غربة العقيدة غربة التوحيد

منذ 2024-01-14

إن الدمار والقتل والتشريد والتنكيل بأهل غزة بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وصور الجنود الذين يلتفون حول مُسلمةٍ يتسلون عليها بسخرية واستهزاء يريدون كشف لباسها وهي تصرخ في وسطهم، وهم يتلاعبون بها، ليرى كل مسلم هذه السخرية من المسلمين ودين الإسلام.

أيها المسلم: هل تحس معي بالغربة؟

 

والله إني لأشعر بها، غربة تؤرقني ليل نهار، وحيثما كنت أشعر أني أعيش غريبًا، في فكري، وفي سلوكي.

 

لذلك تذكرت حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»؛ (رواه مسلم).

 

وفي رواية: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس».

 

إن الدمار والقتل والتشريد والتنكيل بأهل غزة بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وصور الجنود الذين يلتفون حول مُسلمةٍ يتسلون عليها بسخرية واستهزاء يريدون كشف لباسها وهي تصرخ في وسطهم، وهم يتلاعبون بها، ليرى كل مسلم هذه السخرية من المسلمين ودين الإسلام.

 

وعلى النقيض من ذلك نسمع بعض المسلمين يدَّعون أن مقاتلي أهل غزة هم السبب، وكان عليهم عدم القتال بل عليهم الصبر على الذبح والقتل وعليهم الاستسلام.

 

أليست هذه غربة ما بعدها غربة أن نشاهد ونسمع ذلك، وتطالعنا على مدار الساعة هذه المشاهد، والأصوات، والآراء الغريبة حتى ممن ينتسبون إلى الدعوة، وهم الذين يدعون التوحيد، والدفاع عن الدين، ونشره. فكل فرقة من فرق الإسلام تزعم لنفسها هذا الشرف.

 

إن الحصار الخانق للمسلمين في غزة، برًا وبحرًا وجوًّا بلا غذاء ولا ماء ولا كهرباء ولا دواء... ألم يتذكر هؤلاء وهؤلاء المرأة التي دخلت النار في هرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض»؛ (متفق عليه).

 

فهل هناك من يخاف أن يدخل النار، بسبب حصار أهل غزة؟!!

 

أليست هذه غربة؟!!

 

إن ما نسمعه من كثير من الدعاة، يؤكد أن كل واحدٍ منهم يستغل أحداث غزة لإبراز دور فرقته وجماعته والإشادة بها، ومهاجمة الفرق الأخري. وليست دعوته نابعة من كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

ألسيت هذه غربة العقيدة وغربة التوحيد؟!

 

وغربة التصور، وغربة الشعور، وغربة الكلمة، وغربة الحياة، وغربة المسير.

 

أوضاع وأحوال مغايرة تمام المغايرة لما فيه مرضاة الله، فيجد المسلم من رواسب النفاق في النفوس، ومن تصورات الشياطين في العقول، ومن قيم الجاهلية في الحياة، ومن ضغوطها في الأوضاع والأعصاب، ما يحس معه أن كلمة الإسلام التي يحملها، غريبة على أكثر الناس، ثقيلة على النفوس، مستنكرة في القلوب.

 

يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيجيء زمان على الناس يكون القابض منهم على دينه المتمسك به مثل الذي يقبض على الجمر لمزيد المشقة في حفظ دينه، ولكثرة المنكر وغربة الدين، وقلة المساعد والمعين، فمع مرور الزمان يقل تمسك الناس بدينهم.

 

روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلٌ للعربِ من شر قد اقترب، فتنٌ كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر، أو قال على الشوك».

 

وذلك لكثرة الفساد والفتن والمغريات وقلة الأعوان على الطاعة، ولمشقة التمسك بالدين واتباع السنة يكون الملتزم بدينه كالقابض على الجمر أو الشوك.

 

أصبحت كلمة الإسلام غريبة، بل جريمة في وسط هذه الحياة. كلمة ذات تكاليف بقدر ما تعنيه من الانقلاب الكامل لكل ما يعهده الناس مع شياطينهم من التصورات والأفكار، والقيم والموازين، والشرائع والقوانين، والعادات والتقاليد، والأوضاع والارتباطات من صنع اليهود وشياطينهم... ومن ثم يجد في صدره حرجًا من مواجهة الناس بكلمة التوحيد.

 

وكأننا في بداية عهد الإسلام ذلك الحرج الذي يدعو الله - سبحانه وتعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم، ألا يكون في صدره شيء منه أثناء دعوته، وأن يمضي به ينذر ويذكر؛ ولا يحفل ما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء.

 

قال تعالى: {كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِۦ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2].

 

نعم «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء»:

وهذا لا يقتضي أنه إذا صار غريبا يجوز تركه - والعياذ بالله بل الأمر كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

 

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

 

وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130 - 132].

 

أيها المسلم؛ أحرص على ما ينفعك، فلن ينفعك تعصبك لفرقة أو داعية أو بلدة أو قبيلة، واعلم أنَّ الدين لله، ولا طاعة لأحدٍ في معصية الله.

 

تمسك بكتاب ربك، {وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

 

وتمسك بقول رسولك الكريم ولو أن تعض على جزع شجرة، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟

 

قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟

 

قال: «نعم، وفيه دخن».

 

قلت: وما دخنه؟

 

قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر».

 

قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟

 

قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها».

 

قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟

 

قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.

 

قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.

 

قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟

 

قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك »؛ (البخاري).

_______________________________________________________

الكاتب: أ. د. فؤاد محمد موسى