العيد وثمار الأمة الواحدة

منذ 2024-06-17

إن العيد يأتي كلَّ عام ليهدم ويُزيل الكثير من رواسب الجاهلية؛ كالغِلظة، والشدة، والجفاء، وقطيعة الرحم، والعصبية، والانتصار للنفس، وذلك بما ينفُث في رُوع المسلم وخَلَدِهِ عظمة الدين

يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين:  {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

 

وروى البخاري ومسلم، واللفظ له، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى».

 

إخوة الإسلام: إن من أهداف الدين الإسلامي توحيدَ الأمة، وتوحيد كلمتها، وتوحيد صفِّها، وتوحيد تصوراتها، وتأليف القلوب وجَمْعَ الشمل على كلمة سواء، وهذا ما أوجبه الإسلام في كثير من الأوامر والنواهي في الذكر الحكيم.

 

ولذلك كان لفريضة الحج والصوم وحلول أعياد المسلمين الأثرُ البالغ في نفوس المسلمين؛ لتأكيده هذه القيمةَ العظيمة في حياتهم، وممارستها سلوكًا عمليًّا في واقعهم، فالصيام في وقت واحد، والحج كذلك لا يتمايز فيه أحدٌ عن أحدٍ، ويفرح المسلمون في وقت واحد، والعبادات والطاعات والقربات يشترك فيها المسلمون جميعًا، وهذا لا يوجد إلا في أمة الإسلام، الأمة الواحدة.

 

وإن من أعظم ثمار إحياءِ قيمة الأمة الواحدة في النفوس، أنها تقضي على أخطر الأمراض التي فتكت بالأمة ومزقتها؛ وهي العصبية والفرقة والاختلاف، والتفاخر بالأحساب والأنساب، عصبيةً وجاهلية، والعصبية كما قال الأزهري رحمه الله: "هي: أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته، والتألُّب معهم على من يُناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين"؛ [تهذيب اللغة (2/30)]، وهي كذلك أن يعتقد الإنسان أنه أفضل من غيره بسبب لونه أو جنسه، أو قبيلته أو نسبه، أو مذهبه أو مهنته ووظيفته، هذه العصبية لم تدخل في مجتمع إلا فرَّقته، ولا في عمل صالح إلا أفسدته، ولا في كثير إلا قلَّلته، ولا في قويٍّ إلا أضعفته، سواء كانت عصبيةً مذهبية أو حزبية، أو قبلية أو شعبوية وقُطْرِية، أو أسرية ومجتمعية، وما نجح الشيطان في شيء مثلما نجح فيها، والله سبحانه وتعالى قد بيَّن أن الناس جميعًا متساوون، خُلِقوا من تراب، وقسم بينهم معيشتهم، وجعلهم شعوبًا وقبائلَ، وجعل شرطَ التميُّز التقوى له، والقرب منه والالتزام بشرعه؛ قال تعالى:  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

 

أيها المؤمنون، عبــاد الله، بالإيمان والتقوى يترجَّح ميزان الإنسان، ويرتفع قدره عند الله، وما عدا ذلك فلن يغني عنه من الله شيئًا، لقد وقف صلى الله عليه وسلم يخاطب هذه الأمة في خطبته في حجة الوداع، وطلب من الحاضر أن يُبلِّغ الغائب؛ لأن الأمر هامٌّ وعظيم؛ فقال: «يا أيها الناس، إن ربكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، ألَا لا فضل لعربيٍّ على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى» ،  {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، «ألَا هل بلَّغت» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فيبلغ الشاهدُ الغائبَ»؛ (صححه الألباني).

 

ولو كان المال أو الجاه، أو النسب أو الجنس، أو المكانة تنفع صاحبها عند الله، لكان ابن نوح عليه السلام - وهو فِلذةُ كَبِدِهِ وقطعة من فؤاده - معه في الجنة؛ قال تعالى مُبيِّنًا تلك الحال وذلك المآل:  {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 42، 43]، نعم، لا عاصِمَ من أمر الله، إلا بالإيمان والتقوى والعمل الصالح.

 

عباد الله: إن العيد يأتي كلَّ عام ليهدم ويُزيل الكثير من رواسب الجاهلية؛ كالغِلظة، والشدة، والجفاء، وقطيعة الرحم، والعصبية، والانتصار للنفس، وذلك بما ينفُث في رُوع المسلم وخَلَدِهِ عظمة الدين، ورسالته الخالدة، وسلوكه القويم، وأخلاقه الحسنة، ويوجِّه النفوس إلى أن هذه الأمة أمة واحدة، هدفها واحد، ومصيرها واحد، وربها واحد، وأنها ستقف بين يدي الله يوم القيامة تُسأل عن أعمالها فردًا فردًا، لا تمايُزَ بينهم إلا بأعمالهم الصالحة النافعة؛ قال سبحانه:  {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وقال سبحانه:  {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.

 

أيها المسلمون عباد الله: لِيَقُمْ كلُّ من ضحى إلى أضحيته، فله عند الله أجر عظيم، وأطعموا منها البائس والفقير والمحروم، وتفقَّدوا أحوال الضعفاء والأيتام والمساكين، وأدخِلُوا عليهم البهجة والفرح والسرور، ومن لم يضحِّ لضيق العيش والحاجة، فلا يبتئس ولا يحزن؛ فقد ضحَّى عنه وعن غيره من المسلمين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان؛ يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه: ((شهِدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأضحى بالمصلَّى، فلما قضى خطبته نزل من منبره، وأُتِيَ بكبش، فذبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: «بسم الله والله أكبر، هذا عني، وعمن لم يضحِّ من أُمتي»؛ (صححه الألباني في صحيح أبي داود).

 

ولا تنسَوا صلةَ الأرحام والأقارب، وتفقُّدَ الجيران، والتوسعة على الأهل والأولاد في مثل هذه الأيام، كلٌّ حسب قدرته واستطاعته، وأكْثِروا من ذكر الله كما هداكم، واشكروه على ما أعطاكم، وجدِّدوا إيمانكم، وحسِّنوا أخلاقكم، واحفظوا دماءكم، واجتنبوا الفتن، تفوزوا برضا ربكم، وصِلوا أرحامكم، تحل البركة في أعماركم وأموالكم.

 

هنيئًا لكم بالعيد أيها المسلمون، في كل مكان، وتحت أي ظروف وأحوال، وأدام الله عليكم أيام الفرح، وسقاكم سلسبيل الحب والإخاء، ولا أراكم في يوم عيدكم مكروهًا، وجعل سائر أيامكم عبادة وطاعة لله، وعملًا وفرحًا وسرورًا، وكشف الله الغمة عن هذه الأمة، ورفع عنها البلاء والفتن، والأمراض وسيئ الأسقام، وثِقوا بالله، وأحسنوا الظن به سبحانه، فبيده كل شيء، وهو أرحم بنا من أنفسنا، اللهم غيِّر أحوالنا إلى أحسن حال، واجعل حياتنا وبلادنا وأوطاننا عامرة بالسعادة والمحبة، والأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.

________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري