الكليبتومانيا.. عندما تكون السرقة مرضا واللص غير اللصوص!

منذ 2024-05-21

تندرج الكليبتومانيا ضمن اضطرابات التحكم والسيطرة على الاندفاع ومصنفة في خانة اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع حسب الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للأمراض النفسية

لص ليس كاللصوص، يسجن للمرة الثالثة في قضية سرقة المتاجر رغم أنه لا يعاني من أيّ أزمة مادية تدفعه للسرقة، أرهق رجال الشرطة وأحرج أهله، حتى هو لا يفهم ما الذي يحدث له! يلقّبه سكان الحيّ بالقطّ الذي لا يستحي ولا يكتفي رغم أنّه مكتفي! كل المحاضر التي فُتحت في حقه لم ترصد إلّا شكاوى قدّمها أصحاب المحلات التي اعتاد على سرقة بعض الأغراض التافهة منها، والتي كان بمقدوره أن يقتنيها بماله الشخصي خاصة وأنّه من عائلة ميسورة الحال.

البعض عفا عنه والبعض الآخر لم يغفر له جرمه؛ "نعم هي جريمة -قال صاحب محل لبيع المواد الغذائية- أن تمارس السرقة بهذا الشكل المتكرر دون مراعاة مدى الخسائر التي تتسبب فيها للمحل ودون أن تكترث حتى لأجهزة الكاميرا التي ترصدك داخله كأنّك تحسب نفسك "زورو" أو "رجل القناع" رغم أنّك لا تعاني من فقر بل الأدهى والأمر أن تكون من عائلة معروفة بثرائها المادي، زيادة عن كونك راشد!". "انتبه –قال آخر- ما إن تلمح عليه علامات القلق فتأكّد أنّه مقبل على "عملية" سرقة، في هذه الحالة إياك أن تغفل عنه، راقبه جيّدا واقبض عليه متلبّسا، ثمّ نادي الشرطة.. سئمنا من سلوكه هذا، هذا ليس زورو هذا روبن هود، إنّه لا يحتفظ حتى بتلك الأغراض لنفسه؛ شاهدته مرارا وتكرارا يوزّعها على المتسوّلين."

جيرانه ينعتونه بالقطّ ويسقطون عليه مختلف الألقاب المستوحاة من الأفلام والرسوم المتحركة، أصحاب المحلات يعتبرونه تهديدا "للاقتصاد"، المجتمع يراه قليل تربية وأدب، القانون يراه مذنبا وربما مجرما مكانه علبة تدعى السجن، وعائلته تقسم أنّه إنسان طيّب يعاني من الاكتئاب ولا يؤذي أحدا وهو ليس بحاجة للأشياء التي يسرقها، إنّها "سمة" فيه لم تتغيّر منذ مدّة وهم يجاهدون لأجل إحداث هذا التغيير لكن دون جدوى؛ يقاوم طبعه اليوم ثم يعود إلى فعله بعد أيّام، ولا يزال معرضا عن تلقي أي مساعدة تمكنهم من فهم حالته، سوى أن محامي العائلة في هذه المرّة اقترح جدّيا أن يعرض على مختص في الأمراض النفسية، هذا الأخير شخّص حالته بأنها حالة غير سويّة وتندرج ضمن ما يسمّى بهوس السرقة أو الكليبتومانيا، فما المقصود بهذا المرض؟!

 

ما هي الكليبتومانيا؟

تندرج الكليبتومانيا ضمن اضطرابات التحكم والسيطرة على الاندفاع ومصنفة في خانة اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع حسب الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للأمراض النفسية

الكليبتومانيا Kleptomania أو هوس السرقة المرضي هو مرض نفسي يكون فيه المريض مكرها على سرقة أغراض لا قيمة لها من المحلات والأماكن العامة أو حتى البيت دون مساعدة أحد ويكون في غنى عنها وقادرا على تسديد ثمنها. عادة هو لا يحتفظ بها ويتخلص منها عن طريق الهدية أو الرمي أو إرجاعها لمحلّها. نادرا ما يطلب المريض المساعدة لأجل الخروج من أزمته النفسية ويصيب هذا المرض النساء أكثر من الرجال.

تندرج الكليبتومانيا ضمن اضطرابات التحكم والسيطرة على الاندفاع ومصنفة في خانة اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع Antisocial Personality Disorder حسب الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للأمراض النفسية DSM 5 الذي حدّد معايير التشخيص به فيما يلي:

أ- فشل متكرّر في مقاومة الاندفاعات لسرقة أغراض لا يحتاجها الشخص لاستعمال شخصي ولا لقيمتها المالية.
ب- الشعور المتزايد بالتوتر مباشرة قبل ارتكاب فعل السرقة.
ج- الشعور بالمتعة والرضا والارتياح أثناء السرقة.
د- لا تكون السرقة تعبيرا عن غضب أو انتقام ولا تحدث استجابة لوهم أو هلوسة. (ترجمتي عن DSM 5، ص 478).

أعراض الكليبتومانيا:

بالإضافة إلى المعايير التي حددها الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للأمراض النفسية يمكننا تحديد مجموعة من الأعراض كالآتي:
– القلق الشديد قبل السرقة يصحبه خفقان القلب والتعرق الناتج عن ارتفاع مستوى الأدرنالين.
– الشعور بالراحة فور القيام بفعل السرقة.
– عدم التخطيط للسرقة كونها ناتجة عن اندفاعات قهرية وحاجة ماسة لها بعد اختبار المريض لحالة القلق، كلّ ما يهم المريض هنا هو السرقة بحد ذاتها بغض النظر عن الشيء المسروق.
– تكرار الفعل مع تكرّر القلق تحت تأثير الاندفاعات.
– الشعور بالذنب وتأنيب الضمير والخجل بعد السرقة.
– عدم التسبب في الأذى للشخص الذي يكون ضحية السرقة وعدم إحداث أدنى ضرر بالمكان الذي تتم فيه السرقة.
– السرية وعدم التقدم لطلب العلاج مع شعور المريض بالقرف والاشمئزاز من نفسه بسبب السرقة.
– عدم استعمال الأشياء المسروقة عادة والتخلص منها والخوف من التعرض للسجن.

أسباب الكليبتومانيا:

لا تزال الأسباب الدقيقة للكليبتومانيا غير معروفة ومع ذلك ربطتها بعض الأبحاث بما يلي:
– عدم توازن معدلات مادة السيروتونين في الدماغ وغيرها من النواقل العصبية التي تعمل عادة على تعديل المزاج والانفعالات ما يجعل الدماغ غير قادر على التحكم في هذه الاندفاعات.
– معاناة المريض من اضطرابات نفسية أخرى كالاكتئاب واضطرابات القلق، اضطرابات التغذية والأكل، ثنائي القطب، الوسواس القهري وغيرها من الاضطرابات المتعلقة بالإدمان على مادة ما.
– معاناة المريض من فقدان لشخص أو شيء ذي قيمة كبيرة في حياته فيحاول تعويضه بسلوك السرقة كآلية دفاع ناتجة عن حالة القلق الحاد والمتكرر أو مشاعر الاكتئاب وانخفاض تقدير الذات الذي يعيشه، فيلجأ إلى التنفيس بالسرقة التي يتبناها كعلاج ذاتي لما ينتابه من مشاعر سلبية.
– التعرض لصدمات على مستوى المخ.
– اختبار المريض طفولة أو مراهقة صعبة وتنشئة قاسية يتعرض فيها للحرمان والألم والفقر العاطفي.

 

علاج الكليبتومانيا:

تعدّ الكليبتومانيا مرضا جادا للغاية ذا أبعاد عدّة فهو يسبب الضرر للمريض وأسرته وعلاقاته وللمجتمع أيضا وجلّ الحالات لا تتوجّه نحو العلاج إلّا بعد التعرّض للقبض والمساءلات القانونية ويتطلب علاجها صبرا كبيرا. يخضع المريض عادة للعلاج الطبي والنفسي في آن واحد، ويتضمن العلاج الطبي مجموعة من الأدوية كمضادات الاكتئاب والمهدئات ومثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية. ومجموعة من العلاجات النفسية كالعلاج المعرفي السلوكي والعلاج العقلاني الانفعالي السلوكي، فضلا عن العلاج الأسري وجماعات الدعم والنشاطات الرياضية. كما تجب توعية أفراد الأسرة والمجتمع بمعاناة هذه الفئة وأخذ أزماتها النفسية بعين الاعتبار قبل الحكم عليها أو معاقبتها قانونيا.

الجزيرة نت

الكاتبة: حياة بن بادة

مترجمة وأخصائية في علم النفس العيادي والصحي، أستاذة في الجامعة وكاتبة.