من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين

منذ 2024-06-20

الإجابة أن العلم الشرعي هو أشرف العلوم وأزكاها،  لأن العلم الشرعي يتعلق بأشرف موضوع


ورد في الصحيح عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: 
«دخَلَتْ أسماءُ بنت يزيد على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالت: يا رسولَ اللهِ، كيف تَغتَسِلُ إحْدانا إذا طهُرَتْ منَ المَحيضِ؟ قال: "تأخُذُ سِدرَها وماءَها فتَوضَّأُ، ثم تَغسِلُ رأسَها وتَدلُكُه حتى يَبلُغَ الماءُ أُصولَ شَعَرِها، ثم تُفيضُ على جسَدِها، ثم تأخُذُ فِرْصَتَها فتطَّهَّرُ بها"، قالت: يا رسولَ اللهِ، كيف أتطَهَّرُ بها؟ فقَالَ النبي : "تَطَهَّرِي بِهَا، سُبْحَانَ اللّهِ" وَاسْتَتَرَ رسول الله . قَالَتْ عَائِشَة رضي الله عنها: وَاجْتَذَبْتُهَا إِلَيَّ وَعَرَفْتُ مَا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ يا أسماء تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرُ الدَّمِ. تعليقاً على هذا الموقف وعلى غيره من المواقف كانت عائشة رضي الله عنها تقول: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ.»
أيها الإخوة الكرام: لو سألنا إنساناً عن أشرف العلوم النافعة للناس في الدنيا والآخرة..  لكانت الإجابة أن العلم الشرعي هو أشرف العلوم وأزكاها،  لأن العلم الشرعي يتعلق بأشرف موضوع،  وهو قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. 
ومن هذه الزاوية ورد حديث النبي عليه الصلاة والسلام « «مَنْ يُرْدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفِقِّهْهُ في الدِّين» »
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكرم الناس فقال عليه الصلاة والسلام « « أكرم الناس عند الله أتقاهم، قالوا يا رسول الله ليس عن هذا نسألك،  قال أكرم الناس نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله، يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن اسحاق نبي الله ابن إبراهيم نبي الله، قالوا يا رسول الله لسنا عن هذا نسألك فقال صلى الله عليه وسلم خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا... »
النبي عليه الصلاة والسلام «مَنْ يُرْدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفِقِّهْهُ في الدِّين» 
 فمن أهم الواجبات العلم بأحكام الله عز وجل التي وردت بكتاب الله تعالى وبسنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ لا يمكن للمسلم أن يفهم دينه أو أن يعمل به، إلا إذا عرف أحكام هذا الدين وتفكر وتدبر فيما أمر الله به.. 
وفي سورة البقرة آية يقول الله سبحانه فيها :« {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} » 
يقصد بالحكمة في هذه الآية {« يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا»}  
يقصد بها المعرفة بكتاب الله عز وجل : أن تعرف الناسخ من آيات القرآن الكريم وأن تعرف المنسوخ منه ، أن تعرف المحكم من الآيات وتعرف المتشابه، وأن تعرف المقدم والمؤخر، وأن تعرف حلاله وتعرف حرامه.... 
وقال مجاهد: في قول الله عز وجل { «يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء» }  قال ليست الحكمة بالنبوة، ولكنها العلم والفقه والقرآن.. 
وقال أبو العالية: الحكمة: خشية الله عز وجل، فإن خشية الله رأس كل حكمة.. 
وقال مالك: إنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله.. 
أيها الإخوة الكرام: التفقه في دين الله تعالى نور لحامله ولغيره ، والفقه في دين الله تعالى بركة علي صاحبه في الدنيا والآخرة وعلى غيره ( أنْ تَعْلّمَ العِلمَ وعَلّمهُ غيره، وأن نَفعَ نفسهُ ونفع غيره ) 
قال النبي عليه الصلاة والسلام «« إنَّ مَثَلَ ما بَعَثَنِيَ اللَّهُ به عزَّ وجلَّ مِنَ الهُدَى والْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أصابَ أرْضًا، فَكانَتْ مِنْها طائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الماءَ فأنْبَتَتِ الكَلأَ والْعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَ مِنْها أجادِبُ أمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بها النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْها وسَقَوْا ورَعَوْا، وأَصابَ طائِفَةً مِنْها أُخْرَى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً، ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللهِ، ونَفَعَهُ بما بَعَثَنِيَ اللَّهُ به، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بذلكَ رَأْسًا، ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الذي أُرْسِلْتُ بهِ» .
أحد أعظم دعوات النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه هى هذه الدعوة «(اللهم فقهه في الدين )» دعوة فاز بها حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما،  وسبب الدعوة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فلما خرج منه وجد أن أحدهم قد جهز له ماء يتوضأ به فقال النبي من وضع هذا ؟  قيل وضعه ابن عباس فقال النبي عليه الصلاة والسلام « (اللهم فقهه في الدين )»
وفي رواية قال ابن عباس فضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وقال: «اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب» )
من رزقه الله الفهم في دين الله تعالى هو سبب أمان في هذا العالم، الفقيه في هذه الأمة يعدل في درجته نبياً من أنبياء بني إسرائيل.. 
وعلى ذكر بني إسرائيل أذكركم بحديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً فهذا الرجل كان رجلاً من رجالات بني اسرائيل... 
والحديث في الصحيح من حديث أبي سعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَال : « « كان فِيمنْ كَانَ قَبْلكُمْ رَجُلٌ قتل تِسْعةً وتِسْعين نفْساً ، فسأَل عن أَعلَم أَهْلِ الأَرْضِ فدُلَّ على راهِبٍ ،( دُلَّ على عابد لكنه يبدو أنه كان جاهلاً لعظم رحمة الله تعالى)  أما الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً فَأَتَى ذلك الراهب فقال : إِنَّي قَتَلت تِسعةً وتسعِينَ نَفْساً ، فَهلْ لَهُ مِنْ توْبَةٍ ؟ فقال الراهب الجاهل :( لا توبة لك) فقام إليه فقتلَهُ فكمَّلَ بِهِ مِائةً نفس.. [كل ذلك ولم يزل الرجل يود أن يتوب لكنه لا يعرف الطريق فسألَ عن أعلم أهلِ الأرضِ ، فدُلَّ هذه المرة على رجلٍ عالمٍ...  والعالم سبب رحمة يفتح للناس أبواب الرحمة ويزرع في قلوبهم الأمل] فقال الرجل للعالم : إني قَتلت مائةَ نفسٍ فهلْ لَهُ مِنْ تَوْبةٍ ؟  فقالَ: العالم نَعَمْ [ ( لك توبة)] ومنْ يحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التوْبة ؟ قال وماذا علي أن أفعل؟ قال: انْطَلِقْ إِلَى قرية كذا وكذا ، فإِنَّ بها أُنَاساً يعْبُدُونَ الله تعالى فاعْبُدِ الله مَعْهُمْ ، ولا تَرْجعْ إِلى أَرْضِكَ فإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ  ...  [ قال النبي عليه الصلاة والسلام] فانطَلَق حتَّى إِذا نَصَف الطَّريقُ أَتَاهُ الْموْتُ فاختَصمتْ فيهِ مَلائكَةُ الرَّحْمَةِ وملاكةُ الْعَذابِ . فقالتْ ملائكةُ الرَّحْمَةَ : جاءَ تائِباً مُقْبلا بِقلْبِهِ إِلى اللَّهِ تعالى ، وقالَتْ ملائكَةُ الْعذابِ : إِنَّهُ لمْ يَعْمَلْ خيْراً قطُّ ، فأَتَاهُمْ مَلكٌ في صُورَةِ آدمي فجعلوهُ بيْنهُمْ أَي حكماً    فقال قيسوا ما بَيْن الأَرْضَين فإِلَى أَيَّتهما كَان أَدْنى فهْو لَهُ، فقاسُوا فوَجَدُوه أَدْنى إِلَى الأَرْضِ التي أَرَادَ فَقبَضْتهُ مَلائكَةُ الرَّحمةِ »» [متفقٌ عليه]
وفي روايةٍ في الصحيح : « «فكَان إِلَى الْقرْيَةِ الصَّالحَةِ أَقْربَ بِشِبْرٍ ، فجُعِل مِنْ أَهْلِها » »
وفي رِواية في الصحيح : « « فأَوْحَى اللَّهُ تعالَى إِلَى هَذِهِ أَن تَبَاعَدِى، وإِلى هَذِهِ أَن تَقرَّبِي وقَال : قِيسُوا مَا بيْنهمَا ، فَوَجدُوه إِلَى هَذِهِ أَقَرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفَرَ لَهُ » » .
الشاهد؛:  أن الفهم عن الله نعمة.. 
من رزقه الله العلم والفهم سعى بين الناس لبيان أن سعة رحمة الله عز وجل وأن كل ذنب بعد الشرك بالله..  عرضة إلى أن الله تعالى يغفره..  متى ندم صاحبه..  متى رجع صاحبه..  متى تاب صاحبه وأناب قال الله عز وجل ﴿ وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ ﴾
قَالَ: علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ألا أخبركم بالفقيه مَن لم يُقَنِّطِ النَّاسِ مِنْ رَحمةِ اللهِ، ولم يُؤَمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ الله، وَلَمْ يُرَخَّصْ لهم في مَعَاصِي الله، وَلَمْ يَدَعِ القرآن رَغْبَةً إلى غيره).
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الخالص لوجهه المريم إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. 

الخطبة الثانية 
بقي لنا في ختام الحديث أن نقول: إذا كان العلم الشرعي هو أشرف العلوم النافعة للناس لتعلقه بأشرف العلوم ( كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم)  
قلت فإن هذا لا يمنع من أن الإسلام يطلب ويرغب ويرحب بكل علم نافع.. 
فليست الحياة عبادة فقط ولا ذكراً فقط فمن صُور العبادة ومن أركان خلافة الإنسان في الأرض عمارة الأرض وعمارة الأرض لا تكون فقط بالعبادة والذكر، بل إن عمارة الأرض تكون بالإيمان وبالسمع والطاعة للخالق العظيم سبحانه وتعالى وتكون أيضاً بتحصيل علوم الدنيا فكما أن الناس بحاجة إلى فقيه يفقههم،  الناس بحاجة أيضاً إلى قاض يحكم بينهم،  والناس بحاجة أيضا إلى معلم يعلمهم،  وإلى طبيب يداويهم،  والناس أيضاً بحاجة إلى مهندسٍ وإلى محاسبٍ وإلى محامً وإلى كاتب وإلى مسَّاحٍ وإلى طيار وإلى قبطان وإلى كل غواص وبناء.. 
حاجة الناس إلى علوم الدنيا لا تقل عن حاجتهم إلى علوم الدين فلا يُستغني بأحدهما عن الآخر.. 
من هنا كان كل باب من أبواب العلم النافع أياً كانت صفة هذا العلم ( علم دين أو علم دنيا) هو مرغوب وهو محبوب وصاحبه مأجور أجراً يجري عليه إلى يوم القيامة.. 
قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( « إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ : إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» ). 
نسأل الله العظيم أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا...  آمين. 

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.