مقاصد البلاء
فمن مقاصد البلاء إنقاذ العباد من سجن الشيطان، وتحريرهم من قيود الهوى والشهوات، وإيقاظهم من نوم الغفلة، فإذا هم يرجعون إلى الله ويُقبِلون عليه، ويجتهدون لإصلاح علاقتهم به
يبتلي الله تعالى عباده بما شاء من أنواع البلاء، وأصناف الشدائد والْمِحَنِ، إلا أن ذلك ليس مقصودًا للشرع الحكيم ابتداء، وإنما هو مقصود بالتبعية، أو هو مقصود قصد وسائل لا قصد غايات؛ إذ جعله الرب الكريم وسيلة لمقاصد شرعية، جِماعها إرادة الخير للمؤمنين؛ كما قال الحق سبحانه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وقال: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
وفيما يلي بعض مقاصد البلاء، مما نص عليه كتاب الله تعالى وسُنَّةُ نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
(أ) تنبيه الغافلين:
فرُبَّ عبدٍ غافلٍ عن الله تعالى، مضيِّعٍ لفرائضه، منشغلٍ بزينة الحياة الدنيا، ومنغمسٍ في شهواتها، فإذا نزل به بلاء، أفاق من غفلته، واستشعر ضعفه وفقره، ففرَّ إلى الله منيبًا مستغفرًا، واقفًا ببابه يرجو رحمته؛ وفي هذا يقول الله عز وجل: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]؛ أي: "اختبرناهم بالنعم والنقم، والشدة والرخاء؛ لعلهم يرجعون عن الكفر والمعاصي"[1].
فمن مقاصد البلاء إنقاذ العباد من سجن الشيطان، وتحريرهم من قيود الهوى والشهوات، وإيقاظهم من نوم الغفلة، فإذا هم يرجعون إلى الله ويُقبِلون عليه، ويجتهدون لإصلاح علاقتهم به، فيصلح حالهم؛ قال ابن عطاء الله السكندري: "من لم يُقبل على الله بملاطفات الإحسان، قُيِّد إليه بسلاسل الامتحان"[2].
(ب) تطهير المؤمنين:
فإن من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أنه إذا أراد أن يطهرهم من آثار ذنوبهم، أصابهم بشيء من البلاء؛ كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا همٍّ ولا حزن، ولا أذًى ولا غم، حتى الشوكة يُشاكُها - إلا كفَّر الله بها من خطاياه» [3]، وقال عليه الصلاة والسلام: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» [4]، وعن بعض السلف: "لولا مصائب الدنيا لَوَرَدْنا القيامة مفاليس".
(ج) تمحيصُ الصابرين:
فإن الله جل وعلا يبتلي عباده ليمحص إيمانهم، ويميز مراتبهم، ويُظهر أهل الصبر منهم عند نزول البلاء؛ قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]؛ قال الحسن البصري رحمه الله: "كانوا يتساوون في وقت النعم، فإذا نزل البلاء تباينوا"[5].
وقد خُصَّ أهل الصبر على البلاء بكرامات ربانية عديدة، وعطايا رحمانية مديدة؛ منها:
محبة الله لهم ودخولهم في معيته الخاصة:
قال تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
رفع درجاتهم:
ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل لَيكون له المنزلةُ عند الله فما يبلغها بعملٍ، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يُبلِّغه إياها» [6]، وإن أقرب الناس لله وأعلاهم درجة هم أنبياؤه ورسله، وهم أشد الناس بلاء؛ كما أخبر بذلك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
التمكين لهم:
سأل رجل الإمام الشافعي فقال: يا أبا عبدالله، أيما أفضل للرجل: أن يمكَّن أو يُبتلى؟ فقال الشافعي: لا يُمكَّن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم ألبتة[7].
* مغفرة ذنوبهم، ومضاعفة أجورهم، وتبشيرهم بما يسرهم:
قال الله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]، وقال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11]، وقال: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54]، وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقال: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111].
خاتمة:
إن مما يخفف من ثقل البلاء عن المؤمن، ويقويه على تحمُّله بصبر وثبات ورضًا ويقين، فلا يسخط، ولا يجزع، ولا يقنط علمَه بحقائق مهمة؛ منها:
(أ) إن ما ينزل بالعباد من بلاء لا يدوم، بل له أجل إذا حلَّ، ارتفع وانتهى؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: "للبلاء نهايات معلومة الوقت عند الله عز وجل، فلا بد للمبتلى من الصبر إلى أن ينقضي أوان البلاء"[8].
(ب) إن الذي ابتلاه إنما هو ربه الكريم الرحمن الرحيم، وإنه سبحانه يجعل لعباده المؤمنين فيما يبتليهم به خيرًا كثيرًا، لا يحصيه إلا هو؛ وقد قال جل وعلا: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وقال: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]؛ قال ابن القيم رحمه الله: "فمن صحَّت له معرفةُ ربه، والفقهُ في أسمائه وصفاته، علِم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه، والمحن التي تنزل به فيها ضروبٌ من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمُه، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب... ومتى ظفِر العبد بهذه المعرفة، سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه نعيمها إلا نعيم جنة الآخرة، فإنه لا يزال راضيًا عن ربه، والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين، فإنه طِيبُ النفس بما يجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له، وطُمَأْنِينتها إلى أحكامه الدينية، وهذا هو الرضا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا"[9]، وقال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: "ليخفف ألم البلاء عنك علمُك بأنه سبحانه هو المُبلي لك، الذي واجهتك منه الأقدار، هو الذي عوَّدك حسن الاختيار"[10].
[1] صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، ج1، ص: 443، دار الجيل، بيروت – لبنان، بدون تاريخ.
[2] حكم ابن عطاء الله السكندري، ص62، الحكمة رقم: 63، جمع وتقديم: أحمد الراجي، مطبوعات الهلال، بدون تاريخ.
[3] متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، رقم الحديث: 1664.
[4] رواه الترمذي في سننه، وقال: حديث حسن صحيح، رقم الحديث: 2399.
[5] صيد الخاطر، للإمام ابن الجوزي، ص: 139، تح: محمد بيومي، دار الغد الجديد، المنصورة، مصر، ط: 1 (1430هـ/2009م).
[6] صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم الحديث: 2599.
[7] الفوائد للإمام ابن قيم الجوزية، ص: 222، دار التقوى للنشر والتوزيع، بدون تاريخ.
[8] صيد الخاطر، ص: 155.
[9] كتاب الفوائد، ص: 91.
[10] حكم ابن عطاء الله السكندري، ص: 80، الحكمة رقم: 105.
- التصنيف: