الأرواح تتجاذب وتتنافر: وقفات وتأملات
قال رسول الله ﷺ: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»؛ (رواه مسلم في صحيحه) ، وروي الحديث عن عائشة رضي الله عنها، في صحيح البخاري مُعلَّقًا، قال الليث: "وصله المصنف -أي البخاري- في "الأدب المفرد" عن عبدالله بن صالح، عنه"؛ (ابن حجر، ج 6، ص 369).
أولًا: معاني مفردات الحديث:
الأرواح: جمع روح، قال ابن منظور: "والرُّوحُ: النَّفْسُ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَالْجَمْعُ الأَرواح. التَّهْذِيبُ: قَالَ أَبو بَكْرٍ بن الأَنْباريِّ: الرُّوحُ والنَّفْسُ وَاحِدٌ، غَيْرَ أَن الرُّوحَ مُذَكَّرٌ وَالنَّفْسَ مُؤَنَّثَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَفِي التنزيل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]؛ وتأْويلُ الرُّوحِ أَنه مَا بِهِ حياةُ النفْس؛ (لسان العرب - ج2 - ص462).
فالروح: هي كل ما به حياة ونمو وحركة، وهي ما به حياة النفس، والمراد هنا في الحديث: الأرواح الإنسانية.
مجندة: مأخوذة من الجند، والجند، قال ابن منظور: الجُنْد: مَعْرُوفٌ. والجُنْد: الأَعوان والأَنصار. والجُنْد: الْعَسْكَرُ، وَالْجَمْعُ أَجناد... وَجُنْدٌ مُجَنَّد: مَجْمُوعٌ.. وَفِي الْحَدِيثِ: «الأَرواح جُنُودٌ مُجَنَّدة فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلف وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».. وَالْمُجَنَّدَةُ: الْمَجْمُوعَةُ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: أَلْف مؤَلفة، وقَناطِيرُ مُقَنطَرَةٌ؛ أَي: مُضَعَّفة، وَمَعْنَاهُ: الإِخبار عَنْ مبدأ كَوْنِ الأَرواح وَتَقَدُّمِهَا الأَجساد؛ أَي: إنها خُلِقَتْ أَول خَلْقِهَا عَلَى قِسْمَيْنِ مِنِ ائْتِلَافٍ وَاخْتِلَافٍ؛ كَالْجُنُودِ الْمَجْمُوعَةِ إِذا تَقَابَلَتْ وَتَوَاجَهَتْ، وَمَعْنَى تَقَابُلِ الأَرواح مَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ والأَخلاق.. وَلِهَذَا تَرَى الخَيِّرَ يُحِبُّ الخَيِّر، وَيَمِيلُ إلى الأَخيار، والشِّرِّير يُحِبُّ الأَشرار وَيَمِيلُ إِليهم. انتهى؛ (لسان العرب، ج3، ص132).
• وتكون هذه الجنود المجندة متعاونة ومتكاتفة ومتراصة؛ أي: منتظمة في صف واحد، لا تتقدم ولا تتأخر إلا بتوجيه واحد من جهة محددة، وهذا مما يولد لديهم الاجتماع والوحدة والائتلاف والقوة؛ ولذا مدح الله عز وجل هذا المنظر الذي يرهب العدو، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
التناكر الوارد في الحديث هو عكس التعارف، والتناكر يولد "الاختلاف"؛ وهو التفرق والابتعاد، بخلاف الائتلاف فهو يولد الاجتماع والاتفاق، والتواد والتراحم، وهذه من صفات المجتمع الفاضل المسلم، الذي يريده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه في صحيح الترمذي وصححه الألباني: «المؤمن للمؤمن كالبُنْيان يشدُّ بعضه بعضًا وشبَّك بين أصابعه»، وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح أيضًا: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسهر».
ثانيًا: التجاذب والتنافر العام بين الأرواح:
إن هناك توادًّا وتجاذبًا بين أصحاب الأرواح المتجانسة في العموم، وكذلك تنافر وتباعد في العموم مع ضدها، وعلى ضوء هذا التجانس في العقيدة أو نحو ذلك في ما تم الاتفاق عليه في الظاهر، يكون هناك توادٌّ وتجاذبٌ بين أرواح أصحابها قربًا وبعدًا في ما بينهم حسب هذا الجامع؛ ولذا أرواح المؤمنين تجتمع وتتآلف في ما بينها في العموم، وكذلك أرواح غيرهم تتوادُّ وتتآلف حسب الرابط والعقيدة التي تجمعهم.
قال الله تعالى عن المؤمنين والمؤمنات، وهم أصحاب عقيدة واحدة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، وقال تعالى عن المنافقين والمنافقات، وهم أصحاب عقيدة واحدة أيضًا، وإن كانت باطلة: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].
وأكد على هذا الترابط وهذا التواد بين المؤمنين أيضًا ما ورد عن النبي صلى الله عليه في صحيح الترمذي وصححه الألباني: «المؤمن للمؤمن كالبُنْيان يشدُّ بعضُه بعضًا وشبَّك بين أصابعه»، وكذلك ما ورد في صحيح الجامع للألباني: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالحُمَّى والسهر».
قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعليقًا على هذا الحديث؛ أي: «الأرواح جنود مجندة»: وفي هذا الحديث الدلالة على أن الأرواح جنودٌ مُجنَّدةٌ؛ أي: أصنافٌ مُصنَّفةٌ، أقسامٌ: هذا مؤمن، وهذا منافق، وهذا مخلوطٌ، قلبه مُشوش، وهذا يغلب عليه كذا، وهذا يغلب عليه كذا، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، فما تعارف منها على شيءٍ اتَّفقا عليه، ائتلفا عليه، فمَن تعارف على الإيمان والهدى والمحبة في الله تآلفت القلوب، ولو تباعدت الأقطار، وما تناكر منها اختلف بحسب عقائدها، وما تنطوي عليه من الأسرار والمقاصد، فالمحبة في الله والعمل الصالح يجمع الأرواح وإن تباعدت، والكفر والمعاصي والبدع والأهواء تجمع وإن تباعدت، نسأل الله السلامة. انتهى؛ (موقع الشيخ عبدالعزيز بن باز، تعليقًا على حديث ((الأرواح جنود مجندة)).
وقال الخطابي في شرح حديث: ((الأرواح جنود مجندة)): يحتمل أن يكون إشارةً إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد. فإن الخيِّر من الناس يحنُّ إلى شكله، والشرير يميل إلى نظيره ومثله، فالأرواح إنما تتعارف لغرائب طباعها التي جُبلت عليها من الخير والشرِّ، فإذا اتفقت الأشكال تعارفت وتآلفت، وإذا اختلفت تنافرت وتناكرت؛ ولذلك صار الإنسان يُعرف بقرينه، ويُعتبر حالهُ بأليفه وصحيبه. انتهى؛ (الخطابي، ج3: ص 1530).
"وقال القرطبي: الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحًا؛ لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوَّع بها، فتتشاكل أشخاص النوع الواحد، وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة؛ ولذلك تشاهد أشخاصَ كُلِّ نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر، وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها"؛ (محمود شكري الألوسي - ج2- ص109 - 110).
قال محمود شكري الألوسي: فتبين مما ذكر في معنى الحديث أن روح النبهاني الخبيث لم تتعارف مع أرواح أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وحُفَّاظ الحديث، المتبعين للسنن، المعادين للبدع والأهواء، المعرضين عن الدنيا وزخرفها، الطالبين وجه الله ورضاه، وهم أهل الأرواح الطيبة الطاهرة، فكانت مما تناكر؛ فلذلك خالفهم وعاداهم وشحن كتابه بثلبهم وسبِّهم، وكيف تتعارف روحه الخبيثة مع تلك الأرواح الطيبة، وقد صرف عمره في الأحكام الطاغوتية، وترويج الأمور الشيطانية، والميل إلى الظلمة والمجرمين، ومعاداة المسلمين؛ (محمود شكري الألوسي - ج2- ص 109 - 110).
قلت: ومما يميز التواد والتجاذب بين الأرواح المتجانسة لأصحاب العقيدة السليمة وأصحاب العقيدة الباطلة، أن هذا التوادَّ والتجاذب بين تلك الأرواح المتجانسة لأصحاب العقيدة السليمة مستمرٌّ بينهم في الدنيا والآخرة، وينفعهم يوم القيامة، ويرفع من درجاتهم بخلاف أصحاب العقيدة الباطلة؛ فإن التجاذب والتواد يكون بينهم فقط في الدنيا، فهو منقطع وغير دائم؛ بل يكون عليهم وزرًا يوم القيامة؛ ولذا يكون بينهما التنافر والإدبار. نسأل الله العافية.
فما أجمل صحبة الأخيار دنيا وأخرى! فمكاسبها مستمرة وباقية لأصحابها دنيا وأخرى.
قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
قال ابن كثير في تفسيره: أي كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل، فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال إبراهيم عليه السلام لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25]؛ (تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج7، ص 218).
قلت: ومن الفوائد المهمة في هذا الجانب -وهو التواد والتجاذب في العموم بين أصحاب العقيدة الصحيحة- أن تجد النفس أو الروح في العموم تتواد وتنجذب إلى ما يشاكلها في الأصل؛ فتتواد وتنجذب لأصحابها من أهل الخير والصلاح في العموم، وإن كان هناك تفاوت بين هذا وذاك، وهو ما سنسلط عليه الذكر في ما يلي بإذن الله؛ ولكن الأصل أن التواد والتجاذب حاصل في ما بينهم؛ ولكن إن وجد الفرد من هذه الفئة أنه ينجذب إلى غيرها، ويميل القلب هناك، فإنه يجب أن يراجع نفسه؛ فهناك خلل حادث.
قال ابن الجوزي رحمه الله: ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح؛ فينبغي أن يبحث عن المقتضى لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذا القول في عكسه؛ (ابن حجر، ج 6، ص 370).
ثالثًا: التجاذب والتنافر الخاص بين الأرواح:
أن هناك توادًّا وتجاذبًا بين أصحاب الأرواح المتجانسة في الخصوص، وعلى ضوء هذا التجانس يكون هناك تواد وتجاذب بين أرواح أصحابها قربًا وألفة في ما بينهم حسب هذا الجامع؛ ولذا أرواح المؤمنين تجتمع وتتآلف في ما بينها في العموم، وفي الخصوص أيضًا، وهو حديثنا هنا؛ حيث تطرقنا للتواد العام بين الأرواح المسلمة في ما سبق، وهو ما تضافرت به الأدلة: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وهذا هو الأصل في كل مسلم أن توده وتحب له الخير، ومن ثمَّ تمنع عنه الشر، وتدفعه قدر الإمكان، لماذا؟ لأنه مسلم يجمعك به الإسلام؛ فتحب له الخير عقيدةً وإخاءً.
أما الحديث هنا سيكون في التواد الخاص، وهو بعيد المدى، وهو مما ورد في هذا الحديث، وهو أن يكون هناك بينك وبين أخيك المسلم بعينه الالتقاء الروحي؛ فتألف الجلوس معه، والحديث إليه، وترتاح نفسك له، وتنجذب إليه، لماذا؟! لائتلاف الأرواح بينكما، وربما لا تألف روحك الجلوس مع آخر من أصحاب العقيدة الصحيحة ليس للكراهية، فهو له حق المودة العامة والحب العام؛ ولكن لأن روحك لم تتجانس مع روحه تجانسًا كاملًا؛ وإنما جزئيًّا يتفاوت من شخص إلى آخر، فتحبه المحبة العامة، وترتاح إليه الارتياح العام بين الأصحاب.
إذا فقهنا هذا الجانب، وعرفنا مدلولات الأحاديث، وجمعنا بينها؛ لن تجد شخصًا ينقم على أخيه لعدم مداخلته ومجالسته ومؤانسته، مع أنه يحب له الخير، ويرجو له التوفيق؛ ولكن يكتفي بالجلوس العام معه، وما كان من عموم اللقاءات بين المسلمين، أما الروح وما تألف فهذا لا يملكه الشخص ((فالأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف))؛ فالانسجام يحصل مع من يشابهه بالأفكار، والعادات والتقاليد، والطباع والميول والرغبات، وإن بقي لمن لم ينسجم معه الانسجامَ الكاملَ الودُّ والمحبةُ العامةُ للمسلمين؛ فما أجمل أن نفقه ديننا! فهو شمل جميع تفاصيل حياتنا الاجتماعية والنفسية والتربوية، وغير ذلك من الجوانب الحياتية.
رابعًا: في الختام، فإن الحديث مع جوانبه الشرعية تضمن- كما رأى القارئ- جوانب نفسية واجتماعية، تطرق لهذه الجوانب بوضوح؛ "موقع الخليج، 3 سبتمبر 2009، الأرواح جنود مجندة ".
من خلال هذا الحديث النبوي الشريف بكلمات قليلة العدد؛ ولكنها جامعة مانعة عميقة، فإن التقاء الناس أو تنافرهم في المجتمع قائم على تعارف الأرواح أو تناكرها؛ وإنما أورد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ (الأرواح) في هذا الحديث الشريف وأراد بها النفوس الآدمية؛ لأن هذه الأرواح هي أساس الإنسان والعنصر المؤثر فيه.
ومن الأساليب البيانية البلاغية للرسول صلى الله عليه وسلم أنه يضرب الأمثلة والتشبيهات الواقعة كلما لزم الأمر؛ وذلك بهدف تقريب المعاني إلى الأذهان، فقد شبه عليه الصلاة والسلام الأرواح بالجنود، وكيف أن الجنود ينتظمون في الجيش الواحد وبصفوف متراصة، ويقومون بأعمال متناسقة متعاونين متكاتفين بعضهم مع بعض؛ مما يولد لديهم الائتلاف والتعاون الأخوي مصداقًا لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
أما الشعور من الجنود تجاه الجيش الآخر فهو شعور التنافر والعداء، وعدم الانسجام، وفقدان التعاون.
قلت: وجميل هذا الطرح الذي يؤكد ما أشرت إليه سابقًا، وهو ما عنونت له "تجاذب وتنافر الأرواح: وقفات وتأملات"، وهي ما نحتاج إلى أن نلفت نظر القارئ إليها لتتوسع مداركه القرائية، وفهمه لنصوص الشريعة.
ثم تطرق المقال المتضمن هذا الحديث إلى عناصر جوهرية في عصرنا الحالي، وهي ما تسمى "تأثير مجتمع الرفاق"، حيث قال في نفس المرجع السابق: لا بد من الإشارة إلى أن مجتمع الرفاق له تأثير قوي مباشر في الإنسان، وبخاصة أن مجتمع الرفاق يكون أقوى تأثيرًا على الجيل الصاعد، وعلى مرحلتي الطفولة المتأخرة والمراهقة، فلا بد من العناية والاهتمام بهما، وأن يكون تركيز الإصلاح عليهما، وقد حث القرآن الكريم على مصاحبة الأخيار، وحذر من مصاحبة الأشرار بقوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27-29].
ولهذه الآيات الكريمة سبب نزول بحق المدعو عقبة بن أبي معيط الذي أسلم ثم ارتد عن الإسلام، وأساء إلى رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم بتحريض من المشرك أُبَيِّ بن خلف، ويقول سبحانه وتعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]؛ فيؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الصداقة إذا لم تكن قائمة على التقوى فإنها تورث العداوات بين الأصدقاء؛ فالصداقة الثابتة والمستمرة والمفيدة هي الصداقة التي تُبنى على التقوى، وليس على مصالح دنيوية.
وأخيرًا: هذه وقفات وتأملات موجزة؛ لتسليط الضوء على هذا الحديث النبوي الموجز في كلماته، والواسع في مدلولاته، ومضامينه الشرعية والتربوية والاجتماعية والنفسية، حاولت خلال هذه الزاوية، أن نبحر معًا في محيطه الزاخر بالفوائد والدرر الكامنة والنفيسة؛ ليقتنص ويصطاد كل سابح ماهر بعضًا من تلك الفوائد والدرر؛ لعل أن يكون فيها له علم نافع يفيده في دنياه، وينير له طريقه في أخراه، ويرشد الآخرين لعظمة وجمال هذا الدين الذي شمل جميع تفاصيل حياتنا الشرعية والتربوية والاجتماعية والنفسية، وغير ذلك من الجوانب الحياتية.
--------------------------------------------------------------------------
المراجع:
1- محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي "ت 711هـ" (1414هـ): لسان العرب، ط3، دار صادر - بيروت.
2- أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري، ثم الدمشقي "ت 774 هـ" (1419هـ): تفسير القرآن العظيم، ط1، المحقق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت.
الطبعة الأولى - 1419هـ.
3- أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي "ت 388هـ" (1409 هـ): أعلام الحديث شرح صحيح البخاري، ط 1، المحقق: د. محمد بن سعد بن عبدالرحمن آل سعود [ت 24/ 3/ 1445 هـ]، جامعة أم القرى (مركز البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي).
4- أبو المعالي محمود شكري بن عبدالله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي "ت 1342هـ" (1422هـ): غاية الأماني في الرد على النبهاني، ط1، المحقق: أبو عبدالله الداني بن منير آل زهوي، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية.
5- أحمد بن علي بن حجر العسقلاني "852 هـ" (1380- 1390): فتح الباري بشرح البخاري، الطبعة: «السلفية الأولى»، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبدالباقي، قام بإخراجه وتصحيح تجاربه: محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية - مصر.
6- موقع الشيخ عبدالعزيز بن باز، تعليقًا على حديث "الأرواح جنود مجندة" https://2u.pw/4ZSEaDNC
- التصنيف: