يا من أسأت الاستقبال.. أحسن الوداع

منذ 2024-04-02

لا تقل فات الأوان! ولو بقي في هذا الشهر المبارك دقيقة، فما يدريك لعله أن يُكتب عتقُ رقبتك من النار في هذه الدقيقة..؟

معَ إعلانِ رؤية الهلال تهللت الوجوهُ وانشرحت الصدورُ.. حتى المُقصِّر شعر بالراحة، إذ لعل تقصيرَه سيتقلص في ليالي رمضان المباركة، أو لعل البركة تدركه بأعمال من حوله من أهل الصلاح!

 

ومن فورها عُمّرت المساجد، وعلا صوتُ الحق، وشرع كلُّ إمام في صلاة القيام، وبدأت المسابقة..

 

علت في المساجد سورةُ البقرة مُعلنة بدايةَ السباق واستعداد العُبَّاد..

 

فيا لسعادة الخاشعين بهذا الجو الإيماني، ويا لهناء المتقين بأيامه!

 

بدأ رمضان وبدأت معه الهمم تناطح السحاب، يعزم أحدُهم أن يختم كلَّ ثلاث، وآخرُ على ختمة كل أربعة، ومن يعرف من نفسه ضعفًا لعله قرر أن يختم كل أسبوع!

كيف لا وهو شهر علو الهمة؟!

كيف لا وبدخوله تتغير النفوس وتقوى العزائم؟!

كيف لا وهو إذا تكرر في العام المُقبل فقد لا يدركونه هم؟!

 

ويعزم آخر على عدم التفريط في صلاة الجماعة، ويحرص أشد الحرص عليها.

كيف لا يفعل وهو يرجو العتق فيه من النيران مع كل ليلة يتجدد فيها الأمل؟!

 

بدأت أيامُه المباركة، وبدأت الدروسُ التهذيبية للنفوس، تغيرت المعاملاتُ وتغيرت الكلمات، فكلٌ ينتقي كلماتِه التي سيقولها، حفاظًا على ثواب صيامه، وإن طرأ على خاطره شيء فكّر فيه واستبدل به ما هو أليق بمثل هذا الشهر المبارك..

 

حتى الأطفال علت هممُهم وزادت، يرجون الأجر من الله! ينظرون إلى الكبار ولسان حالهم: لن تسبقونا إلى الله! فهذا طفل في الخامسة يعزم على صوم أيامه ومرافقة أبيه في صلاة القيام؛ يريد ألا يضيع الحسنات ولا يفوت الفرص، وهو في هذا العمر..

 

وتمضي أيامُه المباركة، وتتسابق سويعاتُه العطرة، ثم ما أسرعَ انقضاءَ كل ما كانت له مدة وفناء كل ما كانت له عدة، ومع مرور الأيام، ومع ما جبلت عليه النفوس البشرية من سرعة الملل وضعف الهمم، تعتاد النفسُ تلك الأجواءَ، ولا تستشعر عظمتها، ويركن القلب إلى الدعة وتطلب النفس راحتها!

 

بعد أن ذاق في سجوده حلاوةَ الإيمان، وبعد أن استشعر سعادتَه في ختم القرآن أكثر من مرة، وبعد أن حرَصت نفسُه على العبادة وراقب لسانَه وجنّبه الزلل، تركن نفسُه وتميل إلى ما تميل إليه كل نفس بشرية.

 

سبحان الله!

لا يصبر الكثيرُ على ثلاثين يومًا!

أين ما كان من حالنا عند استقبال شهرنا؟

أين المساجدُ التي كانت عامرةً حتى لا يكاد الرجل يجد له مكانًا إن تأخر؟!

أين الهممُ وأين العزائم؟!

أين الطاعاتُ والقربات؟!

أين محاسبة النفس ومراقبة الأفعال؟!

 

فترت الهممُ، وتناقص العدد، ولم يبق إلا ثلة من أصحاب القلوب الحية..

يعلمون أنهم يحيون شهرًا ليس كسائر الشهور!

يعلمون أن دقائقَه غالية ليست كالدقائق!

بل يعلمون أن الله تفضل عليهم وأعانهم على حسن استقباله وحسن استغلاله.

ويُشفِقون من انقضاء لياليه دون تحصيل الأجر!

يخشَون فواتَ الثواب واستحقاقَ العقاب.

ولا يخشى ذلك إلا أصحابُ القلوب الحية.

 

هُرعوا إلى ربهم، وعلموا قيمةَ شهرهم، وزاد خوفُهم بمرور أيامه ولياليه، ولسان حالهم يقول:

يا شهر رمضان ترفَّقْ..!
دموعُ المحبين تدفّق..!
قلوبُهم من الفراق تشقّق..!
عسى وقفةٌ للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرَق..!
عسى توبةٌ وإقلاعٌ يرقع من الصيام ما تخرّق..!
عسى مُنقطِعٌ عن ركب المقبولين يلحق..!
عسى من استوجب النارَ يعتق..!

قد يقول قائل: فات الأوانُ وأدلج المدلجون!

لا والله ما فات، وبابُ التوبة مفتوحٌ ينادي على من يرغب بصدق ويعزم بجد.

لا تقل فات الأوان!

ولو بقي في هذا الشهر المبارك دقيقة، فما يدريك لعله أن يُكتب عتقُ رقبتك من النار في هذه الدقيقة..؟

 

ثم ما بقي إلا خيرُ الأيام وأشرف الليالي، وما يدريك لعلك توافق ليلةَ القدر فتفوز بخيري الدنيا والآخرة؛ فمن حرم خيرَها فقد حرم.

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه.

 

فلا تضيع الوقت وإن ضيعت وفرطت في بداية الشهر..

وإن أسأتَ وتعديت في أوله.. فأحسن واصدُق في آخره.

 

اجعل من هذه الليالي القليلة مطيتَك إلى الجِنان ممتطيًا جوادَ الهمة، مُسابقًا إخوانَك بفرس الجد، فعسى أن تكون ممن قيل فيهم: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

 

لا تظن أن ختمَ القرآن في هذه الليالي صعبٌ وشاق، ولا تحسبن الوقتَ ضيقًا، لا والله، فمن السلف من كان يختم القرآن في ليلة، ومن الخلف من أهل الخير والصلاح من يفعل ذلك، ومنهم من يختم في ثلاث، فلِم لا تكون منهم؟

 

لم تحرم نفسَك الأجرَ وتضيع الثواب؟ وتظن أن الوقت قد فات وأن من سبق قد سبق، وتذكَّر قول رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: «إن العبدَ ليعملُ عملَ أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم»، (رواه البخاري).

 

فاللهَ نسأل أن يحسن خواتيمَنا، وأن يجعلنا ممن أُعتقت رقابُهم في هذا الشهر المبارك، وأن يعيننا على حسن توديعه، ويغفر لنا ما فرّطنا فيه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_______________________________________________________________
الكاتب: أ. مروة يوسف عاشور