كيف توظّف إسرائيل الإعلام لخدمة حربها على غزة؟

منذ 2023-10-19

اللافت أنه كلما تكشّفت المزيد من المعلومات كلما تيقّن العالم من كذب الإسرائيليين، لكن القليل من يقتنع ويدرك، وكأن تصديق الزيف الإسرائيلي غاية لهؤلاء وهدفًا لا يحيدون عنه.

قبل عدة أيام وبعد ساعات قليلة من بدء عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها حركة حماس ضد الاحتلال الإسرائيلي؛ ذكرت معظم الصحف الغربية ـ لا سيما الأمريكية والبريطانية ـ أن مقاتلي حماس قطعوا رؤوس 40 طفلًا خلال الهجوم، استخدمت الصحف هذا الموضوع كصفحة أولى، وكررته في تحليلاتها ومقالات الرأي كدليل واضح على وحشية حماس الشنيعة، فيما انساقت العديد من وسائل الإعلام الغربية وراء الرواية الإسرائيلية في هذا الشأن معتبرةً أن هذا العمل الإجرامي المفترض هو مبرر كافي لقصف قطاع غزة وقتل الفلسطينيين، لم تمرّ سوى ساعات أخرى حتى تم اكتشاف كذب هذا الادعاء المزيف، وسرعان ما تهرّب الصحفيون والساسة وكتّاب الرأي الذين انبروا لتعظيم المأساة الإسرائيلية من ورائه، لا شك أن هذا الأمر كان فيضًا من غيض، فالاحتلال الإسرائيلي معروف منذ القدم بتوظيفه للإعلام من أجل خدمة سياساته ومصالحه، وتغطية وتبرير سياساته وممارسات جيشه، مع الترويج للموقف الرسمي الإسرائيلي مع تغييب الرواية الفلسطينية، وهذا ما يظهر جليًا خلال الفترة الراهنة.

 

أطلقت على عملية طوفان الأقصى اسم "11 سبتمبر الإسرائيلية"، وهو مصطلح له وقع كبير على نفوس الأمريكيين، كما حاولت ترهيب العالم من حركة حماس فوصمتها بانها "داعش الفلسطينية"

 

سقطات وأكـاذيب:

لا شك أن فعالية الدعاية الإسرائيلية ليست نتيجة لقوتها أو حقيقتها أو حتى دهاءها، بل بسبب الغياب شبه الكامل للدعاية التي يمكنها أن تدحض ما تقوله إسرائيل وما تكرره وسائل الإعلام الرئيسية في العالم والتي يتمتع اليهود بحصة في غالبيتها، فحين زعمت إسرائيل أن عناصر المقاومة الفلسطينية يقطعون رؤوس أطفالها، نجحت في خلق صدمة هائلة لدى الرأي العام العالمي وحاولت أن تستغلها لتجريد الفلسطينيين مما تبقى من وطنهم وإنسانيتهم وحقهم في الحياة، وكرد فعل لتلك الأكاذيب التي تسوّقها، تجد إسرائيل لنفسها المبرر الأخلاقي الذي يدفعها لارتكاب حرب إبادة جماعية في غزة، حيث تقتل الأطفال والأمهات والآباء، والفرق الرئيسي بين رواية تقول إن "الفلسطينيين يقتلون أطفال إسرائيليين" ورواية أخرى تقول إن "الإسرائيليين يقتلون أطفال فلسطينيين"، هو أن الرواية الأولى موثّقة عبر تكرارها في وسائل إعلام عالمية عديدة تصف نفسها بأنها ذات مصداقية، قد لا يكلّف أحدًا نفسه عناء البحث عن أصل الرواية ومدى مصداقيتها، حيث يكتفي الجميع بالترديد والنقل والتكرار لمجرد أن الرواية قد ذُكِرَت على هذه القناة الإعلامية أو نشرتها تلك الصحيفة، أما الرواية الثانية فتظل مجرد ادعاء ولا تجد من يتحدث عنها، فما بالنا إن طالبنا بمن يصدقها!، وهذا هو سر نجاح وفعالية الدعاية الإسرائيلية في رواية أحداث الحرب.

لكن حتى وإن اكتشف العالم الغربي زيف الرواية الإسرائيلية للأحداث، فإنه يقابلها بترميم للخطأ دون حتى أدنى اعتذار أو أسف، فقد اضطر البيت الأبيض قبل أيام إلى سحب التعليقات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي جو بايدن حين ادعى أنه شاهد "صورًا مؤكدة لإرهابيين يقطعون رؤوس أطفال في إسرائيل"، تبيّن لاحقًا أن بايدن لم ير أيًا من هذه الصور، وقالت تقارير إنه بني ادعاءاته على تأكيدات سمعها من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتقارير إخبارية إسرائيلية زعمت أن مجموعة من الصحفيين زاروا مستوطنة كفر عزة القريبة من حدود قطاع غزة، وشاهدوا جثثًا لأطفال مقطوعة الرأس بسبب هجوم حماس، أحد هذه التقارير نشرته وسيلة إعلام إسرائيلية وحصل على ما لا يقل عن 44 مليون ظهور، و300 ألف إعجاب، وأكثر من 100 ألف إعادة نشر خلال 24 ساعة على موقع إكس (تويتر) فقط، وفي مقابلة تلفزيونية ردد وزير الاقتصاد الإسرائيلي نير بركات هذا الادعاء، وقال نصًا: "لقد رأينا للتو وسمعنا عن 40 صبيًا صغيرًا تم حرق بعضهم أحياء، وتم قطع رؤوس البعض، وبعضهم أصيب برصاصة في الرأس".

الأكاذيب حول الأطفال الموتى ضرورية لجعل الأعداء غير إنسانيين بالمعنى الحرفي للكلمة، ولا شك أن قصة الأطفال المقطوعة الرأس تعكس أصداء قصص أخرى كاذبة حاولت إسرائيل استخدامها لتبرير القتل أو شنّ الحرب أو ارتكاب المجازر الشنيعة بحق الفلسطينيين، فإسرائيل معتادة على الكذب الإعلامي، والأدهى أنها حين ترتكب المجازر تجد لنفسها التبرير المناسب، بل وحتى ما يبراها من المسؤولية، ففي 9 يونيو من العام 2006، قتلت القوات الإسرائيلية أسرة مكونة من 7 مدنيين على شاطئ غزة، تمتمت إسرائيل حينها ببعض الاعتذارات، ثم سارع الجيش إلى تشكيل لجنة للتحقيق في الحادث، وسرعان ما برأ جنوده من المسؤولية وزعمت اللجنة بأن الجيش أطلق 6 قذائف على شاطئ بيت لاهيا وما حوله لكن انفجارًا منفصلًا ـ زعمت أنه ربما يكون لغمًا زرعته حماس - أدى إلى مقتل الأسرة بأكملها، وكانت تلك كذبة من الإسرائيليين بالطبع. الغريب أن لا أحد يفكر في الحديث عن قصص انتشال الأطفال الفلسطينيين الموتى من تحت الأنقاض في غزة، فهؤلاء يمكن تجاهلهم بأمان، ووفقًا للإسرائيليين والغربيين فإن هؤلاء ليسوا بشرًا، إنهم متوحشون وكان يجب قتلهم.

انتشرت أيضًا رواية في الإعلام الغربي تشير إلى حالات اغتصاب محددة أثناء الهجوم الذي شنته حماس، لكن سرعان ما نجد صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" تحذف هذا الأمر من مقال رأي تم نشره على صفحاتها بتاريخ 9 أكتوبر، لأن المعلومة لم يتم إثباتها، والغريب أن بعض المسؤولين الأمريكيين قد أشاروا في تصريحاتهم إلى الاغتصاب ضمن فظائع الحرب التي عانى منها الإسرائيليون، وكان في مقدمتهم أيضا الرئيس بايدن، الذي أوضح أنه قد تم إخطاره بهذا الأمر في مكالمة هاتفية مع نتنياهو، ليتم الكشف لاحقًا أن مصدر هذه المعلومة من أساسها هي صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، التي قالت في أحد أخبارها أن هناك مخاوف بشأن الاعتداء الجنسي ضد النساء، ونشرت مقاطع فيديو لمجندة إسرائيلية وهي ملطخة بالدماء بينما يتم إخراجها من سيارة في غزة، ونشرت فيديو آخر لامرأة مستلقية على وجهها في شاحنة.
 

أهـداف ممنهجـة:

لا شك أن هناك مشاركة يهودية هامة في صناعة الإعلام الغربي، لا سيما في الولايات المتحدة، إذ يعمل اليهود بنجاح في مختلف جوانب الإعلام، بما في ذلك التلفزيون، والصحافة، والإذاعة، والإنترنت، وفي الكيان المحتل يؤدي الإعلام الإسرائيلي دورًا هامًا في دعم سياسات الاحتلال وتبرير ممارسات جيشه، ولا شك أن لديه نجاحًا لافتًا في هذا الصدد يمكن رصده في النقاط التالية:

 

يستخدم الإعلام الإسرائيلي العواطف والقصص الإنسانية للتأثير على المشاهدين وجذب تعاطفهم، ويركز على الأدبيات والقصص التي تعكس الجوانب الإنسانية للجنود والمستوطنين

 

 الدعاية والتبرير:

تقوم إسرائيل بحملات دعاية إعلامية لتبرير عملياتها وسياستها، وتشمل هذه الحملات الوصول إلى وسائل الإعلام الدولية والصحفيين الأجانب لنقل وجهة نظرها وتوجيههم نحو القضايا والروايات التي تدعم موقفها.

 

ممارسة حرب المصطلحات:

ففي خضم الأزمة الراهنة، بدأت إسرائيل في الترويج لمصطلحات ترهب العالم، حيث أطلقت على عملية طوفان الأقصى اسم "11 سبتمبر الإسرائيلية"، وهو مصطلح له وقع كبير على نفوس الأمريكيين، كما حاولت ترهيب العالم من حركة حماس فوصمتها بانها "داعش الفلسطينية"، ودعا الصهاينة الحكومات الغربية إلى ضرورة تقديم الدعم لإسرائيل من أجل التخلص من حماس والقضاء عليها تمامًا.

 

الدفاع عن سياسة الاغتيالات:

تستغل إسرائيل وسائل الإعلام للتحريض ضد الفلسطينيين، وتشويه سمعة قادة المقاومة، ومن ثمَّ استهدافهم وتصفيتهم، كما يتم استخدام لغة قوية للتحريض ضد الهجمات والصواريخ الفلسطينية، ويستخدم الإعلام الإسرائيلي هذه الأحداث لتبرير الردع والضربات العسكرية، وعادةً ما يقوم الإعلام الإسرائيلي بتصوير الفلسطينيين بشكل سلبي وتجنيب تقديم قصص إيجابية عنهم، ولا شك أن هذا يسهم في تشكيل نظرة الجمهور بشكل سلبي تجاه الفلسطينيين.


الاستخدام العاطفي وتكرار الرسائل:

يستخدم الإعلام الإسرائيلي العواطف والقصص الإنسانية للتأثير على المشاهدين وجذب تعاطفهم، ويركز على الأدبيات والقصص التي تعكس الجوانب الإنسانية للجنود والمستوطنين، كما يتم تكرار الرسائل الرئيسية بشكل مستمر من قبل وسائل الإعلام والمسؤولين الإسرائيليين، هذا يعزز تمويل وتأييد القرارات والسياسات داخليًا ودوليًا.

 

الرصد والرد على النقد:

يتم رصد ومراقبة النقد الدولي والمحلي والرد عليه بفعالية لتصحيح المعلومات والتأكيد على وجهة النظر الإسرائيلية، كما يعتمد الإعلام الإسرائيلي على تجميل صورة إسرائيل على الساحة الدولية وتقديم نفسها كقوة ديمقراطية، مع التركيز على الجوانب الإنسانية للجنود والمستوطنين لجذب التعاطف العالمي.

 

نشر رواية محددة تخدم مصالحها:

تحاول إسرائيل السيطرة على السرد من خلال التأكيد على مخاوفها الأمنية وتصوير أفعالها على أنها دفاعية ردًا على التهديدات، كما يسهم الإعلام الإسرائيلي في بناء الدعم السياسي والشعبي لسياستها وقراراتها من خلال نشر قصص تظهر إسرائيل بوجه إيجابي وتبرر ممارساتها.

 

قمع الروايات المناهضة لإسرائيل:

طورت إسرائيل عمليات قوات سيبرانية ذات قدرة عالية، باستخدام تكتيكات مثل شبكات الروبوت والحسابات البشرية لنشر الأخبار بطريقة مؤيدة للكيان الصهيوني ومناهضة للفلسطينيين والعرب، وتعمل من خلال ذلك على نشر حملات تضليل وتصيد وتضخيم لروايات مفضلة لها، واستراتيجيات قائمة على البيانات للتلاعب بالرأي العام على وسائل التواصل الاجتماعي.

 

الكـيل بمكيالـين:

تشتهر إسرائيل أيضًا بدفاعها السيبراني المثير للجدل وبرامج التجسس المستخدمة للوصول إلى شبكات الصحفيين والإعلاميين والخصوم، فهي ليست منخرطة في حرب على الأرض فحسب، بل منخرطة أيضًا في حرب معلومات تدور رحاها عبر جميع منصات التواصل الاجتماعي كل يوم، لقد ساعدت الكثير من مقاطع الفيديو التي تم تحميلها على وسائل التواصل الاجتماعي من قِبَل الإسرائيليين في تشكيل فهم العالم لما تصفه بـ"العنف الذي أحدثته حماس في إسرائيل"، تأتي هذه الفيديوهات ضمن سيل من المنشورات المزيفة والمضللة المُصَاغة بعناية بهدف توجيه وجهات النظر صوب فهم معيّن للأزمة.

على منصات التواصل الاجتماعي الشهيرة مثل فيسبوك وانستغرام ويوتيوب وتيك توك وإكس (تويتر سابقًا) يمكن الوقوف على العديد من الدعوات المؤيدة لإسرائيل، هناك دائما من يرثي القتلى الإسرائيليين ويدعوا لعائلاتهم، لكن إظهار أي دعم لحماس محظور، حيث تعتبر تلك المنصات حماس منظمة متطرفة، مما يعني أنه من غير المسموح لأي شخص إعادة نشر مقاطع فيديو أو صور أو أي محتوى أطلقته حماس، ففي العام الماضي أصدرت شركة استشارية تسمى "Business for Social Responsibility" تقريرًا بتكليف من ميتا المالكة لموقع فيسبوك، أكدت فيه أن الموقع الذي يعدّ من عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي قد قمع بشكل غير عادل حرية التعبير للمستخدمين الفلسطينيين في عام 2021م خلال الحرب استمرت أسبوعين بين إسرائيل وحماس، حيث سمح الموقع للمستخدمين بمشاركة روايات مباشرة من وجهة نظر إسرائيلية حول الصراع، في حين تمت إزالة محتوى بعض المستخدمين لأنه كان مؤيدًا للمقاومة الفلسطينية أو يحمل رؤية مغايرة لما تعلنه إسرائيل.

يزداد تكثيف الإعلام الإسرائيلي واستخدام الإعلام الاجتماعي خلال الأزمات أو العمليات العسكرية لنقل الرسالة والتأثير على الجمهور بشكل أكبر، وحتى الآن لا تزال الأحداث في مستوطنات غلاف غزة وقطاع غزة تتكشف، ولا تزال الحقائق الكامنة وراء العديد من الادعاءات الإسرائيلية غير واضحة، اللافت أنه كلما تكشّفت المزيد من المعلومات كلما تيقّن العالم من كذب الإسرائيليين، لكن القليل من يقتنع ويدرك، وكأن تصديق الزيف الإسرائيلي غاية لهؤلاء وهدفًا لا يحيدون عنه.

____________________________________________________
الكاتب: 
 أحمد مصطفى الغر