التحذير من الحكم بغير ما أنزل الرحمن
القرآن كله يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله وعدم تحكيم ما عداه؛ إما تصريحًا وإما تلويحًا، وله جاهد ويجاهد من عباد الله المتقين من لدن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم تقوم الساعة.
وقال في تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن بعد سياقه؛ لقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 60]، ثم لو لم يكن في القرآن المجيد في الزجر عن اتباع القوانين البشرية غير هذه الآية الكريمة، لكفت العاقل اللبيب الذي أُوتي رشده وأهَمه صلاح قلبه عن تطلُّب غيرها، فكيف والقرآن كله يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله وعدم تحكيم ما عداه؛ إما تصريحًا وإما تلويحًا، وله جاهد ويجاهد من عباد الله المتقين من لدن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم تقوم الساعة.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا خلاف من خالفهم حتى يأتي أمر الله»، وأنه قال: «لا تجتمع أمتي على ضلالة».
فعلمنا بذلك أن من الممتنع بالسمع أن يتمالأ العالم كلهم شرقًا من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على اتباع القوانين البشرية، وعدم المبالاة بالحكم الشرعي، بل لا بد أن يكون فيهم ولو واحد ينكر على هؤلاء الكل؛ إما بلسانه إن أمكنه ذلك، ولم يفتكوا به، وإما بقلبه وظن الفتك به، كما قد كان أيام الاستبداد.
والغرض بيان أن طائفةً على الحق لا تزال تقاتل وتجاهد على تحكيم ما أنزل الله باللسان والبيان والبدن والسنان والمال، وكل ممكن لنوع الإنسان، وأن به يتم نظام العدل والملك والدين والدنيا، وبه يستقيم أمر المعاش والمعاد، وتكمل لهم الراحة والأمن والحرية التامة والسياسة العامة لجميع الملل والرعايا المختلفة الأصناف والألسنة والأمزجة.
ومن شك في هذا، فلينظر الفرق بين حال الإسلام في هذه القرون المتأخرة التي عطلت فيها حدود الشريعة وأحكامها، وحاله في القرون المتقدمة التي ما كانت على شيء أحفظ منها على أحكام الشريعة وأرعى لها، يجد الفرق كما بين الثرى والثريا، وكما بين السماء والأرض وكما قال الشاعر:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم... ونزلت بالبيداء أبعد منزل ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فتحوا ما فتحوا من أقاليم البلدان، ونشروا الإسلام والإيمان والقرآن في مدة نحو مائة سنة، مع قلة عدد المسلمين وعُددهم، وضيق ذات يدهم، ونحن مع كثرة عددنا ووفرة عددنا، وهائل ثروتنا وطائل قوتنا، لا نزداد إلا ضعفًا وتقهقرًا إلى الورى وذلًّا وحقارةً في عيون الأعداء؛ ذلك لأن من لا ينصر دين الله لا ينصره الله؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، فرتَّب نصرهم على نصره بإقامة طاعته وطاعة رسوله.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله على قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم، فقد أقسم سبحانه بنفسه ألا يؤمنوا، وأما من كان ملتزمًا لحكم الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا، لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة، فمن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر، وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعا فيه من الأمور الاعتقادية والعملية.
فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا بالكتاب والسنة ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك، وحكام المسلمين في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور الكلية، وإذا حكموا في المعينات، فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه؛ انتهى.
لأنه صلى الله عليه وسلم لَما بعث معاذًا إلى اليمن قال: «بِمَ تحكم»؟ قال بكتاب الله، «فإن لم تجد»؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فإن لم تجد»؟ قال: أجتهد رأيي، قال: «الحمد الله الذي وفَّق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وفي كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عروة كتبت إليَّ تسألني عن القضاء بين الناس، وإن رأس القضاء اتباع ما في كتاب الله، ثم القضاء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بحكم أئمة الهدى، ثم استشارة ذوي العلم والرأي، وذُكر عن سفيان ابن عيينة قال: كان ابن شبرمة يقول:
ما في القضاء شفاعة لمخاصم *** عند اللبيب ولا الفقيه العالـم
هون علي إذا قضيت بسنــــــةٍ *** أو بالكتاب برغم أنف الراغم
وقضيت فيما لم أجد أثرًا بـــه *** بنظائر معروفة ومعالـــــــــم
وعن بن وهب قال: قال مالك: الحكم حكمان، حكم جاء به كتاب الله، وحكم أحكمته السنة؛ قال: ومجتهد رأيه فلعله يوفق.
وقال ابن القيم رحمه الله على قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65]، فأقسم سبحانه بأجل مقسم به، وهو بنفسه عز وجل على أنه لا يثبت لهم إيمان، ولا يكونون من أهله حتى يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع في جميع أبواب الدين، فإن لفظة (ما) من صيغ العموم تقتضي نفي الإيمان أو يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم، ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه؛ حيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا وهو الضيق والحصر من حكمه، بل يقبلون حكمه بالانشراح ويقابلونه بالتسليم، لا أنهم يأخذونه على إغماض ويشربون على قذًى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدور.
ومتى أراد العبد أن يعلم هذا، فلينظر في حاله ويطالعه في قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثيرٍ من الناس من كثير النصوص، وبودِّهم أن لو لم يردوكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها، ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر، ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فذكر الفعل مؤكدًا بمصدره القائم مقام ذكره مرتين وهو الخضوع له والانقياد لما حكم به طوعًا ورضًا وتسليمًا لا قهرًا ومصابرةً، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهًا، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبر به منها، وأرحم به منها، وأنصح له منها، وأعلم بمصالحه منها، وأقدر على تخليصها.
وأمل لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد أولها تصديرها بالقسم يتضمن المقسم عليه، وهو قوله: لا يظلمون، وثانيها: تأكيده بنفس القسم، وثالثها: تأكيده بالمقسم به وهو إقسامه بنفسه لا بشيء من مخلوقاته، ورابعًا: تأكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم، وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر، وما هذا إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم، وأنه مما يعتنى به ويقرر في نفوس العباد، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
______________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالعزيز السلمان
- التصنيف: