التوضيح والبيان لفضل شهر شعبان

منذ 2024-02-19

شهر شعبان شهر مفضال فيه تُرفع الأعمال لذي العزة والجلال، شهر يغفل عنه الكثير من الناس بين رجب ورمضان، فاعرِف أخي لهذا الشهر فضله، وإياك أن تكون من الغافلين عنه..

من أشهر الله المباركة شهرُ شعبان، شهرٌ كريم مِفضال، تُرفَع فيه الأعمالُ، وما ذاك إلا لرِفعة قدره عند ذي الجلال، شهر يغفل عنه الناسُ، فطوبَى لمن أقبَل على الله فيه، فلم يكن من الغافلين، بل ثابَر واجتهَد وفي مختلف أبواب الخير جَدَّ، فيحل عليه رمضان وقد امتلأ قلبه بالإيمان، واطمأنَّت نفسه وجوارحه لطاعة الديان، فيستقبله برُوح كلها أشواق، وقلب كله تواقٌ لصيام نهاره وقيام ليله، والتلذذ بقراءة كتاب ربه، حرَّكه ذلك النداء {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]، فعَلِم أنه أعظمُ نداء، كيف لا وهو نداء بالفوز السرمدي والسرور الأبدي، فشمِّر على ساعد الجد، ورفْع الهِمة، ونافس لبلوغ القمة، ولم يَرضَ لنفسه بالدون، ونابذ أهل السفول والهون، وسيكون مقالي هذا في المباحث التالية:

1- معنى كلمة شعبان.

2- لماذا سُمي شعبان بهذا الاسم؟

3- من فضائل شهر شعبان:

أ- شهر بين شهر محرم وشهر رمضان.

ب- شهر يغفل عنه الناس.

ج- شهر تُرفع فيه الأعمال.

 

4- كيف نستثمر شهر شعبان؟

5- استحباب الصيام كعمل من أفضل الأعمال في هذا الشهر المفضال.

6- وقفة مع مسألة تتعلق بالصيام في النصف الثاني من شعبان.

 

7- من البدع في شهر شعبان:

أ- بدعة النصف من شعبان.

ب- صلاة الرغائب.

 

8- وقفة مع حديث اطلاع الله تعالى في ليلة النصف من شعبان.

 

1- معنى كلمة شعبان:

كلمة شعبان على وزن فعلان من مادة (شعب)؛ جاء في اللسان لابن منظور:(شعب) الشَّعْبُ الجَمعُ والتَّفْريقُ والإِصلاحُ والإِفْسادُ ضدٌّ... شَعَبَه يَشْعَبُه شَعْبًا فانْشَعَبَ وشَعَّبَه فَتَشَعَّب... قال الأَصْمَعِيُّ شَعَبَ الرَّجُلُ أَمْرَهُ إِذا شَتَّتَه... وفي حديث عائشة رضي اللّه عنها وَوَصَفَتْ أَباها رضي اللّه عنه يَرْأَبُ شَعْبَها أَي يَجْمَعُ مُتَفَرِّقَ أَمْرِ الأُمّةِ وكلِمَتَها، وقد يكونُ الشَّعْبُ بمعنى الإِصلاحِ في غير هذا وهو من الأَضْدادِ والشَّعْبُ شَعْبُ الرَّأْسِ وهو شأْنُه الذي يَضُمُّ قَبائِلَه... وشُعَبُ الغُصْنِ أَطرافُه المُتَفَرِّقَة وكلُّه راجعٌ إلى معنى الافتراقِ... والتَّشَعُّبُ التفرُّق والانْشِعابُ مِثلُه، وانْشَعَبَ الطريقُ تَفَرَّقَ... والشُّعْبةُ الفِرْقة والطائفة من الشيءِ... وفي الحديث الحياءُ شُعْبةٌ من الإِيمانِ؛ أَي طائفةٌ منه وقِطعة....[1].

 

جاء في المعجم الوسيط: (شعب) الشيء شعبًا: تفرَّق، وإليه نزع واشتاق، وعنه بعد، والشيء فرَّقه، واستُعمل في الضد، فقيل: شعب الصدع لَمَّه وأصلَحه...[2].

 

2- لماذا سمي شعبان بهذا الاسم؟

تعدت أقوال العلماء في سبب تسمية شهر شعبان بهذا الاسم:

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قيل: سُمي بذلك لتشعُّبهم فيه؛ أي لتفرُّقهم.

 

وسُمي شعبان لتشعُّبهم في طلب المياه.

 

• أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام، وهذا أَولى من الذي قبله، وقيل فيه غير ذلك[3]؛ وذلك لأن الحروب كانت محرمة عليهم في شهر رجب المحرم..

 

قال الشيخ بدر الدين العيني رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح البخاري:

واشتقاق شعبان من الشعب وهو الاجتماع، سُمي به؛ لأنه يتشعب فيه خيرٌ كثير كرمضان، وقيل: لأنهم كانوا يتشعبون فيه بعد التفرقة، ويجمع على شعابين وشعبانات، وقال ابن دريد: سُمي بذلك لتشعُّبهم فيه؛ أي لتفرقهم في طلب المياه، وفي (المحكم) سُمي بذلك لتشعبهم في الغارات، وقال ثعلب[4]: قال بعضهم: إنما سُمي شعبانًا؛ لأنه شعب؛ أي ظهر بين رمضان ورجب، وعن ثعلب كان شعبان شهرًا تتشعب فيه القبائل؛ أي تتفرق لقصد الملوك والتماس العطية وفي (التلويح)[5].

 

3- من فضائل شهر شعبان:

أ- شهر بين شهر المحرم وشهر رمضان:

من فضائل شهر شعبان أنه شهر بين شهرين جليلين:

الأول شهر رجب مضر الذي يعتبر أحد الأشهر المحرمة التي خصها الله بفضيلة دون غيرها؛ حيث تُضاعف فيه الأجور والحسنات، كما تضاعف فيه الأوزار والسيئات كباقي أشهر الله المحرمة.

 

الثاني شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وميَّزه الله بعظيم الفضائل والخصال...

 

والمجاور لوقت الخير لا بد أن ينال من ذلك الخير..

 

ب- شهر يغفل عنه الناس:

عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان...[6].

 

ولا ريب أن وصف الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لشهر شعبان بأنه شهر يغفل عنه الناس، يدل غاية الدلالة على أنه شهر عظيم لا يستحق الغفلة عنه ولا الإهمال، بل الاهتمام به والانشغال؛ لأنه شهر مبارك مفضال.

 

ج- شهر ترفع فيه الأعمال:

إن من ميزات شهر شعبان أنه شهر ترفع فيع الأعمال إلى الله ذي الجلال، وهناك ثلاثة أوقات لرفع عمل العبد:

الرفع اليومي والليلي: وقد دل عليه حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يرفعه: إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه؛ مسلم.

 

الرفع الأسبوعي: وهذا الرفع يكون يومي الاثنين والخميس، عن مولى أسامة بن زيد أنه انطلق مع أسامة إلى (وادي القُرَى) في طلب مال له، فكان يصوم يوم الاثنين والخميس، فقال له مولاه: لِمَ تصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، وأنت شيخ كبير؟! فقال: إن نبيَّ اللهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، وسُئِلَ عن ذلك؟ فقال: «إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس»؛ (صحيح أبي داود) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم»؛ (صحيح الترمذي).

 

الرفع السنوي: ويكون في شهر شعبان: كما صح النبي المختار عليه أفضل الصلوات ما دام الليل والنهار: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر يرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحب أن يرفع عملي وأنا صائم.

 

الرفع العمري: وذاك عند انقضاء عمر الإنسان، فإن صحيفته تطوى بمجرد موته، وترفع إلى رب العباد؛ ليلقى جزاءه يوم المعاد؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ونظيرُ هذا رفع الأعمال، وعرضها على الله تعالى، فإن عمل العام يُرفع في شعبان، كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال، فأُحب أن يرفع عملي وأنا صائم، ويعرض عمل الأسبوع يوم الاثنين والخميس؛ كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وعمل اليوم يرفع في آخره قبل الليل وعمل الليل في آخره قبل النهار، فهذا الرفع في اليوم والليلة أخص من الرفع في العام، وإذا انقضى الأجل رُفع عمل العمر كله، وطُويت صحيفة العمل[7].

 

4- كيف نستثمر شهر شعبان؟

شهر شعبان شهر مفضال فيه تُرفع الأعمال لذي العزة والجلال، شهر يغفل عنه الكثير من الناس بين رجب ورمضان، فاعرِف أخي لهذا الشهر فضله، وإياك أن تكون من الغافلين عنه، وجد واجتهد لئلا تدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: يغفل عنه الناس؛ ثابِر وواصل وارفَع راية المقاومة؛ لئلا يجرفك تيار الغفلة، هذا الداء العضال الذي أصاب كثيرًا من المسلمين، غفلة عن الآخرة ما بعدها غفلة، وحُب للفانية وإيثارها عن الباقية، والواقع أدل دليل على هذا القيل، ويخشى على هؤلاء أن يكون لهم نصيب من هذا الوصف الذي يقول الله تعالى فيه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون} [الروم: 7].

 

يقول العلامة السعدي في تأوليها: قد توجَّهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها وحُطامها، فعمِلت لها وسَعت وأقبلت بها، وأدبرت وغفلت عن الآخرة، فلا الجنة تشتاق إليها ولا النار تخافها وتخشاها، ولا المقام بين يدي الله ولقائه يَروعها ويُزعجها، وهذا علامة الشقاء وعنوان الغفلة عن الآخرة[8].

 

يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى: والله لَبَلَغَ من أحدهم بدنياه أنه يقلِّب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه، وما يُحسن أن يصلي[9].

 

فالغفلة عارض كبير ضد الإرادة، ولا محرك للقلب إلا الإرادة، فإذا حلَّت الغفلة ضعفت الإرادة، وبالتالي ضعفت حركة القلب لفعل الخير.

 

يقول شيخ الإسلام عليه رحمة المنان: ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب، فكلما قوِيت المحبة في القلب، طلب القلب فعل المحبوبات، فإذا كانت المحبة تامة، استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات[10].

 

فشهر شعبان شهر غفَل عنه كثيرٌ من الأنام، فلا ريب أنه العبادة فيه عبادة في وقت الغفلة، والعبادة يعظم أجرُها ويكبُر قدرُها عند غفلة الناس وسهوهم، أو ركونهم إلى الدعة ونومهم، فشتان شتان بين عبادة أو طاعة في وقت الانتباه واليقظة، وطاعة في وقت الغفلة والدعة.

 

فحكمة الحكيم سبحانه تأبى هذه التسوية، كما أن العقل الصريح لا بد أن يُقر بالفرق الكبير والبون الشاسع بين الطاعتين لاختلاف الوقتين، وقد دل الكتاب الكريم وسنة سيد المرسلين على هذه الحقيقة التي قد يغفل عنها معظمُ الناس إلا من رحم ربك، وقليل ما هم، ومن أوضح وأجمع ما دل على عظم شأن العبادة ورِفعة مقامها وقتَ الغفلة والفتنة قول المصطفى صلى الله علي وسلم: «عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إليَّ» ، وفي رواية: «العبادة في الهرج كهجرة إليَّ»؛ (مسلم).

 

وقد بوَّب الإمام مسلم رحمه الله تعالى على هذا الحديث بقوله: باب فضل العبادة في الهرج؛ يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه: المراد بالهرج هنا الفتنة، واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد[11].

 

فعليك أخي أن تشمر عن ساعد الجد في هذا الشهر الكريم، وعارض الغفلة بقوة الإرادة، وارفع بصيرتك للمنازل العلى، فقد أُعدت لأهل الهمم العلى، وإنك لن تعدم أبواب الخير، فهي كثيرة ولله الحمد، فاحرِص أن تضرب بسهم في كل منها، يا رعاك الله.

 

واعتبر أخي هذا الشهر مع ما فيه من الفضائل شهرًا للاستعداد لشهر رمضان، ولا تكُن ممن تكاسل في شعبان حتى إذا حلَّ رمضان وجد القلب في غاية الدعة والكسل، فكيف لصاحب هذا القلب أن ينافس المتنافسين، ويشمِّر مع المشمرين في شهر الصيام ونزول الفرقان، والله المستعان.

 

فإن القلوب الكسلانة والنفوس الضعيفة لن يجدي فيها رمضان شيئًا، ولعله ينصرم عنها كما حل، فلا تزداد إلا خيبة وخسارًا، في وقت حصل فيه أهل الجد عند الله درجات ومفازًا..

 

5- استحباب الصيام كعمل من أفضل الأعمال في هذا الشهر المفضال:

إن من أعظم الطاعات وأجلِّ القربات عند رب الأرض والسماوات: الإمساكَ عمَّا أحل من الملذات والشهوات طيلة اليوم احتسابًا للأجر وطمعًا في حسن المكرمات، إنه الصيام الذي يجعل العبد يرتقي ليتصف ببعض صفات سكان السماوات، ملائكة الرحمن الذين خلقوا للعبادة، فلم تُزرع فيهم أدنى شهوة من الشهوات، وتتأكد أهمية الصيام كقربة من القربات حينما يكون المحل من أفضل المحلات والوقت من أفضل الأوقات، فكيف بالصيام في شهر أخبر الصادق أنه عند الناس من أزمنة الغفلات، وكيف بالصيام في شهر ترفع فيه أعمال السنة لرب البريات، وكيف بالصيام في شهر يتلوه شهر الصيام والمثوبات.

 

6- وقفة مع مسألة تتعلق بالصيام في النصف الثاني من شعبان:

ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيرَ الصيام في شهر شعبان، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصوم، حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استكمل صيام شَهْرٍ قط إلا رمضان، وما رأيته في شهرٍ أكثرَ صيامًا منه في شعبان؛ (صحيح أبي داود) ، وعن أسامة رضي الله عنه قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، فقال: «قال ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»؛ (صحيح الترغيب والترهيب).

 

إذًا فمن أفضل الأعمال في هذا الشهر المبارك الصيام، لكن ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان» [12].

 

وقد اختلف في هذا الحديث فمن أهل العلم من ضعَّفه كالإمام أحمد بن حنبل وابن معين، وغيرهم من أئمة الحديث، ولعل من أسباب رده هذا الحديث كما قال بعض أهل العلم: ظهور التعارض بينه وبين الأحاديث الأخرى في استحباب الصوم في شعبان، لكن كما يقول العلماء: الجمع أولى من الترجيح[13]، وهنا يمكن الجمع، وهو أن النهي عن صوم النصف من شعبان يخص من لم يكن له صوم راتب، فانتظر حتى ينتصف شعبان ليصوم، أما من كان له صومٌ، فله أن يصوم ما شاء في النصف الثاني.

 

ومن الأحاديث التي يظهر تعارضُها مع حديث أبي هريرة المتقدم: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا شهر رمضان بصوم قبله بيوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومًا فليصُمه»؛ (مسلم وغيره).

 

فمفهوم هذا الحديث أنه يجوز تقدُّم رمضان بأكثر من يومين، فيجوز صوم ما قدر للإنسان في النصف الثاني من شعبان، ومن أهل العلم من قال بالكراهة؛ أي: كراهة الصيام بعد منتصف شعبان.

 

7- من البدع في شهر شعبان:

من الأمور التي أضعفت الأمة الإسلامية، ونخرت في جسدها: انتشارُ البدع بين أفرادها وشعوبها، هذه البدع التي ما تركت باب من الأبواب إلا ولجته، سواء في العقائد أو العبادات أو المعاملات، وصالت وجالت حتى أضحت في اعتقاد الكثير من المسلمين هي السنة، والسنة صارت عندهم هي البدعة، والله المستعان.

 

وقد يستصغر الكثير من الناس أمرَ البدع، لكن والله إن خطر البدع جسيم، وأثرها السيئ على الأمة عظيم، ولعِظم شأن البدع فقد خصَّها علماء الإسلام بالتأليف والتصنيف، ولم يسلم شهرُ الله المبارك شعبان من هذه البدع، ومن أهمها بدعتان منكرتان:

أ- بدعة النصف من شعبان:

وذلك بتخصيص يومه بالصيام وليله بالاحتفال والقيام، معتقدين أن لذلك ثوابًا عظيمًا، ومما استند إليه أصحاب هذه البدعة المنكرة حديث: إذا كان ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلتها وصوموا يومها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له؟ ألا مسترزق فأرزُقه؟ ألا مبتلى فأعافيه؟ ألا سائل فأُعطيه؟ ألا كذا ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر، وهو حديث موضوع مكذوب عن النبي صلى الله عليه وسلم كما حكم بذلك الأئمة الأعلام كالشيخ الألباني عليه رحمة المنان، فالذي عليه جمهور العلماء أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بدعة منكرة، وكل ما ورد في فضلها ضعيفٌ أو موضوع، وقد أنكرها العلماء أشدَّ الإنكار في تصانيفهم حول البدع، منهم أبو شامة رحمه الله تعالى في كتابه: (الباعث على إنكار البدع)، يقول فيه: فصل في بدعة النصف من شعبان: فأما الألفية فصلاةُ ليلة النصف من شعبان سُميت بذلك؛ لأنها يقرأ فيها قل هو الله أحد ألف مرة؛ لأنها مائة ركعة، في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة وبعدها سورة الإخلاص عشر مرات، وهي صلاة طويلة مستثقلة، لم يأت فيها خبرٌ ولا أثر إلا ضعيفٌ أو موضوعٌ، وللعوام بها افتتان عظيم، والتزم بسببها كثرةُ الوقيد في جميع مساجد البلاد التي تُصلَّى فيها، ويستمر ذلك كله ويجري فيه الفسوق والعصيان، واختلاط الرجال بالنساء، ومن الفتن المختلفة ما شهرته تغني عن وصفه للمتعبِّدين من العوام، فيها اعتقاد متين، وزيَّن الشيطان لهم جعْلَها من أجلِّ شعائر المسلمين[14].

 

يقول العلامة عبد العزيز الطرفي حفظه الله تعالى: وقد نص غيرُ واحد من العلماء على أنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة معينة في ليلة النصف من شعبان - شيءٌ، نص على ذلك جماعة كأبي الفرج ابن الجوزي، ونص عليه كذلك أبو شامة، ونص عليه أيضًا ابن تيمية وابن القيم، وغيرهم من العلماء، ولا أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعبد لله عز وجل عبادة معينة بينة في ليلة النصف من شعبان.

 

ب- صلاة الرغائب:

الصحيح فيما يتعلق بصلاة الرغائب أنها بدعة لا يجوز التعبد لله بها، فهي داخلة في طريق الصلاة التي حذَّر منها النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».

 

والغريب أنهم اختلفوا في هذه الصلاة، فمنهم قال أنها في النصف من شعبان، ومنهم من قال أنها في أول ليلة من رجب، وغير ذلك؛ يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي ثنتي عشرة ركعة، تُصلى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة، وهاتان الصلاتان بدعتان ومنكران قبيحتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب واحياء علوم الدين، ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتَبه عليه حكمُهما من الأئمة، فصنَّف ورقات في استحبابهما، فإنه غالط في ذلك، وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتابًا نفيسًا في إبطالهما، فأحسن فيه وأجاد رحمه الله تعالى[15].

 

ومن العلماء الربانيين الذين قاموا بقوة وحزم ضد هذه البدعة المنكرة: سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، فقد جاهر بإنكارها على المنابر، بل ألف في ذلك مؤلفًا سماه: الترهيب عن صلاة الرغائب، حذَّر الناس فيه من ركوب البدع، والتقرب إلى الله تعالى بما لم يَشرع، وأراد فطام الناس عنها قولًا وفعلًا.

 

يقول العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى: (أقوال المحدثين والثقات في عبادات ليلة النصف من شعبان): رُوي في الموضوعات والواهيات والضعاف التي لا يُحتج بها أحاديث في كثير من العبادات؛ منها: صلاة ليلة الرغائب من رجب وليلة نصف شعبان...[16].

 

8- وقفة مع حديث اطلاع الله تعالى في ليلة النصف من شعبان:

أختم بوقفة مع الحديث المشهور: «إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ».

 

هذا الحديث اختلف العلماء فيه، فمنهم من صححه كالعلامة الألباني، ومنهم من حكم عليه بالضعف؛ يقول الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: (المشرك: كل من أشرك مع الله شيئًا في ذاته تعالى، أو في صفاته أو في عبادته، والمشاحن: قال ابن الأثير: هو المعادي، والشًّحناء: العداوة، والتشاحن تفاعل منه، وقال الأوزاعي: أراد بالمشاحن ها هنا صاحب البدعة المفارق لجماعة الأمة)[17].

 

وعلى فرض صحته، فإنه لا دخل له بما ابتدعه أهل البدع في ليلة النصف من شعبان، فالحديث إن صح يدل على اطلاع الله تعالى على خلقه ليغفر لهم الزلات ويصفح عن السيئات...

 

والعجيب أن المبتدع بسبب ما تسلَّط عليه من الهوى والشيطان، فقد التمييز والبرهان والفرقان، فكيف يفوز بالمغفرة في هذه الليلة من أعرض عن اتباع سبيل السنة والهدى، وآثر طريق البدع والرَّدى...؟

 

فأسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يعرِف لشهر شعبان حقَّه، وألا نكون من الغافلين عن معرفة قدره، وأن يبلغنا رمضان شهر الصيام والقيام والقرآن، وأن نكون ممن استعمله ربُّه في طاعته حتى آخر لحظة في حياته، متحققًا فيه قوله تعالى:  {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

 


[1] لسان العرب:1/ 497.

[2] المعجم الوسيط:1/ 483.

[3] فتح الباري:4/ 213.

[4] من أئمة النحو في الكوفة.

[5] عمدة القاري شرح صحيح البخاري:17/ 49.

[6] رواه النسائي صححه الألباني في الصحيحة تحت رقم: 1898.

[7] حاشية ابن القيم على سنن أبي داود:12/ 313.

[8] تيسير الرحمن:636.

[9] تفسير ابن كثير:6/ 305.

[10] كتاب العبودية:95.

[11] شرح النووي على مسلم:18/ 89.

[12] رواه أصحاب السنن الأربعة وغيرهم وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع تحت رقم:397.

[13] وذلك لأن في الجمع إعمال للنصين معا بخلاف الترجيح ففيه إعمال لأحدهما وإهمال للآخر، كما هو مقرر في أصول الفقه.

[14] الباعث على إنكار البدع :34-35.

[15] المجموع شرح المهذب للإمام النووي (676هـ)، وهو شرح النووي لكتاب المهذب للشيرازي (المتوفى : 476 هـ).-4/ 56-.

[16] مجلة المنار:14/ 250.

[17] الصحيحة:4/ 86.

________________________________________________________
الكاتب: ناصر عبدالغفور