، ولم يعط لأخواته حقهن من الميراث، مع أنه كان يذكر بالآيات القرآنية، ومع هذا يكون حاله كما قال تعالى: {ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً} [لقمان: 7]، ويتحجج بأن عاداتهم وتقاليدهم ورسومهم وأعرافهم لا تعطي المرأة ميراثها!
وبهذا نستذكر قول الحق تبارك وتعالى في سورة النور: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} [النور: 48 - 51].
كثير من طلبة المدارس والجامعات لا يصلون الصلوات الخمس في المسجد، وبعضهم قد لا يصليها أصلاً، فإذا جاءت الاختبارات النهائية أقبلوا إلى المساجد يصلون فيها ركعاً سجداً، وعلى رأسها صلاة الفجر، وحالما تنتهي الاختبارات يودعون هذه المساجد إلى غير رجعة! أو لربما يعيدون الكرة فيها إن كانت هنالك اختبارات قادمة في الجامعة، وقليل منهم من يرتبط بالمسجد بعدما يذوق حلاوة الطاعة فيه!
والطالب يعلم أنه قد قدم لهذا المسجد لكي يدعو ربه جل جلاله ويتقرب إليه بالعبادة، لكنه حينما ينال الشهادة، يرجع كأن شيئاً لم يكن، وقد كان يعلم أنه ما أتى المسجد إلا لسؤال ربه مصلحته؛ لكي ينجح في اختباراته!
وقت كتابتي لهذه الورقة تذكرت شخصاً كنت أعرفه بملازمته للصلاة في المسجد عدة سنوات، حتى إنه كان يحضر للمسجد قبل الأذان، وكنت أعلم أنه (عاطل عن العمل)، وحينما كان يسأله بعض المصلين كان يشكو لهم حالته؛ فيقوم أحدهم بإعطائه ما تيسر معه من المال، وحينما من الله عليه بالعمل كمراقب على عمال يقومون ببناء عمارة قرب المسجد؛ هجر الصلاة في المسجد ولم يعد يأتيه إلا نادراً، مع أنه بإمكانه الذهاب إليه! ولربما نصحته فيبدأ يتعلل ويتعذر بأعذار واهية، فقلت في نفسي: ما أسوأ من يتعلق بربه عندما يريد مصلحة منه، وينساه حينما تتحقق تلك المصلحة!
ما أشبه هذا بقوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11].
نعوذ بالله أن نكون ممن قال تعالى فيهم: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} [لقمان: 32].
كثير من الناس لا يلجؤون إلى الله بالدعاء إلا في وقت الشدة، وينسون دعاءه وقت الرخاء، ولربما حينما كانوا يذكرون بالدعاء وقت الرخاء لا يأبهون بمن كان يتحدث إليهم في ذلك، ومع هذا فإنهم يلحون على الله بالدعاء وينادونه: (يارب، يارب) لكن مطعمهم حرام، ومشربهم حرام، وغذوا بالحرام، وحين يرون أن الله لا يستجيب دعواتهم، يسألون مستنكرين: ندعو الله، فلا يستجيب لنا، فلماذا؟!
ولعلهم يظنون أن الله تعالى كان غافلاً عما يعملون ويفعلون في حقه، حينما كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل، ويعيثون في الأرض فساداً، ويشربون الحرام، وقد يكونون على متن الطائرة التي تحلق بهم في الأجواء وهم في لهوهم وعبثهم يرتعون!
هؤلاء يذكرونني بقول الإمام أيوب السختياني: "يخادعون الله، كأنما يخادعون الصبيان، ولو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون علي" (6).
إن من يتعامل مع الله تعالى على مبدأ: (سأفعل لك حتى تفعل لي)! ولو لم ينطق بها لسانه ففعله أشد وأنكى! فإنه لم يقدر الله تعالى حق قدره، ولم يعلم أن الله تعالى غني عنه وعن عبادته، بل نحن الفقراء إليه سبحانه، المحتاجون إليه في السر والعلانية، والسراء والضراء.
وبتأمل شخصي في حال هؤلاء: فإنهم في الغالب يتعاملون مع الناس بمثل هذه الطريقة، فيتقربون إليهم ويتوددون لأجل مصالحهم الشخصية، فما أن تنتهي مصلحتهم حتى يقلبوا لهم ظهر المجن، أو لا يعرفونهم، ويظن هؤلاء الأغبياء أنهم وإن استطاعوا فعل ذلك مع الناس، فكأنهم يستطيعون فعل ذلك مع رب الناس، وهو المطلع على خفاياهم!
ونسوا أن الله تعالى يعلم ما تضمره القلوب وما تخفيه الأنفس، والإنسان كذلك يعلم عن نفسه مرادها، ويدرك سبب فعله لمرضاة ربه وإحجامه عن طاعة ربه، حتى لو أقسم الأيمان المغلظة، فهو يدرك حقيقة الأمر؛ كما قال تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره} [القيامة: 14، 15].
والنص الشرعي يوضح لنا هذه الخاصية المهمة في علاقة العبد بربه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (أخرجه مسلم).
عن جابر رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: «قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه» (متفق عليه).
إن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهود بأن يقاتلها الله، ليست كدعوة أي أحد؛ فهو رسول الله، وأن يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يتولى قتال يهود لهو -وربي- أمر خطير للغاية، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أسباب الدعاء على يهود: تحايلهم على الأوامر الشرعية، فحينما حرم الله تعالى عليهم شحوم الميتة أذابوها ثم باعوها زيتاً، فأكلوا ثمنها!
والمحرم يبقى محرماً لكن القلوب المستوحشة من طاعة الرحمن؛ لن تكون إلا مأوى لوساوس الشيطان؛ حيث يلعب بعقولهم، ويقرقر في آذانهم، ويوسوس في خلجات صدورهم؛ فيستجيبون له طائعين بالقيام بهذه الحيلة الخبيثة.
لهذا يحذر الإمام ابن قيم الجوزية من التوثب على محارم الله باسم الحيل، فيقول: "فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن لله يوماً تبلى فيه السرائر، ويحصل ما في الصدور، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون" (7).
إن حيل الناس في هذه الأزمنة كثيرة جداً؛ فمنهم المتلاعبون بأموالهم بطرق قد لا تخطر على البال؛ ويعتقدون أنهم بمثل هذه الأساليب محترفون في العمل المالي، ومتميزون بتحايلهم، وقد يجلس أحدهم معك يحاول إقناعك أنه من خلال ممارساته لأنشطته المالية لم يقع في الربا أو الغرر، أو الظلم للآخرين بأكل أموالهم بالباطل؛ وما درى -أو قد درى بَيْدَ أنه يكابر- أنه يفعل الحيل الربوية وغيرها بكل وضوح وسهولة لمن يدرك حقيقة المال المحرم، لكن ما أقبح المال حين يفسد الروح؛ فيكون البصر أعمى، والبصيرة صماء عمياء!
وكذلك الحال في المسابقات التجارية، فما أكثر الميسر والقمار فيها متعاملين فيها بطرق خفية وهم يعلمون أن المآل واحد، وإن كان قد اختلف الحال!
وتراهم يحتجون بفتوى شرعية صدرت من ذلك العالم التي أجازت ضرباً من المسابقات التجارية والمقيدة بضوابط وشروط محددة، فتراهم يأخذون المسألة على عمومها دونما تطبيق لما أصَّله ذلك العالم، والسبب في ذلك أن مصلحتهم الباطلة توافقت مع هوى أنفسهم، فضلوا عن سبيل الله، وقد حذر المولى من ذلك فقال: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26]، ثم توعد تعالى من اتبع هواه فقال: {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص: 26].
إن هؤلاء القوم الذين يأخذون ما راق لهم من فتاوى العلماء العامة، ثم يجرون أحكام إباحتها على كثير من معاملاتهم ومسابقاتهم وتصرفاتهم المالية، ليس لهم هم من جراء ذلك إلا رواج سلعهم، وقد يحاولون التلاعب بأقوال العلماء لترويج باطلهم -وقد حصل هذا مراراً، واشتكى بعض أهل العلم من كثير من هذه الأعمال الصبيانية!- إذ إنهم يعلمون أنه لولا فتوى ذلك العالم لما راجت بضاعتهم ولما نفق سوقهم، ولربما تكون الفتوى عامة أو خاصة في شيء ما؛ فيأتي هؤلاء ويلبسون على الناس دينهم، فيكونون ممن لبسوا الحق بالباطل، والله تعالى يقول: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [البقرة: 42]، وهم بالفعل يعلمون ذلك، ولهذا فكثير من هؤلاء لا يطيقون ربما سماع دروس العلم وفتاوى العلماء التي تبين أنواعاً من الانحراف الاقتصادي والمالي والمصرفي الذي يقومون به، بحجة أنهم متشددون ومتنطعون، ولربما همزوهم ولمزوهم؛ لأن مصلحتهم توافرت على ذلك الشيء الذي أخذوا به فقد أخذوا من الدين ما تشتهيه أنفسهم؛ {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} [البقرة: 79].
في هذه الفقرة سأتحدث عن موقف غريب وقصة حقيقية وقعت معي، فلقد كنت قاعداً في المسجد أتدارس مع بعض الإخوة من طلبة العلم كتاباً من كتب العلم، وأثناء استغراقنا في ذلك، رأيت رجلاً دخل المسجد، وصلى صلاة العصر التي تبدو أنها فاتته، وبعد أن انتهى من صلاته، ورآنا قعوداً نتدارس أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وكنت ألحظه بعيني أثناء التفاته إلينا، وأقول في نفسي: عند هذا الرجل أمر ما، خصوصاً وهو يرمقنا كثيراً ببصره!
قام هذا الشخص من مكانه، واتجه إلينا وتحدث معي قائلاً: يا شيخ لدي سؤال، وأريد الجواب الشافي الكافي عنه؛ لأن هنالك موضوعاً قد حيرني أنا وأختي، وأريد الجواب عنه لو سمحت!
فقلت له: استعن بالله وألق السؤال.
فقال لي: إن أختي قد وضعت مالاً لها في بنك ربوي، وضعت فيه ما يقارب مائتي دولار في حسابها وجعلته في بند (حساب التوفير).
وبعد مدة من الزمن اتصل أحد موظفي البنك بها، وقال لها: إنك قد ربحت جائزة كبرى مقدارها: 150 ألف دولار، وطلب منها المجيء لاستلامها، والاحتفال بهذه الجائزة الكبرى، والتي حازت عليها دون أن تشارك في مسابقة! بل كان هنالك سحب من البنك على أرقام الحسابات، فكان من حظها الفوز بهذه الجائزة!
ومضى يقول لي: يا شيخ، ما رأيك في استلام هذه الجائزة؟ وأرجو أن تجيبني جواباً أنت متأكد منه؟!
في الحقيقة أثناء حديثه معي، كنت أفكر في الطريقة التي سأجيبه بها؛ لأن الموضوع واضح بالنسبة لي، وخصوصاً حينما وضعت أخته مالها في حساب التوفير في البنك الربوي!
بعد ذلك استعنت بالله في جواب الرجل، وقلت له: والله يا أخي لأجيبنك جواباً لربما يكون أثقل عليك وعلى أختك من حمل جبل (أحد)!
فاستغرب الرجل، وقال لي: مه يا شيخ، ألهذه الدرجة، وما جوابك؟!
فقلت له: هذا المال الذي فازت به أختك مال محرم وهو سحت، لا يجوز انتفاعها به مطلقاً، وقد وقعت أختك في الحرام كذلك مذ وضعت مالها في الحساب الربوي!
في الحقيقة وأنا أتحدث للرجل بجوابي هذا، كنت ألحظ تفاعله الحركي والنفسي مع جوابي، حيث رأيت حماليق عينيه تدور (استغراباً)، ويبدو لي أنه وأخته يعيشان في وضع مادي عادي، فلم تكن أخه تتوقع أن تفوز بمبلغ هائل كهذا بالنسبة لها، خصوصاً أن الخبر كان بالنسبة لها شيئاً مفاجئاً، فلا هي بالتي شاركت بمسابقة، ولا ما يحزنون!
لكن الرجل قال لي -وهو شبه مصدوم من الجواب-: يا شيخ، أأنت متأكد من جوابك؟
قلت له: نعم، ولكني أرى أن تستلم أختك المال؛ لكي لا يكون راجعاً للبنك وتصرفه في مصالح البر والإحسان، ولا تعتبر ذلك صدقة منها، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وأضيف إلى ذلك أن تسحب أختك مالها من البنك الربوي إلى بنك إسلامي، فإن لم يتيسر لها ذلك، فعليها أن تضع مالها في الحساب الجاري لا حساب التوفير!
ومع هذا كله، فيبدو أن الرجل من وقع الجواب الصادم له -والذي بالفعل صدق حدسي حينما قلت: إنه قد يكون أثقل عليه من حمل جبل أحد!- فالرجل لم يكن يفكر معي، فقد كان يفكر في أمر آخر، حيث باغتني بقوله: لو سمحت هل من الممكن أن تسأل شيخاً ثانياً لربما يكون له رأي آخر؛ لكي نتأكد؟!
ومضيت مع ذلك الرجل قدماً، وقلت له: لا حرج، سأحيلك على شيخ آخر من العلماء، وهو متخصص في مجال المعاملات المالية لعله يفيدك.
اتصلت على الشيخ وأنا جالس مع هذا الأخ، وبعض إخواني من طلبة العلم، وقلت له: يا فضيلة الشيخ، السؤال كذا وكذا، والرجل يجلس بجانبي، وهو يسمع جوابك، فما رأيك في استلام أخته للمال، هل يجوز أو لا؟
فغضب الشيخ، وقال: قل لهذا الرجل: هذا المال حرام حرام حرام! وأنهيت المكالمة بعد شكره.
رأيت هذا الرجل بعدما سمع مني ومن ذلك العالم تلك الإجابة؛ حيث قام مباشرة وهو يقول لي: شكراً يا شيخ (أتعبتك معي)، ومضى خارجاً من المسجد، وشعرت أنه كذلك غير مقتنع بكل ما جرى، ويبدو أنه كان يعيش أزمة نفسية حادة!
إن ما أرمز إليه بعد سرد هذه القصة أن كثيراً من الناس يحاولون الذهاب لعدد من أهل العلم وطلبته، لكي يعثروا على جواب يناسب المقاس الذي يفصلونه هم، ولربما يسأل السائل ويحاول الإجابة؛ لكي يستنطق الشيخ أو المفتي بنفس الإجابة التي يريدها، وللناس في مثل هذه الأحابيل فنون لا تخفى على ذي عينين ممن قام لإفتاء الناس والإجابة عن أسئلتهم ومشكلاتهم.
إن من يقوم بمثل هذه التصرفات، حتى لو سأل عدداً من أهل العلم، فسيكون قصارى جهده استصدار حكم، واستخراج تأشيرة جواز من ذلك الشيخ، أو حتى لو كان تحريماً لأمر ما يمر في نفسه ذلك لكي ينتفع به ويكون ذلك الجواب مصلحة له، وحينئذ قد ينقل عن المفتي ذلك الجواب ويقول: إنني لا أنقل عن شخص عادي، بل أنقل لكم عن العالم الفلاني، وإنني أتعبد الله بجوابه، وما كان -والله- يقصد ذلك، ولم يسأل لأجل إبراء الذمة، فيكون الدليل قائده، والبرهان رائده، بل يهمه أثناء سؤاله الرخصة في الأمر، والتساهل والتمييع بحجة (الدين يسر)! فيسأل عالماً أو عالمين أو ثلاثة، والمهم أن يحصل على فتوى تجيز له وتبيح ما يتغياه ويقصده من ملابسة أمر، قد يكون هو أول من يعلم أن فيه شبهة، ولربما يكون محرماً لأنه سيستخدمه فيما لا يجوز، فيلجأ إلى مثل أولئك الشيوخ والعلماء؛ فيفتونه بما يرجحونه، حتى يعثر على بغيته أو مراده، أو أن يركب فتوى عالم من العلماء على فتوى آخر، ويحضر لنفسه المقاس الذي يريده من فتح كوة الإباحة على معاملته التي يريد، وبعد ذلك يقارفها باسم الدين والتدين، وهو يعلم في حقيقة الأمر أنه ما أخذ ذلك الأمر لأجل الله، بل لأجل هوى نفسه ومبتغاها!
يقول ابن القيم رحمه الله: "إن الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق، وتكلم بلفظ له معنيان: معنى صحيح، ومعنى باطل، فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح، ومراده في الحقيقة هو المعنى الباطل" (8).
هنالك ممن ينتسبون للتدين يتعاملون معه من باب المصلحة الشخصية، فقد يرى أحدهم أن بعض الناس فتح الله عليهم بواسع رزقه حينما صاروا من أهل العلم، فيهيئ نفسه لطلب العلم والازدياد من النهل من أنواع المعارف، ويكون مقصده نيل وزارة ما، أو منصب رفيع، وبعد ذلك لربما نسي العلم والتعليم، وكان حظه منه مجرد المظهر واللباس الذي يلبسه كثير من أهل العلم، ويبقى ملاحقاً للكاميرات أينما تتوجه يتوجه معها.
يقول ابن القيم في مثل هؤلاء القوم: "كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلابد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره وإلزامه؛ لأن أحكام الرب -سبحانه- كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولاسيما أهل الرئاسة، والذين يتبعون الشبهات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً، فإذا كان العالم والحاكم محبين للرئاسة، متبعين للشهوات، لم يتم لهم ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولاسيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة، ويثور الهوى، فيخفى الصواب، وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به، ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة" (9).
قد يكون بعض الناس جاسوساً أو عميلاً لأعداء المسلمين، فتراه مصلياً محافظاً على جميع الصلوات ومنها صلاة الفجر، لكنه -والعياذ بالله- يتكسب بصلاته هذه من الأموال والنقود خدمة لأعداء المسلمين، وإرصاداً لمن أطاع الله ورسوله، ولربما ظن به كثير من الناس الخير واعتبروه حمامة المسجد من كثرة تعبده في الظاهر، وقد يبكي أمامك فتظنه يبكي من خشية الله، وما هو بباك من خشية الله، وإنما مهرج يجيد فنون التمثيل التي لا تنطلي على أهل الدين، ولهذا فحين سُئل شميط بن عجلان رحمه الله: هل يبكي المنافق؟ فقال: "يبكي من رأسه، أما من قلبه فلا!" (10).
لعمر الله، لقد رأيتهم بأم عيني، وقد كنت سجيناً في سجون اليهود، بمن يطلق عليهم (العصافير)، وهم جواسيس العدو الصهيوني الذين يزرعونهم في السجون، وقد سموهم عصافير كناية عما ينقلونه لليهود من أخبار السجناء، فلقد كنت أرى من بعضهم عجباً: يقومون الليل مع السجناء! وقد يبكون أمامهم، وقد يقوم أحدهم خطيباً يخطب في السجناء يدعو أمامهم على يهود ويقول لهم: اصبروا، ثم بعد ذلك يجلسون مع بعض السجناء ويحاولون استلال معلومات واعترافات لم يعترفوها أمام يهود، ثم إن عثروا على شيء من ذلك أخرجهم اليهود بحجة نقلهم لسجن آخر، ويأخذون منهم كامل المعلومات؛ فويل لهم!
وما كان أولئك الجواسيس المجرمون -عياذاً بالله- سوى ذئاب مجرمة، تضحك على الناس بصلواتهم، فلا يصلونها إلا لكي يقولون عنه: إنه يصلي معهم الفجر جماعة، كما قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [النساء: 142]، ومن أهدافهم في ذلك: أن ينفوا عن أنفسهم كل شيء قد يشين لهم ليدفعوا عن أنفسهم التهمة بالجاسوسية والنفاق، وقد يكونون خارج السجن، فيكونون عملاء يقتاتون أموالاً على كل صلاة يصلونها في المسجد، وقد يوقظهم الضابط العسكري اليهودي للمنطقة التي يشرف عليها لكي يصلوا الفجر جماعة مع المصلين، وقد حدث ذلك بعد اعترافات عدد من العملاء أمام المجاهدين! ثم حينما يقومون ويصلون الفجر في المسجد أو لأي صلاة يترصدون فيها لأهل الدين والصلاح، ويبلغون فيها أعداء الله ورسوله بما يحصل في المسجد من أنشطة وفعاليات!
إنه بالفعل تدين المصلحة!
بعض الناس يعلق حروزاً وتمائم سواء أكانت من الآيات القرآنية، أو من الطلاسم والحروز الشركية، وقد يضعها على رقبته أو داخل سيارته؛ بحجة أن تحفظه من العين وما شاكل ذلك، وبعيداً عن مناقشة هذا الشيء من ناحية شرعية، فإنني حينما أركب مع كثير من هؤلاء وأسألهم عن مدى علاقتهم بقراءة القرآن أو محافظتهم على الصلوات، فيقول كثير منهم: إنهم لا يقرؤون القرآن إلا في رمضان -هذا إن قرؤوه- وقليل منهم من يحافظ على الصلوات الخمس، وكثيراً ما كنت أقول لهم: إنكم تسترخصون مثل هذه الأشياء لكي يحفظكم الله بها، ولكنكم لا تفعلون ما شرعه الله تعالى، فاعلموا أن الله تعالى لن يحفظ عبده إلا إن حفظه!
عن أبي العباس عبد الله بن عباس، قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: «يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله؛ وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف» (11).
ولربما تركب السيارة في وقت الصباح، فيشغل السائق القرآن أول يومه في الصباح لمدة ثلث ساعة، ثم يطنطن ويترنم مع الغناء الفاحش والموسيقى المحرمة، ولو جاءه شخص وتكلم معه في حرمة الموسيقى وما يصاحبها من غناء ماجن ولفظ فاحش، لضج وقال: "ساعة لربك، وساعة لقلبك"، فإن قلت له: لماذا وضعت القرآن وعلقته في سيارتك فيقول: لكي يحفظني الله تعالى!
ولا أدري كيف يريد أن يحفظه الله وهو نادراً ما يصلي، وقليلاً ما كان يقرأ القرآن إن كان يقرؤه، وليله ونهاره يترنم بألحان الغناء، وبالفعل فإن هؤلاء يذكرونني بتدين المصلحة، فهم كما يقال: (مصلحجية) مع ربهم، ويخشى عليهم من أن يكونوا ممن يدخل في قوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً} [الكهف: 57]، فمن أحب الله أحب شريعته، ومن أحب شريعته قام بتطبيقها، ومن نسي الله عاقبه الله بنسيانه له، بل ينسيهم أنفسهم، كما قال تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67]، أو كما قال عز وجل: {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} [الحشر: 19]، ويحذر تعالى عباده فيقول: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} [الحشر: 19].
• الإشكالية المنهجية في تدين المصلحة:
قد يرى بعض الناس أن تدين المصلحة مفيد للشخص في دنياه، وتعينه في قضاء كثير من حوائجه، والأدهى من ذلك والأمر أن نجد بعض الناس يحتجون بكلمة رائجة ذائعة باتت في أذهان الناس شائعة ألا وهي: "حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله".
إن المدقق في هذه القضية يجد أنها بالفعل (إشكالية منهجية)، وليست (مسلمة منهجية)؛ إذ ما أكثر ما يقوله علماء أصول الفقه أو فقهاء المقاصد الشرعية، وما أقل من يفهم عباراتهم ويفهمها على مرادها الصحيح، وليست على المرادات المغلوطة.
ومكمن الخلل في قضية كهذه: أن يعتقد بعض الناس صحة إطلاق هذه العبارة بشكل عام، والصواب أن هذه العبارة يجب ألا تؤخذ هكذا على علاتها وإطلاقها، بل تقبل فيما لم يرد به نص صريح صحيح، فلو كانت الأمور كلها بناء على هذه القاعدة: (حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله)، لكان كل من ظن مصلحة موهومة غير متحققة، أو مصلحة مخالفة لشريعة الإسلام وكلياته، فإنها تكون مصلحة شرعية وهذه أم الكبر!
وستكون هذه المصلحة بدون تدقيق لها وضبطها بضوابطها الشرعية وقواعدها المرعية وأصولها الفقهية؛ عبارة عن وهم اسمه: المصلحة، لكنها في حقيقة الأمر هو (الهوى)، فحسب وهو الذي يظنه بعض الناس مصلحة أو عقلاً لكنه ليس إلا ما تهواه الأنفس وما تشتهيه.
وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي: "إنه قد علم بالتجارب والعادات أن المصالح الدينية والدنيوية، لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم من ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح" (12).
إن مشكلة (تدين المصلحة) تشبه تماماً ما يمكن تسميته بـ: (دعوة المصلحة) حيث يقوم كثير من الناس بالدعوة إلى الله، لكنهم في حقيقة الأمر يدعون إلى أنفسهم، وتكثير جماعتهم، ويلمعون من شأنهم، وقد يحتقرون أو يقللون من جهود الآخرين.
وهذه طامة كبرى حينما يقع الداعية فيها، فبدلاً من أن يدعو إلى الله يدعو إلى نفسه أو حزبه، فدعوته قائمة على المصلحة الشخصية لا الشرعية، وتدينه يكون في مآله ونهايته [تديناً مصلحياً] ليس قائماً على أساس (مصلحة التدين)، وقد يكون غرضه من ذلك تكثير الأتباع وتضخيم الأنصار والأشياع، وهي مشكلة موجودة لدى كثير من العاملين في حقل العمل الإسلامي والدعوة الإسلامية.
وقد نبه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى هذه القضية بشكل دقيق فقال: "فإن الإنسان عليه أولاً أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطاً، ثم إذا رد عليه ذلك أو أوذي أو نسب إلى أنه مخطيء، وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على ما آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله، وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم، ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا ... ولا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله، ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس" (13).
إن من أخطر الأشياء على إيمان العبد تلاعبه بدينه، واتخاذه كوسيلة لتمرير مصالحه الشخصية، وهو جانب يغفل عنه كثير من بسطاء الناس، وقد لا يعقلونه أو يعون تصرفات بعض الناس النفعيين الذين يتربحون بدينهم، لأجل ذلك قال عبد الله بن وهب: "قال لي مالك بن أنس: يا عبد الله! لا تحملن الناس على ظهرك، وما كنت لاعبا به من شيء فلا تلعبن بدينك!" (14).
إنها كلمة عظيمة، فالعالم لا يسن للناس ما يكون سبباً في إضلالهم، فيتحمل أوزارهم وذنوبهم، فالمؤمن الفقيه هو من يعرف قدر دينه، ويأخذه بقوة ولا يلتون فيه كالحرباء، أو أن يأخذه بضعف، بل يستمسك به كما قال تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم: 12]، وقوله عز وجل: {فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} [الأعراف: 145]، ولا يكون المؤمن بربه متحايلاً على حدوده ومحارمه، أو أن يتكلف ويحمل على ظهره أحمالاً من أوزار القوم، فتلقى على ظهره؛ لأنه أباح لهم ما حرم عليهم أو أنه حرم عليهم ما هو مباح لهم.
ولفتة أخرى مقاربة لهذه المشكلة، فكم رأينا وسمعنا عن قصص كثيرة ممن يسترزقون بدينهم أو بدنيا غيرهم من أهل السوء وحكام السوء وعلماء السوء، والمصيبة أنهم قد يظهرون للناس شيئاً خلاف ما يبطنونه ويعتقدونه.
ولقد ذم جم هائل من علماء الإسلام أمثال هؤلاء الحمقى الذين يسترزقون بدينهم، حتى إن الحاكم روى في تاريخه عن ربيعة الرأي أنه قال للإمام مالك: يا مالك من السفلة؟ قال: "قلت من أكل بدينه"، فقال لي: ومن أسفل السفلة؟ قلت: "من أصلح دنيا غيره بفساد دينه" (15).
إن من أخطر ما يتعامل به المتعاملون مع هذا الدين، أنهم يعتبرونه مصدر استرزاق ومهنة وليس رسالة في الحياة ومهمة، فبُئساً لقوم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} [البقرة: 102].
فليحذر العبد من التلاعب بدينه، والاستهانة بحرمات الإسلام، فإن هذا دين وهو شرعة رب العالمين، ولا يصح للعبد أن يتعامل مع دينه وفق مجريات أهوائه، فإنه سيكون رقيق الدين والتدين، ولن يلتزم الحدود التي حدها الله لعباده، ولهذا تحدث الإمام ابن حزم رحمه الله عن مثل هؤلاء فقال: "ولا أرق ديناً ممن يوثق رواية إذا وافقت هواه، ويوهنها إذا خالفت هواه؛ فما يتمسك فاعل هذا من الدين إلا بالتلاعب" (16)، نسأل الله السلامة والعافية!
• يستخدمون الدين ولا يخدمونه!
قبح الله أناساً ليس لهم في العلم الشرعي كبير إمعان، ولا إعمال بصر، ولا إطراق فكر، بل إنهم رأوا أن تدينهم قد يدر عليهم أرباحاً طائلة وأموالاً غزيرة، فأتقنوا التجارة بدينهم والعياذ بالله، فباتوا ممن يمكن أن نقول عنهم بأنهم (يستخدمون الدين ولا يخدمون الدين)، فالدين بالنسبة لهم عبارة: عن عبارة تؤدي لهم مقصدهم، ويفعلون منها ما يشاؤون، وقد يمثلون على الناس في بدء أمرهم.
وأكثر من يفعل ذلك الطغاة حيث إنهم قبل انتخاباتهم أو في بداية فوزهم بالانتخابات داخل الدول الإسلامية يرددون كلاماً عاطفياً، يدغدغون به مشاعر الجماهير الإسلامية، فقد يقولون: سنطبق الشريعة كما فعل ذلك بروزي مشرف حينما فاز بالانتخابات الباكستانية، وأتذكر حينها قامت إحدى المجلات الإسلامية الخليجية ناقلة عن هذا المأفون قولته تلك، وبعد أن استقر حكمه كان من أشد الناس عداء للشريعة وللإسلاميين، ولا ننسى كذلك ما حاوله الطاغية الشقي ابن علي بعد توليه الرئاسة، فلقد صار يبث أذان الحرم من مكة في التلفزة التونسية، كل ذلك للضحك على ذقون الشعب التونسي، لكن من كان يعرف دواخله ودغيلته وحقده على الإسلام كان يحذر منه، ويقول: ما هو إلا نبتة فرنسية سيكون مماثلاً لشيخه الذي علَّمه الفساد والعلمنة: بورقيبة، وقد يكون أدهى منه وأمر، ودارت رحى الأيام وكان الأمر كما كان!
إن الوعي الشعبي للجماهير المسلمة يجب أن يزداد، ويكتسب خبرة، وتجربة عظيمة من أولئك الذين يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، وممن يعلمون أن سوق النفاق والكذب رائجة في هذه الأيام ولا حول ولا قوة إلا بالله، وعلى الشعوب المسلمة أن يكون لها من الوعي باستبانة سبيل المجرمين ممن يستخذون الناس بكلامهم الطيب، ولكنهم أول ما يخالفونه بأفعالهم، ويصدق فيهم قوله تعالى: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} [آل عمران: 167].
وإن من الجوانب التي لا يمكن أن تنسى في هذا الصدد، أن يقول بعض الناس: إن من خدعنا لله وقام بأعمال صالحة أمام الناس مع أنه عرفت عنه الكثير من الأعمال الطالحة، فليس لنا أن نتهمه بشيء في دينه، وقد يحتج بعضهم بما ورد عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنه حيث قرأ قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92]، فقد نقل عنه بعض المؤرخين أنه كان إذا أعجبه شيء من ماله يقربه إلى الله عز وجل، وكأن عبيده قد عرفوا ذلك منه فربما لزم أحدهم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحال أعتقه، فيقال له: إنهم يخدعونك، فيقول: "من خدعنا لله انخدعنا له"!
وهذا يختلف تماماً عما يقوم به الطغاة والمجرمون الذين يعيشون في الأرض فساداً، وقد يقوم أحدهم بالصلاة أمام الناس، أو بفعل شيء صالح، فينخدع به كثير من الطيبين والسذج وقد يدافعون عنه، أو أن يبني مسجداً ويعلن عن ذلك في الجرائد وقد ينسبه لنفسه، وما علم أولئك الطيبون أنه قد بناه من أموال الدولة وخزانة المال!
إن موقف عبد الله بن عمر رضي الله عنه موقف شخصي، ولعله كان له نظر وفراسة في بعض عبيده، ولعله أراد من بعضهم التزود من البر والتقوى في ذلك، ومع هذا وذاك فلم يكن فعله إلا موقفاً خاصاً به رضي الله عنه.
لقد كان عبد الله بن أبي بن سلول إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله تعالى به وأعزكم، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس ... وبعد أن خذل المسلمين في غزوة أحد ورجع بثلاثمائة من المقاتلين أراد أن يفعل ذلك، لكن وعي المسلمين واستبانتهم لسبيل النفاق وأهله جعلهم يعرضون أقواله على أفعاله فحينما هم عبد الله أن يفعل قبل خطبة رسول الله ما كان يفعله قبل غزوة أحد أخذ المسلمون بثوبه من نواحيه وقالوا له: "اجلس عدو الله، والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت" (17).
إن الفساد الذي ضرب بأطنابه في الأرض يحتاج لرجال يكونون على وعي تام به، وحذر من أن يستخفهم أولئك الطغاة العتاة، وهم لا يجيدون سوى فنون التمثيل على الصالحين بتدينهم حيناً، وببعض الأعمال التي يظهر منها الصلاح حيناً، وليس لهم من وراء ذلك إلا العمل الطالح، ومع ذلك فإن الأمر بحاجة لصبر ويقين وعدم اندفاع أو تعجل، كما قال تعالى في آخر سورة الروم: {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون * فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} [الروم: 59، 60].
إن المؤمن كما هو معلوم كيس فطن، ولا يلدغ من جحر واحد مرتين، وإن فهمه للواقع وفقهه للحياة وتقلبات الناس فيها، يستدعي منه الحذر والانتباه؛ ألا يستحوذ على تصوراته تمثيليات يقوم بها الطغاة والمنافقون الذين يستخدمون الدين لمصالحهم ومآربهم الشخصية ليس لهم هدف من ذلك ليكون عملهم لله، بل لخداع الجماهير، أو لصرف المؤمنين عن ألاعيبهم التي يحبكونها بمهنية واحترافية، وغريب أن يأتي بعض البسطاء من أهل الإيمان فينخدعوا بأفعال أهل الطغيان ومعسول كلامهم، وصدق سفيان الثوري القائل: "من العجب أن يظن بأهل الشر الخير" (18)، مع أن المؤمن يجب ألا يخدع ولا يحسن الظن بأهل الشر.
إن رائد الداعية البصير والمفكر القدير: قصةُ بناء المنافقين لمسجد الضرار التي نبه فيها الله تبارك وتعالى رسول الهدى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون} [التوبة: 107]، ثم قال تعالى: {لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} [التوبة: 108].
فالمؤمن لا يُخدع بمعسول الكلام، ولا بجميل الفعال، من شخص عرف عنه الطغيان والفجور، إلا أن يعلن ذلك الشخص توبته، ويتبرأ مما كان يفعله في وقت سابق، ويعقب ذلك العمل الفاسد صلاحاً وإصلاحاً في واقع الحياة.
إن استبانة سبيل المجرمين ودراسة طرقهم وأساليبهم الملتوية، ديدن المؤمنين، وسنة المتقين، وهو من الوعي والفقه الذي يزيد صاحبه معرفة بآيات الله تعالى، فلقد قال عز من قائل: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} [الأنعام: 55]، قال النسفي رحمه الله: "ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به" (19).
قال ابن القيم: "فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبن له، أوشك أن يظن فى بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع فى هذه الأمة من أمور كثيرة فى باب الاعتقاد والعلم والعمل" (20).
اللهم إنا نسألك وعياً تبدد به ظلام جهلنا، وفكراً صحيحاً يلهمنا السير في سبل الهدى، وأزل الران عن قلوبنا؛ لكي نهتدي في دروبنا، واكفنا شر منافق عليم اللسان يريد الاستخفاف بنا وافضحه على رؤوس الأشهاد، واجعلنا ممن يعملون بالإسلام وينتصرون للإسلام، وارزقنا يقيناً لا ينفد، واكفنا شر كل ناقم على الشريعة ومعتد، واجعل ديننا لنا يقيناً، وهادياً لنا وسراجاً مبيناً، واهد كل مفتون عن دينه بماله، واجعله بصيراً بمصلحة دينه، واملأ قلبه من آياتك وسنة نبيك؛ لتطهر به فساد مصلحة دنيوية فأحاطت به خطيئته مجامع قلبه، فكان بينه وبين فهم دينك حجاب.
اللهم صل على المبعوث رحمة للعالمين، والحمد لله رب العالمين.
______________________________
(1) المستصفى (1/217).
(2) مجموع الفتاوى (11/344).
(3) إعلام الموقعين (5/3).
(4) الموافقات (1/199).
(5) الموافقات (1/537 - 538).
(6) انظر: مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية، جمع ابن قاسم: (30/223)، وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري أن وكيعاً وصل هذا الأثر في مصنفه عن سفيان بن عيينة عن أيوب، وهو السختياني.
(7) إعلام الموقعين (3/163) باختصار.
(8) الصواعق المرسلة (3/926).
(9) الفوائد، ص: 145.
(10) حلية الأولياء، لأبي نعيم (3 / 129).
(11) أخرجه الترمذي، وأحمد، وصححه الترمذي، وقال ابن رجب: حسن جيد، وقال ابن حجر: حسن، وصححه أحمد شاكر والألباني رحمهم الله جميعاً.
(12) الموافقات: (2/170).
(13) منهاج السنة النبوية (5/254 - 257) باختصار وتصرف.
(14) الحجة في بيان المحجة (1 / 207)، وروى اللالكائي نحوها في شرح السنة (1 / 144).
(15) الآداب الشرعية (1/329).
(16) المحلى، (4/ 180) في كتاب الزكاة.
(17) انظر القصة فلقد أوردها الإمام ابن كثير في تفسيره لسورة المنافقين عند قوله تعالى: {إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون}.
(18) حلية الأولياء (7 /52).
(19) تفسير النسفي (1/325).
(20) الفوائد (1 / 109).
- التصنيف: