فضل علم الحديث ورجاله

منذ 2024-04-17

وأي شيء أعظم من علم قائم على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله، وسننه وأيامه، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بدايته، وإليه مستنده وغايته.

لا شك أن علم الحديث من أشرف العلوم وأجَلِّها، فهو مرتبط بالسنة النبوية المطهرة، التي تعد المصدر الثاني للتشريع، والمتضمنة كل الأحكام التفصيلية لشرعنا الحنيف، والمبينة لما جاء مجملًا في القرآن الكريم، قال الشيخ حافظ الحكمي:

وبعدُ إن أشرف العلــــــوم   ***   بعد كتاب الصمد القيـوم 

علم الحديث إذ هو البيان   ***   لما به قد أنزل القـــــــرآن 

فسنة النبي وحي ثــــــان   ***   عليهما قد أطلق الوحيانِ 

 

ولهذا العلم النفيس فضائل جمة نافعة، منها:

نسبته إلى خير الأنام صلى الله عليه وسلم، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وأحواله، هو مدار هذا العلم الشريف، وكفى بالمحدث شرفًا أنه يقول في كل منطقه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكم نال أهل الرواية من الشرف العظيم حين جعلوا أنفسهم حلقة في سلسلة سند تنتهي برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال السيوطي: "ليس لأهل الحديث منقبة أشرف من ذلك؛ لأنه لا إمام لهم غيره صلى الله عليه وسلم"[1].

 

قلت: وأي شيء أعظم من علم قائم على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله، وسننه وأيامه، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بدايته، وإليه مستنده وغايته.

 

ومنها: حاجة كل العلوم الشرعية الأخرى إليه، فما من أصولي، ولا مفسر، ولا فقيه، ولا أخباري، إلا احتاج إلى أن يستند إلى هذا العلم الشريف، للإحاطة بما يخوض فيه، ويتوصل إلى الدليل والشاهد، ويتجنب الزلل والشارد، قال ابن الصلاح رحمه الله في مقدمته: "وهو من أكثر العلوم تولجًا في فنونها، لا سيما الفقه الذي هو إنسان عيونها؛ ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مصنِّفي الفقهاء، وظهر الخلل في كلام المخلين به من العلماء"[2].

 

وقال الحافظ شارحًا ومقرظًا: "والمراد بالعلوم هنا الشرعية؛ وهي: التفسير، والحديث، والفقه، لاحتياج كل من العلوم الثلاثة إليه، أما الحديث فظاهر، وأما التفسير، فإن أولى ما فسر به كلام الله تعالى: ما ثبت عن نبيه صلى الله عليه وسلم، ويحتاج الناظر في ذلك إلى معرفة ما ثبت مما لم يثبت، وأما الفقه فلاحتياج الفقيه إلى الاستدلال بما ثبت من الحديث دون ما لم يثبت، ولا يتبين ذلك إلا بعلم الحديث"[3].

 

ومنها: الذب عن قواعد الدين وأحكامه، بمعرفة صحيح ما روي عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، والكشف عن ضعيفه ومكذوبه؛ ولذا كان من أهم أسباب الوضع: أن عمد الزنادقة إلى اختلاق الحديث ليفتنوا الناس في دينهم، ويحلوا لهم الحرام، ويحرموا عليهم الحلال، ويدسوا عليهم رديء الاعتقاد، نسأل الله العافية.

 

وما أحسن وأجمل ما قاله الإمام مسلم في مقدمته النفيسة لصحيحه: "وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث، وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا، لما فيه من عظيم الخطر؛ إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل، أو تحريم، أو أمر، أو نهي، أو ترغيب، أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثمًا بفعله ذلك، غاشًّا لعوامِّ المسلمين؛ إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها، أو يستعمل بعضها ولعلها، أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها.."[4].

 

قلت: فأهل الحديث هم درع الإسلام وسيفه، وحصنه وقلعته، بهم تحمى قواعد الدين وأحكامه وتصان من الدس والكذب، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: " «سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم، ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم» "[5]، وفي لفظ آخر: " «يكون في آخر الزمان دجَّالون كذَّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم، ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم، ولا يفتنونكم» ".

 

وأصحاب الحديث هم الذين يتصدون لهؤلاء الدجَّالين، ويدرءون كذبهم عن الدين. وما أحسن ما نقل عن الرشيد رحمه الله حين أخذ زنديقًا يضع الحديث وأمر بقتله، فقال الزنديق: أين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله؟ قال: وأين أنت - يا عدوَّ الله - من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك يتخللانها فيخرجانها حرفًا حرفًا؟[6]

 

وفي هذا المعنى قال سفيان الثوري: "الملائكة حرَّاس السماء، وأصحاب الحديث حرَّاس الأرض"[7].

 

وقال يزيد بن زريع: "لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد"[8].

 

فرجال الحديث هم حصن هذه الأمة وفرسانها وحرَّاس قلعتها.

 

ومنها: الثناء والدعاء والتزكية التي تنال المشتغلين بهذا العلم الشريف، وحسبهم قول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: " «نضَّر الله عبدًا سمع مقالتي هذه فحملها، فرُبَّ حامل الفقه فيه غير فقيه، ورُبَّ حامل الفقه إلى من هو أفقه منه..» "[9].

 

ومن طريق أخرى: "نضَّر الله امرأً سمع مقالتي، فوعاها، ثم أدَّاها إلى من لم يسمعها، فرُبَّ حامل فقه لا فقه له، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه"[10].

 

قال القرطبي: "يقال: نضَّرهم الله ينضرهم نضرةً ونضارةً، وهو الإشراق والعيش والغنى، ومنه الحديث: (( «نضَّر اللهُ امرأً سمع مقالتي فوعاها» ))"[11].

 

قال سفيان بن عيينة: "ما من أحد يطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( «نضَّر الله امرأً سمع منا حديثًا فبلغه» ))"[12].

 

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلَّا كان على وجهه نضرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( «نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها» )) الحديث. قال: وهذا دعاء منه عليه السلام لحمالة علمه، ولا بد بفضل الله من نيل بركته، وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس العزفي رحمه الله بقوله:

أهل الحديث عصابة الحق   ***    فازوا بدعوة سيد الخلق 

فوجوههم زهر منضــــــرة   ***    لألاؤها كتألق البــــــــرق 

يا ليتني معهم فيدركنـــي   ***    ما أدركوا بها من السبــق[13] 

 

وقال أبو العلا المباركفوري: "وهذا يدل على شرف الحديث وفضله ودرجة طلابه، حيث خصَّهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء لم يشرك فيه أحدًا من الأمة، ولو لم يكن في طلب الحديث وحفظه وتبليغه فائدة سوى أن يستفيد بركة هذه الدعوة المباركة لكفى ذلك فائدة وغنمًا، وجل من الدارين حظًّا وقسمًا"[14].

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: " «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» "[15]، قال البخاري رحمه الله: وهم أهل العلم.

 

وقال يزيد بن هارون: "إن لم يكونوا أصحاب الحديث، فلا أدري من هم"، ونحوه قال أحمد بن حنبل، وقال ابن المبارك: "هم عندي أصحاب الحديث"، وقال أحمد بن سنان: "هم عندي أهل العلم وأصحاب الآثار"، وقال علي بن المديني: "هم أصحاب الحديث"[16].

 

علم الحديث هو الفصل عند التنازع والاختلاف، قال تعالى: ﴿  {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}  ﴾ [النساء: 59].

 

قال مجاهد وقتادة وميمون بن مهران وغيرهم: "فردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله"[17].

 

وأهل الحديث هم أعلم الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كانوا دومًا أدنى الناس إلى الحق، وما اختلف الناس في مسألة في الأصول أو الفروع إلا كان أصحاب الحديث أقوى حجة، وأعز بضاعة؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل، وقد ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " «تفترق الأمة على نيف وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة» "[18]، قال: إن لم يكونوا أصحاب الحديث، فلا أدري من هم[19].

 

قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "وكل فئة تتحيَّز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيًا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته. إذا اختلف في حديث، كان إليهم الرجوع، فما حكموا به، فهو المقبول المسموع"[20].

 

علم الحديث فيه جماع الدين كله؛ وذلك لأن كل علوم الدين إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، ولما كان الكتاب الحكيم مجملًا، في حين أن السنة مفصلة ومبينة للكتاب، فكان الركون إليها، وكلما زادت بضاعة المرء منها زاد حظُّه ونصيبه من علوم الدين، فمنها تؤخذ القواعد الكلية، والأحكام التفصيلية، ومن طلب الحديث ألمَّ بأصول الدين وفروعه، قال الخطيب: "لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد، وبيان ما جاء من وجوه الوعد والوعيد، وصفات رب العالمين - تعالى عن مقالات الملحدين - والإخبار عن صفات الجنة والنار، وما أعدَّ الله تعالى فيهما للمتقين والفجَّار، وما خلق الله في الأرضين والسموات من صنوف العجائب وعظيم الآيات، وذكر الملائكة المقربين، ونعت الصافين والمسبحين. وفي الحديث قصص الأنبياء، وأخبار الزهَّاد والأولياء، ومواعظ البلغاء، وكلام الفقهاء، وسير ملوك العرب والعجم، وأقاصيص المتقدمين من الأمم، وشرح مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم، وسراياه وجمل أحكامه وقضاياه، وخطبه وعظاته، وأعلامه ومعجزاته، وعدة أزواجه وأولاده وأصهاره وأصحابه. وذكر فضائلهم ومآثرهم. وشرح أخبارهم ومناقبهم، ومبلغ أعمارهم، وبيان أنسابهم. وفيه تفسير القرآن العظيم، وما فيه من النبإ والذكر الحكيم. وأقاويل الصحابة في الأحكام المحفوظة عنهم، وتسمية من ذهب إلى قول كل واحد منهم من الأئمة الخالفين والفقهاء المجتهدين"[21].

 


[1] تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: (2 / 565).

[2] مقدمة ابن الصلاح: ص (5).

[3] النكت على كتاب ابن الصلاح: (1 / 227)، وسقط التمييز بعد لفظة (أكثر) من جميع نسخ الكتاب، ولعله يكون: "أكثر تولجًا"؛ أي: دخولًا في العلوم، كما في نص المقدمة الأصلي، الذي تولى الحافظ تقريظه، والله أعلم.

[4] صحيح مسلم: (1 / 28).

[5] رواه مسلم (6)، وأحمد (8267)، وأبو يعلى (6384)، وابن حبان (6766)، والحاكم (351) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[6] تاريخ الإسلام للذهبي: (12 / 58)، وتهذيب تاريخ دمشق (2/ 257).

[7] شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي: ص (44).

[8] شرف أصحاب الحديث: ص (44).

[9] رواه أحمد (13350)، وابن ماجه (236)، والبيهقي في الشعب (7108)، عن أنس رضي الله عنه.

[10] رواه أحمد (16738)، وابن ماجه (231)، والدارمي (234)، والبزار (3414)، وأبو يعلى (7413)، والطبراني (1541)، والحاكم (294)، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.

[11] الجامع لأحكام القرآن: (19/ 107).

[12] شرف أصحاب الحديث: ص (19).

[13] أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض: (3 / 95).

[14] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: (7 / 349).

 

[15] رواه البخاري (3640) ومواضع، ومسلم (1920)، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

[16] شرف أصحاب الحديث: ص (26).

[17] تفسير الطبري (جامع البيان): (8 / 504).

[18] رواه أحمد (12208)، وابن ماجه (3993)، والطبراني في الأوسط (4886)، وابن أبي عاصم (64)، وابن بطة (271)، واللالكائي (148)، عن أنس رضي الله عنه، وله طرق أخرى وشواهد عديدة عن غيره.

[19] شرف أصحاب الحديث: ص (25).

[20] شرف أصحاب الحديث: ص (9).

[21] شرف أصحاب الحديث: ص (8).

_________________________________________________
الكاتب: د. جابر القصاص