سبل استغلال الوقت بالإجازة الصيفية
عباد الله، الرابح في الإجازة مَن عمَّرها بالنافع المفيد، فاكتسَب علمًا، أو تعلَّم حِرفة، أو أتقَن مِهنة، أو حَفِظ آية، أو عَلِم حديثًا، أو قرَأ كتبًا نافعة، أو الْتَحَق بمركز صيفي يَزيده إيمانًا وثقافة...
الحمد لله.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا الله الذي خلقَكم وسوَّاكم، ومن الخير زادَكم ومن الشر وقَاكم، وتذكَّروا نعمه الغِزار التي لا حدَّ لها ولاحصر؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].
فجدِّدوا له - سبحانه - الشكر، وأكثِروا له من الحمْد، فهو وحْده المُستحق لذلك - جلَّ في علاه.
عباد الله، ها نحن الآن نستقبل إجازة صيفيَّة تمتدُّ بضعة أشهر، فيها يرتاح الطلاب من عناء الدِّراسة، وتَرْكن الأُسر إلى الهدوء والسكينة بعد نشاط الدراسة والمُذاكرة والمتابعة، وغالبًا ما يأخذ أولياء الأمور إجازة من أعمالهم تتوافَق مع إجازة الطلاب؛ ليَسعد الأب بأولاده، ويفرغ لهم من وقته، ورُبَّما سافَرت الأسرة هنا أو هناك، والناس في هذه الإجازة بين مستفيد منها رابحٍ، وآخر مُفرِّط فيها خاسر، وهكذا حال التُّجَّار، فما كلُّ مَن تعاطى التجارة رَبِح.
عباد الله، الرابح في الإجازة مَن عمَّرها بالنافع المفيد، فاكتسَب علمًا، أو تعلَّم حِرفة، أو أتقَن مِهنة، أو حَفِظ آية، أو عَلِم حديثًا، أو قرَأ كتبًا نافعة، أو الْتَحَق بمركز صيفي يَزيده إيمانًا وثقافة، ويُكسبه مهارة، ويَملأ وقته بالمفيد، والرابح في إجازته مَن جعَل لأقاربه وذَوِي رَحِمه نصيبًا منها، أو أسهَم في مشروع خيرٍ، أو أمدَّ إخوانه وساعَدهم فيما يَخدم المسلمين ويَرفع راية الدِّين، والرابح في إجازته مَن أخلَص النيَّة لله فيها، فالعادة تنقلب إلى عبادة متى صَلَحت النيَّة، فهل استحضَرنا الإخلاص لله فيما نقضي به إجازاتنا؟
والرابح منَّا مَن استغلَّ إجازته في تعليم أهله وأولاده ما ينفعهم، واستغلَّ وجوده بينهم، فذكَّرهم بما يجب، وحذَّرهم مما يَجتنب، والأب المثالي هو الذي يهمُّه صلاح أبنائه وبناته، ويَستغل كلَّ الإمكانات المُتاحة من مراكز صيفيَّة للطلاب ودُور نسائيَّة لتحفيظ القرآن الكريم للبنات والأُمَّهات.
أمَّا الخاسرون في الإجازة فكثيرٌ؛ كما يشهد به واقع الكثيرين، وكما اعتاد الناس في كلِّ إجازة، فمَن أقبَل على مشاهدة الحرام والتمتُّع بالحرام فهو فخاسر، ومَن تفرَّغ لاصطياد الفرائس والتغرير بالأبرياء فخاسر، ومَن سَهِر ليله كلَّه، ونام نهاره، فضيَّع الصلاة فخاسر، ومَن مضى وقته وانقَضت أيَّامه، وانصرَمت لياليه، وكَثُرت مجالسه دُون ذِكر لله تعالى فخاسر؛ ففي الحديث الصحيح: «ما جلَس قومٌ مجلسًا، لَم يذكروا الله فيه، ولَم يُصلوا على نبيِّهم، إلاَّ كان عليهم تِرَة، فإنْ شاء عذَّبهم، وإن شاء غفَر لهم»، والتِّرَة: هي الحسرة والندامة.
وذُكِر عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقيل: ما زال نائمًا حتى أصبَح، ما قام إلى الصلاة، فقال: «بالَ الشيطان في أُذنه»؛ (البخاري).
فهل يرضى أحدُنا أنْ يبول ابنه في أُذنه، فضلاً عن عدوِّه، فضلاً عن الشيطان الرجيم، وللشيطان مع النوم أحوال عجيبة، فبه يتسلَّط على العبد إذا أفرَط فيه وتجاوَز قدر الحاجة؛ ففي الصحيحين: «يَعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاثَ عُقد، يضرب كلَّ عُقدة: عليك ليل طويل فارْقُد، فإن استيقَظ فذَكر الله انحلَّت عُقدة، فإن توضَّأ انحلَّت عُقدة، فإن صلَّى انحلَّت عُقدة، فأصبَح نشيطًا طيِّب النفس، وإلاَّ أصبَح خبيث النفس، كسلان».
فهل يعي ذلك مَن يصبح كلَّ يوم وقد ضيَّع الصلاة، ولَم يَستهلَّ يومه بذِكرٍ ولا صلاة ولا وضوءٍ؟!
أمَّا مَن سافر سفرًا مُحرَّمًا، فليَخشَ العقوبة وليتذكَّر ما بُلِي به مَن عصى الله تعالى من الأمراض المُستعصية؛ {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127].
عباد الله، الوقت الذي نعيش فيه متمتِّعين بقوانا وحَواسِّنا، ونَرفُل في النعيم والأمن والأمان - من أجَلِّ النِّعم والمِنن، ومن غفَل عن وقته فسيندم كما يندم الكفار إذا عايَنوا النار ووقَعوا فيها؛ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 36 - 37]، فيُجابون: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].
فجعَل - سبحانه - التعمير وطول العُمر موجِبًا للتذكُّر والاستبصار، وأقام العمر الذي يحياه الإنسان حجَّة عليه، فالزمن نعمة جلَّى ومِنحة كبرى، لا يستفيد منها كلَّ الفائدة إلاَّ المُوفَّقون؛ كما أشار إلى ذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «نعمتان مغبونٌ فيها كثيرٌ من الناس: الصحَّة، والفراغ»؛ (أخرَجه البخاري).
نسأل الله تعالى بمنِّه وكرَمه أن يرزقَنا الحِفاظ على أوقاتنا، والمبادرة بالأعمال الصالحة قبل تصرُّم الأعمار وانقضاء الأعمار، أقول قولي هذا....
أمَّا بعدُ:
فللوقت نفاسته وأهميَّته التي أدرَكها مَن سبَقنا؛ قال ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى -: "فالوقت مُنصرم بنفسه، مُنقضٍ بذاته؛ أي: لا يحتاج إلى مَن يُديره ويُحرِّكه؛ ولذا فمَن غفَل عن نفسه تصرَّمت أوقاته، وعَظُمت حَسراته، واشتدَّ فوَاته، والواردات سريعة الزوال، تمرُّ أسرعَ من السحاب، ويَنقضي الوقت بما فيه، فلا يعود عليك منه إلاَّ أثرُه وحُكمه، فاختَرْ لنفسك ما يعود عليك من وقتك؛ فإنه عائدٌ عليك لا مَحالة؛ لهذا يقال للسُّعداء في الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].
ويقال للأشقياء المعذَّبين في النار: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75]"؛ا.هـ.
ولذا كان حِرص سلفنا الصالح على أوقاتهم شديدًا؛ يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما نَدِمت على شيء ندمي على يوم غرَبت شمسه، نقَص فيه أجلي، ولَم يَزِد فيه عملي".
وهذا ابن الجوزي يقول: "وقد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا، إن طال الليل، فبحديث لا يَنفع، أو بقراءة كتاب فيه غزلٌ وسمرٌ، وإن طال النهار، فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق"؛ا.هـ.
وما ظنُّكم بما سيقوله ابن الجوزي لو رأى ما يقضي فيه كثيرون من المسلمين أوقاتهم في هذا الزمان، الذي كَثُرت فيه الصوارف، واسترخَص فيه أقوام أوقاتهم، فبذلوها فيما حرَّم الله عليهم، فإلى الله المُشتكى!
وهو المستعان والمسؤول - جلَّ وعلا - أن يمنَّ علينا باستغلال أوقاتنا فيما يَنفعنا عنده يوم لا يَنفع مالٌ ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليم.
____________________________________________________
الكاتب: الشيخ د. عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي
- التصنيف: