خواطر قرآنية: أسرار من خلق الإنس والجان

منذ 2023-11-29

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((بِتُّ عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعةً، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر، قعد فنظر إلى السماء، فقال:  {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، ثم قام فتوضأ واستنَّ، فصلى إحدى عشرة ركعةً، ثم أذَّن بلال، فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح))؛ (رواه البخاري ومسلم).

 

ففعلُه صلوات ربي عليه ومنهجه التربوي في ربط كتاب الله المقروء بكتاب الله المنظور، في تشخيص معنى التأمل، وأثر ذلك في نفس المؤمن والمتدبِّر لكتابه، يحرك من مكنة العقل، ويستخدم تلكم الإشارات والبيانات التي تخطر على خاطر القلب محل الإيمان والإخلاص الجازم، فتُترجَم في استدلالات ومنح ولطائف، "فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب"[1]، وعليه فإن "تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبُّره وتعقُّله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر"[2].

 

فمثلًا الوقوف على قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 14، 15].

 

فحضور معنى هاتين الآيتين في ذهني في شأن خلق الإنس والجانِّ، وكيف صورهما المولى في هذا البيان العظيم من المعاني المستوحاة من طول النظر والتأمل في قوله جل وعلا، وهذا ما توقفت عليه:

أولًا: من حيث تكرار فعل الخلق:

1- كرَّر المولى فِعْلَ الخَلْقِ عند كل صنف بصيغة الماضي، والفاعل مستتر، وفيه بيان للمُدَّكِر.

 

2- فتكرار فعل الخلق بيَّن تمايزًا بين الجنسين، وكأنك ترى بأم عينيك عالَمين مختلفين، كأن يكون عن يمينك عالم حُر للإنس، وعلى شمالك عالم خاص بالجن.

 

ثانيًا: من حيث نسبة الخَلْقِ لله:

الخالق هو الله تعالى جل شأنه، وجاء مستترًا، ليس ثالث ثلاثة، فتوحيده تعالى بفعله يأتينا مسلَّمًا ذاته، فلا تسأل عن الضمير المستتر، فشتان بين علوٍّ ليس له بداية ولا نهاية، وبين واقع ملموس بكلمة كن فيكون.

 

ثالثًا: من حيث البلاغة:

كل آية من أربع كلمات بنفس الترتيب، وبحروف مشتركة من حروف الجر، فهذا الاستدلال في ترتيب الآية أرسى طمأنينة في نفسي بالنظر إلى مقاصد هذا الترتيب؛ وهذا ما تبين لي تباعًا:

1- الترتيب وكأنه جمع المكلَّفين والتكاليف على محور التكليف، فجاء الميزان بالقسط، فتنزَّلت الرحمة بعدله، فاطمئنَّ القلب بها.

 

2- حرف الجر "من" و"كاف التشبيه" هاته صنعت فارقًا آخر، فضرب المولى عز وجل تشبيهًا لمعدِن خلق الإنسان بالفخار، مبينًا جنس المعدن وهو الصلصال، فصار الصلصال كالفخار سواء أكان يابسًا أو مَحميًّا بالنار، فهو واحد.

 

3- أما معدن خلق الجن فهي النار، وليس لها شبيه، وإنما درجات من صفرة إلى حمرة، ولها لسان لهب يعلو كلما استوقدت، فكان تكرار حرف الجر "من" هنا تخصيصًا أكثر فأكثر.

 

4- واقع الأصل الواحد في خلق الإنسان تأكيد على الفطرة الواحدة؛ «فكل مولود يُولَد على الفطرة»؛ (صحيح البخاري).

 

5- أما خلق الجان، ففيه عجب، وله تفصيل في سورة استُهِلَّت بنَفَر.

 

واللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد.

 


[1] مفتاح دار السعادة" (1/ 553)

[2] مدارج السالكين" (1/ 449).

________________________________________________
الكاتب: يمينة عبدالي