نتنياهو وغياب الإستراتيجية

منذ 2024-06-27

لا يمكن فهم ما يقوم به نتنياهو حاليًّا وقادة الكيان عمومًا، دون فَهْم طبيعة الحركة الصهيونية ونشأتها، ومُؤسّسها تيودور هرتزل، وكيف ترسَّخت، وتكوَّنت لديه رؤية مشروع الدولة اليهودية، والتي تحوَّلت إلى إستراتيجية قابلة للتنفيذ.

يزعم الكثيرون، سواء داخل الكيان الصهيوني أو خارجه، أن رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو يعاني منذ بدء الطوفان الأقصى من فقدان البوصلة التي تُحدّد له الطريق لكسب الحرب.

ويقول هؤلاء: إن الرجل بالفعل لديه أهداف عليا من حربه التي يشنّها، ولكنّه يفتقد الإستراتيجية الملائمة لتحقيق تلك الأهداف، الأمر الذي أوصَل الكيان الصهيوني إلى حائط السد والعجز كما يقول بعض الخبراء سواء داخل الكيان أو في خارجه.

ولاختبار صحة هذه الفرضية، سنستخدم المنهج التاريخي بتتبُّع نشأة الفكرة الصهيونية، وسر نجاحها وإستراتيجيتها طوال تاريخها، حتى وصولها إلى الوضع الحالي، والتي تعاني فيه بسبب طوفان الأقصى؛ الأمر الذي يَجعلها تنزلق إلى الهاوية المحتومة.

ولكن في البداية لا بد من تبيان الفروق ومعاني المصطلحات التي كثيرًا ما نَستخدمها، مثل الرؤية والإستراتيجية.

 

بين الرؤية والإستراتيجية:

الرؤية بالإنجليزية (Vision) يمكن تلخيص تعريفها بأنَّها وَصْف مستقبلي طَمُوح لما ينبغي تحقيقه، أو هي صورة ذهنية مُلِحَّة ومرغوبة لما يودّ أن يكون عليه المستقبل، وهي تتشكَّل وتتجمَّع متأثرةً بظروف النشأة، وخبرات البيئة المحيطة، والشعور بالتحديات، والتكوين النفسي والعقلي، ومن مُحصّلة كل ذلك تتولد الرؤية.

ولصياغتها يلزم تأمُّل التاريخ، وتشخيص الواقع الراهن، وفَهْم اتجاهاته السائدة، سواء كان الواقع المحلي أو الإقليمي أو الدولي.

أما الإستراتيجية فهي آلية العبور إلى تلك الصورة الذهنية المستقبلية، والتي تمَّت صياغتها في الرؤية؛ فالرؤية لا تُعْنَى بكيفية الوصول إلى الهدف؛ إذ إن تحديد الرؤية يَسبق وضع الإستراتيجية، والبدء يكون بالرؤية، ثم النظر في كيفية تحديد الإستراتيجية.

فالفرق الرئيس بين الرؤية والإستراتيجية، هو حقيقة أن الإستراتيجية هي خريطة طريق تنفيذ الرؤية.

وهناك عدة أنواع لصياغة الإستراتيجية:

فعندما تكون البيئة مستقرة، واحتمالات التغير المستقبلي منخفضة، هناك تكون صياغة الإستراتيجية بالتخطيط؛ لأن فرضيات الواقع وتوقُّعات المستقبل حينها تكون واضحة.

أما النوع الثاني من صياغة الإستراتيجية، فهو عندما يكون فَهْم الواقع جيدًا، ولكنّ التطورات المستقبلية مضطربة وغير واضحة، فعندها تستخدم القيادة أسلوب النوايا الإستراتيجية، ويُقصَد به القيادة بالرؤية المستقبلية ووضع مقياس للتقدم.

ويتمحور النوع الثالث من صياغة الإستراتيجية على نظرية القائد الملهم، ويتم اللجوء إليها عندما يكون كلّ من الواقع والمستقبل يَكتنفهما الغموض والاضطراب.

فالإستراتيجية تكون في هذه الحالة في عقل القائد، وتعتمد على الخبرة والحسّ الداخلي له، ويشرف على تنفيذها بنفسه؛ بحيث يُجري عليها التعديلات الضرورية بحسب تغيُّر الواقع المضطرب.

ولكن ماذا لو كانت القدرة على فهم الواقع منخفضة، وفي نفس الوقت يكون المستقبل أقل اضطرابًا، هنا النوع الرابع في صياغة الإستراتيجية، والذي يُطلَق عليه الإستراتيجية الناشئة، وهي إستراتيجية تَستخدم نهجًا من أسفل إلى أعلى؛ حيث يتم التركيز على تنفيذ الإستراتيجية، ومِن ثَم التعلُّم من النتائج غير المتوقَّعة والمترتبة على تنفيذ تلك الإستراتيجية، وإدراج تلك النتائج أو الأهداف في الخطط المستقبلية.

وتتميز هذه الإستراتيجية بمرونة عالية تجاه أيّ تغيّر أو ظرف قد يَطرأ بشكل مفاجئ أو غير متوقع في البيئة الخارجية.

هرتزل وتأسيس الرؤية الصهيونية:

لا يمكن فهم ما يقوم به نتنياهو حاليًّا وقادة الكيان عمومًا، دون فَهْم طبيعة الحركة الصهيونية ونشأتها، ومُؤسّسها تيودور هرتزل، وكيف ترسَّخت، وتكوَّنت لديه رؤية مشروع الدولة اليهودية، والتي تحوَّلت إلى إستراتيجية قابلة للتنفيذ.

بحسب أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية في القدس شلومو أفنيري، في كتابه «تيودور هرتزل وتأسيس الدولة اليهودية»؛ فقد تمكَّن الشابّ اليهودي تيودور هرتزل من أن يرفع مستوى طرح المسألة اليهودية إلى المستوى العالمي، كمشروع واقعي قابل للتطبيق، وليس مجرد حلم مثالي.

ولكن كيف تشكَّلت الرؤية عند هرتزل؟

لقد كانت هناك قناعة عند هرتزل أن اليهود ليسوا فقط مُعرّضين للخطر في الدولة التي نشأ بها وهي النمسا، بل في كل أرجاء القارة الأوروبية، لذلك كانت كُلّ كتاباته ونشاطاته ذات غاية واحدة، هي إيجاد مكان خارج أوروبا يؤوي اليهود.

وعبر زيارته الأولى للقدس في عام 1898م، فقد أعطته قناعة بأن فلسطين تُشكّل بالنسبة له المخرج الوحيد المستقبلي والأمل الأخير لليهود في العالم.

وأودع هرتزل عصارة رؤيته في كتابه الشهير (الدولة اليهودية)، وما إن ظهر الكتاب عام 1896م، حتى بدأت تظهر له ترجمات للغات مختلفة مثل الإنجليزية، والعبرانية، والفرنسية والروسية والبولندية والهنغارية، وغيرها من اللغات الأوروبية وغير الأوروبية. هذا ما جعَل من هرتزل الذي لم يكن يمتلك أيّ منصب سياسي، شخصية ذائعة الصيت بين يهود العالم.

ولم يكن اختيار هرتزل عنوان كتابه «الدولة اليهودية» اعتباطًا، بل هو أمر مقصود، فقد كرَّس ارتباط الفكرة الصهيونية باليهودية كدين في خطابه في مؤتمر بازل؛ حيث قال بالحرف: «الصهيونية هي بمنزلة عودة إلى اليهودية (الديانة)، قبل العودة إلى أرض اليهود».

ويشرح الكاتب الإسرائيلي الأمريكي يورام حزوني أن اختيار هرتزل للعنوان لم يكن اختيارًا لغويًّا فحسب؛ إذ إن هرتزل كان ملتزمًا، بصورة حازمة، بإقامة دولة تكون يهودية في جوهرها؛ ليست دولة ذات أغلبية يهودية ديمغرافية فقط، وإنما يهودية بقوانينها أيضًا، وبأهدافها وبمؤسساتها، كما في علاقاتها مع الشعب اليهودي ومع الديانة اليهودية.

وفهم ديفيد بن غوريون والتيار المركزي في الحركة الصهيونية تلك الحقيقة، فجسَّدوها في «وثيقة استقلال دولة إسرائيل» عام 1948م، فكانت منسجمةً بصورة تامَّة مع رؤية مُؤسِّس الصهيونية.

تلخَّصت إستراتيجية هرتزل لتأسيس دولة اليهود في عدة عناصر؛ من أهمها:

العنصر الأول: يتمثل في حَشْد اليهود خلف الفكرة؛ فهرتزل كان أول مَن أدرك أن الحركة الصهيونية لن تُؤسّس الاعتراف بها بدون سلطة مؤسساتية، أي هيكلية تنظيمية تمثل اليهود في العالم.

وكانت أولى الخطوات في ذلك المسار عقد مؤتمر بازل في سويسرا عام 1897م، وبالرغم من أن عدد الحضور في المؤتمر كان أقل من 200 شخص، وشاركت فيه 89 منظمة وجمعية فقط، وبالرغم من ذلك فإن هرتزل اعتبر هذا المؤتمر حجر الزاوية في تأسيس الدولة اليهودية؛ حيث قال بعد المؤتمر: «إذا أردت تلخيص مؤتمر بازل بكلمات فإنني أقول: لقد أُسِّست في بازل الدولة اليهودية».

أما العنصر الثاني، فكان يتمحور حول اختيار مكان تلك الدولة؛ فقد تفاعَل السياسيون الغربيون معها، فمنهم مَن عرَض شرق إفريقيا في أوغندا، ومنهم مَن عرَض العريش المصرية، بل ظهرت وثيقة حديثة أنه كان هناك عرض فرنسي على هرتزل بإقامة دولة يهودية في المغرب، ولكن مسألة فلسطين كانت على ما يبدو محسومة في فِكْر الرجل.

ثم جاء المسار الثالث، فتم وضع إطار زمني لإنشاء تلك الدولة؛ حيث حدّد هرتزل بعد مؤتمر بازل الفترة الزمنية حتى تأسيس الدولة بخمسين عامًا، وقد كان بالفعل.

أما المسار الأخير الذي سار فيه هرتزل فيتمثل في المسار الدبلوماسي، عن طريق تطوير وتعزيز العلاقات مع قادة الغرب؛ لأنه عن طريقهم، وبواسطة الدعم الغربي السياسي، يستطيع التحرك برؤيته صوب إقامة دولته اليهودية المنتظرة.

وقد وصل القدس في الوقت الذي كان يزوروها القيصر الألماني ويليم الثاني؛ وحرص على مقابلته، ولم يحصل في التاريخ قط أن ممثلاً لليهود التقى مع شخصية حاكمة رفيعة بهذا المستوى لمناقشة إمكانية إقامة وطن قومي لليهود.

وبعد ألمانيا، قرر هيرتزل التوجُّه إلى بريطانيا، واستطاع الحصول على فرصة عرض أشكال الهجرة (ومنها الهجرة اليهودية) أمام البرلمان البريطاني، وأقام صلات وثيقة مع ساسة بريطانيين بينهم وزير المستعمرات جوزيف تشامبرلين، فانتزع هرتزل منه اعتراف بريطانيا بأن اليهود أُمَّة لها الحق في السيادة على حيّز ترابي خاص بها.

وبعد هرتزل، سار خلفاؤه في قيادة الحركة الصهيونية على دَرْبه، ونتج عن هذه التحركات صدور وعد بلفور وزير خارجية بريطانيا، بإقامة دولة لليهود في فلسطين.

وساعدت البيئة الدولية والظروف ما بين الحربين الأولى والثانية على تسريع قيام الدولة اليهودية، ومنها رغبة أوروبية في حلّ الإشكالية اليهودية مع وجود اضطهاد نازي لهم، ومنها رغبة بريطانيا في تشكيل المنطقة العربية، وإيجاد ما يُعْرَف بدولة فصل وقاعدة غربية في المنطقة، تفصل شرقها عن غربها، فتضافرت تلك العوامل لقيام الدولة الصهيونية في فلسطين.

نتنياهو هل يتحرّك بدون إستراتيجية؟

منذ قيام دولة الكيان الصهيوني عام ١٩٤٨م، قام على حُكْم دولة الاحتلال ثلاثة عشر رجلاً وامرأة.

ولكن من بين هؤلاء ثلاثة فقط هم الذين تركوا أثرًا في ذلك الحكم، أو تعاملوا بإستراتيجية ناجحة: أولهم «بن غوريون»، والذي كان أول رئيس للكيان الصهيوني، وتركزت إستراتيجيته على تحويل عصابات اليهود والصهاينة في فلسطين، من مجرد عصابات تخطف وتقتل وتسبي إلى دولة لها مؤسساتها المدنية والعسكرية والسياسية.

أما الثاني نجاحًا من زعماء الكيان الصهيوني فكان «ليفي أشكول»، والذي قاد الكيان في حرب ٦٧، فأضافت هذه الدولة الصغيرة ما يُعادل 3 أضعاف ونصف ضعف مساحتها التي كانت عليها في الرابع من يونيو 1967م.

وقد مكَّنتها هذه المساحات الجغرافية الشاسعة من تحسين وضعها الإستراتيجي، وقدرتها على المناورة العسكرية، ولأول مرة منذ نشأته تَمكَّن الكيان من الاستناد في خططه الدفاعية إلى موانع جغرافية طبيعية مثل مرتفعات الجولان ونهر الأردن وقناة السويس.

ولكنّ التأثير الإستراتيجي الأكبر لهذه الحرب هو سقوط القدس في يد الاحتلال، ومن وقتها بدأ العدّ التنازلي للمزاعم الصهيونية بإقامة هيكلهم على أنقاض المسجد الأقصى، ولعل معه يتحقق حلم اليهود الأكبر.

أما الشخصية الثالثة الأكثر تأثيرًا في تاريخ الدولة العبرية، فهو «مناحيم بيجن»، والذي نجح في إبرام أول اتفاق مع أكبر دولة عربية في ذلك الوقت، وهي مصر، فأخرَجها من معادلة الصراع، وبعدها نجح في دخول لبنان، وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية منها.

ويُلاحَظ أنه في الحروب التي خاضها الكيان منذ نشأته، كان للمنظومة الحاكمة إستراتيجية واضحة أوصلتها إلى أهدافها، ونقلت الكيان الصهيوني نقلة إستراتيجية باتجاه هدفه الأكبر والمتمثل في سيادة اليهود على شعوب المنطقة.

ولكن بنيامين نتنياهو كان مختلفًا، فالرجل يُعدّ أكثر زعماء الكيان الصهيوني إثارةً للجدل، كما ظل المتحكم في توجُّهات الكيان على مدار أربعة عقود من الحياة العامة، بما في ذلك 15 عامًا رئيسًا للوزراء و22 عامًا زعيمًا لحزب الليكود، وهذا لم يحدث لشخصية سياسية في دولة الاحتلال طوال تاريخها.

فما السر في استمرارية تلك الزعامة؟

هناك سببان لهذه الاستمرارية؛ الأول هو مؤهلات نتنياهو الشخصية والسياسية، والتي جعلته قادرًا على التلاعب بالجميع ممسكًا بمعظم خيوط اللعبة.

لقد بات نتنياهو بمرور الوقت يعتقد أن بقاء إسرائيل يرتبط ارتباطًا جوهريًّا ببقائه. وهذا ما قاله مايكل أورين، السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية.

فهذا الاعتقاد يُمكِّن نتنياهو من تحمُّل ضغوط هائلة؛ سواء جاءت هذه الضغوط من الداخل أو من الخارج.

ولكن هناك سبب آخر يرتبط برؤية نتنياهو، والتي تنبع منها إستراتيجيته التي يمارسها في حربه الأخيرة.

ولكن هل نتنياهو يتمتع بالفعل برؤية واضحة لمستقبل الكيان، ومِن ثَم إستراتيجية وفعَّالة لتحقيق هذا الحلم؟

فالبعض سواء داخل الكيان أو خارجه يرون في مواقف نتنياهو في حرب طوفان الأقصى، افتقاده لإستراتيجية لمواجهة الوضع الذي وجدت دولة الكيان فيه نفسها.

تقول وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني: «نتعثر الآن في غزة دون داعٍ وبثمنٍ باهظٍ؛ لأن نتنياهو ليست لديه خطة».

بينما صرَّح عضو الكنيست رام بن باراك بأن «الحرب في غزة صارت بلا هدف، ونحن نخسرها بشكل واضح، نحن مضطرون للعودة إلى القتال في نفس المناطق، وخسارة المزيد من الجنود، وخسارة على الساحة الدولية، وتدمير العلاقات مع الولايات المتحدة، وانهيار الاقتصاد... أروني شيئًا واحدًا نجحنا فيه».

ولكنّ الواقع يقول غير ذلك، فنتنياهو يسير وفق إستراتيجية اعتنقها وتبنَّاها وسار عليها منذ فترة ليست قصيرة.

والمؤرخ الفرنسي البارز، والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط، جان بيار فيليو يَعتبر في كتابه المنشور عام ٢٠١٩م بعنوان «وضع اليد على إسرائيل: نتنياهو ونهاية الحلم الصهيوني»: «إن نتنياهو يُشكِّل لحظة تحوُّل وقطيعة في تاريخ الدولة العبرية، بالانتقال من الصهيونية الاشتراكية العلمانية إلى الصهيونية القومية المتشددة التي تُعرَف بالصهيونية المراجعية».

ففي أوائل القرن الماضي، أسَّس يهودي روسي يُدعى فلاديمير جابوتنسكي ما يُعرَف بالصهيونية المراجعية أو التنقيحية، ونظَّر لها في مقال له بعنوان «نحن والعرب»، الذي نُشِرَ في 1923م، وشكَّل سياسة الاستيطان اليهودية وتعاملها مع العرب، والذي يُعبّر عن تلك الأفكار حاليًّا نتنياهو وحزب الليكود.

فقد انطلق جابوتنسكي من رؤية مفادها أن أيّ تجربة استيطانية استعمارية لا بد أن تُواجَه بمقاومة السكان الأصليين، فلا يوجد شعب تنازل طواعيةً عن أرضه لشعب آخر، وإنّ حل هذه الإشكالية هو أن يقيم المستوطنون الصهاينة حائطًا حديديًّا حول أنفسهم، ويستمرون في البطش بالسكان الأصليين إلى أن يُسلِّموا بأنه لا مفر من التنازل واقتسام الأرض مع الكتلة البشرية الوافدة.

وهذه هي الفكرة نفسها التي عبَّر عنها شارون بعد ذلك بعدة عقود، عندما قال: «إن ما لا يُؤخَذ بالقوة يُؤخَذ بمزيد من القوة».

خلاصة إستراتيجية المشروع الصهيوني كما يراه جابوتنسكي، هي تأسيس الدولة اليهودية عن طريق الاستيطان المكثَّف والعسكرة الشاملة تحت حماية دولية، ويتمثل الخطر الأكبر على تلك الدولة في الرضوخ لسياسة التوافق والتعايش القسري مع العرب.

وتشير دراسة أعدَّها ونشَرها مركز مولاد لتجديد الديمقراطية في إسرائيل، إلى أن جد بنيامين نتنياهو، الحاخام نتان مليكوفسكي، مثل ابنه بن تسيون نتنياهو كانا على علاقة وثيقة جدًّا مع فلاديمير جابوتنسكي.

ونتنياهو نفسه اعترف بذلك التأثير وتلك العلاقة، ففي حفل لإحياء ذكرى تأسيس الحركة التي قادها فلاديمير جابوتنسكي قبل طوفان الأقصى بعشرة شهور، قال نتنياهو: «جابوتنسكي هو أحد مرشديّ الروحانيين البارزين، وحصلت على إرثه من والدي المؤرخ البروفسور بن تسيون نتنياهو الذي كان أحد المقربين من جابوتنسكي».

فمن هذه الفكرة ينطلق نتنياهو في إستراتيجيته، والتي استمر في تطبيقها بعد السابع من أكتوبر وانطلاق طوفان الأقصى، أي المواجهة العسكرية، وحماية الحائط الحديدي حتى هزيمة أهل غزة وفصائل المقاومة بزعامة حماس.

ولا يلتفت نتنياهو أو يُلقي بالاً إلى أيّ ضغوط تُمارَس عليه، سواء جاءت من الخارج من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، أو من داخل الكيان من اليسار الصهيوني، أو حتى أُسَر الأسرى الصهاينة لدى المقاومة.

فالإستراتيجية التي يتبنَّاها نتنياهو تنطلق من رؤية تم تأسيسها منذ أكثر من قرن، ويتشبث بها، ويصرّ على أن يُكمل ما بدأه من حرب إبادة ضد أهل غزة والمقاومة، ويتحمَّل الخسائر في صفوف قواته من معدات وأفراد، فهو سيصل كما يتصوّر إلى النصر النهائي طالما ظل متمسكًا بإستراتيجية الإبادة تلك.

وخصوم نتنياهو من السياسيين الصهاينة يتَّهمونه بأخذ الكيان رهينةً حتى يحافظ على ائتلافه المتطرف، ويتجنَّب الذهاب إلى انتخابات، لكنَّ بعضهم يَعترف أن غالبية في المجتمع تؤيّد خياره، وإن لم تؤيده شخصيًّا.

ولكنَّ حُمق نتنياهو وغرور القوة يدفعه إلى حتفه؛ فصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية تلاحظ أن «استعمال حماس لتكتيكات حرب العصابات يثير الخوف من شبح الحرب الأبدية بالنسبة لإسرائيل، وحماس تهاجم بشكل أكثر عدوانيةً» كما تصفها الصحيفة، «وتطلق المزيد من الأسلحة المضادة للدبابات على الجنود الذين يحتمون في المنازل وعلى المركبات العسكرية الإسرائيلية يوميًّا، فحماس موجودة في كل مكان في غزة، وهي بعيدة كل البعد عن الهزيمة»؛ كما تقول الصحيفة.

والحق ما شهدت به الأعداء.

_____________________________________________
الكاتب: حسن الرشيدي