من دروس الهجرة النبوية "الأخوة"

منذ 2024-07-08

ما أحوجنا اليوم الى تجديد معاني الأخوّة والوحدة فيما بيننا في مواجهة محاولات الفرقة والفتنة التي يدبّرها لنا الأعداء، خصوصاً في ظل الهجمة الصهيونية..."

لقد أصبحت الأمـة اليوم كما تعلمون غثاءًا كغثاء السيل، لقد تمـزق شملها وتشتت صفها، وطمع في الأمـة الضعيف قبل القوي، والذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني، وأصبحت الأمة قصعة مستباحة كما ترون لأحقر وأخزى وأذل أمم الأرض من إخـوان القردة والخنازير، والسبب الرئيس أن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء، والأمة أصبحت ضعيفة، لأن الفرقة قرينة للضعف، والخذلان، والضياع، والقوة ثمرة طيبة من ثمار الألفة والوحدة والمحبة، فما ضعفت الأمة بهذه الصورة المهينة المخزية إلا يوم أن غاب عنها أصل وحدتها وقوتها ألا وهو ((الأخوة في الله)) بالمعنى الذى جاء به رسول الله فمحال محال أن تتحقق الأخوة بمعناها الحقيقي إلا على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها وكمالها، كما حولت هذه الأخوة الجماعة المسلمة الأولى من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم.

 

الأخوّة في الله:

هي منحة قدسية وإشراقه ربانية ونعمة إلهية يقذفها الله عز وجل في قلوب المخلصين من عباده الأصفياء من أوليائه والأتقياء من خلقه، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].

 

إن الأخوة في الله هي طريق إسعاد البشرية بوجه عام لذلك لا يتصور للجماعة المسلمة أن تقوم أو يشتد عودها بدونها: فبالأخوة يصبح أفراد الجماعة المسلمة كأغصان الشجرة الواحدة لا تكاد تؤثر فيها عواصف الأعداء، والأخوة لكي تؤدي ثمارها المرجوة لابد أن تنطلق من  رياح الأهواء الإيمان بالله بل هما ركيزتان متلازمان لا يستغني أحدهما عن الآخر.

 

إن نعمة الأخوة هي أثمن منحة ربانية للعبد من بعد نعمة الإسلام، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 103].

 

والأخوَّة هي رُوح الإيمان الحي، ولُبَاب المشاعر الرقيقة، التي يكنَّها المسلم لإخوانه؛ حتى إنه ليحيا بهم ويحيا لهم، حتى كأنهم رُوح واحد حلَّ في أجسام متعدِّدة.

 

ثانياً: فضل التآخي بالله والتحابب فيه:

وردت نصوص كثيرة في بيان فضل الأخوة في الله، والتلاقي عليه، والتحابب فيه، ورتبت عليها الأجر الجزيل، والثواب العظيم في الدنيا والآخرة...

 

وهذه طائفة منها:

1- الأخوة في الله نعمة الله وفضله:

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

 

فجعل المولى عز وجل الأخوة منحة إلهية، ونفحة ربانية يهبها الله للمخلصين الصادقين،  يمحى بها الأحقاد الجاهلية ويزيل بها العداوة والبغضاء فتتوحد القلوب، وتتآلف  النفوس على المنهج الواحد، والعقيدة والواحدة.

 

2- الأخوة في الله طريق لمحبة الله تعالى:

تحصيل محبة الله تعالى غاية قلوب الموحدين، وقد بينت النصوص أن محبة الله تعالى تتحصل بمحبة الأخوان وحسن عشرتهم ومواساتهم وموالاتهم والتزاور بينهم.

 

♦ جاء عن النبي صلى اله عليه وسلم «أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا قَالَ لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ» [1].

 

♦ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقِ الشَّامِ فَإِذَا أَنَا بِفَتًى بَرَّاقِ الثَّنَايَا وَإِذَا النَّاسُ حَوْلَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيِهِ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُ قَدْ سَبَقَنِي بِالْهَجِيرِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بِالتَّهْجِيرِ وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ أَاللَّهِ فَقُلْتُ أَاللَّهِ فَقَالَ أَاللَّهِ فَقُلْتُ أَاللَّهِ فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ أَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ».

 

3- المتآخون في الله في ظل الله تعالى:

♦ روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ؟ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي»[2].

 

♦ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ  -وذكر منهم-  وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ»[3].

 

ويكفى المتاحبين والمتآخين في الله شرفاً وفضلاً أن يكونوا تحت عرش الله يوم يخاف الناس وتكون الشمس منهم مقدار ميل.

 

4- منازل المتآخين في الله غبطة الأنبياء والشهداء:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ قَالَ «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ» {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62])[4].

 

5- الأخوة في الله طريق لحلاوة الإيمان واستكمال عراه:

♦ يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ وَأَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَنْكَحَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ»[5].

 

♦ ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»[6].

 

♦ ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» )[7].

 

خصال حسنة وطيبة، وآثار حميدة للأخوة الإيمانية رتبتها هذه الباقة العطرة من نصوص الوحي الشريف.

 

ثالثا: كيف كانت المدينة قبل الهجرة:

فر اليهود إليها من وطأة الرومان الساحقة، بعد أن تآمر اليهود على السيد المسيح عليه السلام وأسسوا فيها المستعمرات الحصينة وأثروا فيها ثراءً عظيماً على حساب العرب الممزقين المفككين وكانت هناك حروب طاحنة بين الأوس والخزرج.

 

رابعا: كيف أصبح حال المدينة بعد الهجرة؟

جاء الإسلام وحوّل هذه الحروب إلى سلام وحب ومودة وتحققت رابطة الأخوة في الله والحب لله.

 

جاء وطبَّق مبدأ الأخوة الإسلامية وهي درجات:

(أ‌) أن تقضي حاجة أخيك عندما يطلبها منك.

(ب‌) أن تقضي حاجة أخيك قبل أن يطلبها منك.

(ج‌) أن تؤثر أخاك على نفسك.

 

أيها القراء الكرام:

في الأخوة الإسلامية وسلامة الصدور وائتلاف القلوب؛ أهمية كبيرة في معادلة تحقيق النصر والظفر على الأعداء، وهي إحدى الركائز الإيمانية التي أسس لها النبي – - صلى الله عليه وسلم - – لما أقام مسجده في المدينة المنورة، لعلمه بضرورتها في إنشاء مجتمع قوي ومتماسك، تسوده روح الأخوة والائتلاف، بعيداً عن التفرق والتنازع والاختلاف.

 

يقول الله – سبحانه وتعالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا * وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا * كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [ آل عمران:101- 103].

 

وأخرج ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود – رضي الله عنه -: فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف ، قال ابن حجر: وفي الحديث.. الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف أ. هـ.

 

وهكذا مضى النبي – - صلى الله عليه وسلم - – يربي أصحابه على هذه الركيزة الأساسية، والبنية الإيمانية، والنفحة الأخلاقية والربانية، التي تضمن سلامة المجتمع الإسلامي من كل ما يهدد كيانه ويهد أركانه، فكان في تماسك أصحابه وتآخيهم فيما بينهم ضمانة من الوقوع في شَرك الشيطان وحزبه.

 

♦ أخرج الإمام مسلم عن جابر – رضي الله عنه – قال سمعت النبي – - صلى الله عليه وسلم - – يقول: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم».

 

♦ وأخرج الإمام الترمذي قوله – - صلى الله عليه وسلم - -: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد».

 

♦ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: وأمرنا الله تعالى بالاجتماع والائتلاف ونهانا عن التفرق والاختلاف. وما أروع قول القاضي عياض: والأُلفة إحدى فرائض الدّين، وأركان الشريعة، ونظامٌ شملَ الإسلام.

 

ويتضح في هذه التربية النبوية ضرورة الأخوة والائتلاف ودورها في تقوية الحق ونصرته.

 

قالوا:

فالاتحاد يقوي الضعفاء، ويزيد الأقوياء قوة  على قوتهم، فاللبنة وحدها ضعيفة مهما تكن متانتها، وآلاف اللبنات المتفرقة والمتناثرة ضعيفة بتناثرها وإن بلغت الملايين، ولكنها في الجدار قوة لا يسهل تحطيمها لأنها باتحادها مع اللبنات الأخرى، في تماسك ونظام، أصبحت قوة أي قوة، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف بقوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» وشبك - - صلى الله عليه وسلم -- بين أصابعه. (متفق عليه) ]. ونبهت عليه الآية الكريمة، حيث يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}.[الصف:4]. أ.هـ

 

خامسا صور من الاخوة في المدينة بعد الهجرة:

♦ لقد استقبل الأنصار ركب الرسول بالفرحة والسرور وفتحوا بيوتهم للمهاجرين وأعطوا فرص عمل للمهاجرين.

 

♦ لقد قال عبد ا لله بن عمر في هذا المقام، لقد رأينا معهم: وما الرجل المسلم بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم فالمال ملك لله عز وجل ونحن جميعاً مستخلفون فيه والمال ملك للجماعة المسلمة وقت الأزمات فلولي الأمر الحق أن يأخذ المال من الغني لأجل الفقير وليس لأحد حق في ماله وقت الأزمات والمال ملك للفقير والمسكين بحكم الزكاة.

 

{وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد آية: 7].

 

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}   [البقرة آية: 261].

 

{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24- 25].

 

{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].

 

لقد كان لرابطة الأخوة في الله والحب في الله دور هام في بناء الدولة الإسلامية على الحرية والعدل والمساواة والشورى والأخوة.

 

كما تحقق وعد الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بالنصر وترى قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}.

 

حريٌّ بالمسلمين وهم يذكرون ويتدارسون حادثة الهجرة النبويّة الشريفة أن يستفيدوا من تلك المواقف الشامخة والدروس الجليلة والعِبَر البليغة التي تفيض بها تلك الذكرى العظيمة والحادثة المباركة مِنْ: إيمان وثقةٍ بالله عزّ وجل، وطاعةٍ وامتثالٍ لرسول الله محمّد - صلى الله عليه وسلم -، وتضحيةٍ وإيثار، وحبٍّ وإخاءٍ بين المهاجرين والأنصار، إضافةً إلى دروس التربية والجهاد والتخطيط والإعداد.. وما نجم عن ذلك من نتائج باهرة، كان لها أعظم الأثر في بناء المجتمع الإسلامي الأول ودولة القرآن الرائدة في المدينة المنوّرة والتي شكّلت القاعدة الصُلبة لأنطلاق مواكب الدعوة والجهاد، تجوب الأرض فاتحة مجاهدة، تمحو ظلام الشرك والبغي والطغيان وتنشر نور التوحيد والعدل والإيمان في أرجاء الجزيرة العربية خلال عهد النبوّة ابتداءً ومن ثمّ في معظم أرجاء العالم في عهد الخلافة الراشدة خلال مدة قياسية من الزمن.

 

وكأنّ الأرض قد طويت تحت أقدام الفاتحين والمجاهدين، فخاضت خيول المسلمين في مياه شواطئ الأطلسي غرباً بقيادة عُقبة بن نافع الفهري رضي الله عنه الذي اندفع بخيله في مياه الأطلسي قبالة طنجة المغربية وهو يقول: (يا ربّ لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك). وشرقاً وصلت جيوش المسلمين إلى بحر قزوين وجبال خراسان وما ورائها بقيادة عبد الله بن عامر والأحنف بن قيس التميمي رضي الله عنهما.


إنّ هذه النجاحات الباهرة التي حققتها المسيرة الإسلامية بقيادة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - والتي تمثّلت بإنشاء دار الإسلام الأولى إذ ذاك على وجه الأرض ومن ثمّ حمل رسالة الإسلام للعالم كافة.. ما كان لها أن تكون ـ بعد توفيق الله عزّ وجل ـ لولا ذلك التآخي الحقيقي والوحدة الصادقة بين أفراد المجتمع الإسلامي مما شكّل ركيزة أساسيّة في بناء الأمّة الإسلامية وتماسكها وصمودها أمام التحدّيات الداخلية والخارجية وسبباً رئيسياً في نجاح المشروع الإسلامي وانتصاره داخل الجزيرة العربية وخارجها: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62- 63].

 


تَعَالَوْا إذاً ـ نتأمّل تلك المواقف العملية التي تجسّدت فيها أروع صور الأخوة والوحدة الإسلامية خلال الهجرة النبويّة، ونستخلص منها الدروس والعِبَر لحاضر أمّتنا ومستقبلها.


الموقف الأول: الوفاق بين الأوس والخزرج:

لقد أنهكت الحرب الأهلية التي استمرت قرابة مئة وعشرين سنة * أبناء العمومة من الأوس والخزرج في يثرب، وكان لليهود دور كبير في إذكائها ومصلحة في استمرارها للقضاء على هذين البيتين الكبيرين من أهل يثرب لكي يخلو الميدان لهم للسيطرة على المدينة فانحاز بعض اليهود للأوس وبعضهم الآخر للخزرج، يمدّونهم بالسلاح ويقرضونهم المال ويحرّضونهم على الاقتتال، حتى كان يوم بُعاث الذي قُتل فيه من زعماء الفريقين ورجالهم مقتلة كبيرة.. فتطلّع العقلاء من أهل يثرب إلى من يُلملِم جراحهم ويطهّر نفوسهم من الإحَن ويصلح ذات بينهم ويقودهم إلى الخلاص، فكان اللقاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موسم الحجّ الذي تلا حرب بُعاث، هناك عند العقبة في مِنى جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ستة نفر من شباب يثرب الطامحين للإصلاح والتغيير، كلّهم من الخزرج، فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فسمعوا قوله بحماس وأنصتوا له باطمئنان وقال بعضهم لبعض تعلمون والله يا قوم إنّه للنبيّ الذي توّعدكم به يهود فلا يسبقنّكم إليه، فأسرعوا إلى إجابة دعوته وأسلموا (..) ثمّ قالوا: إنّا قد تركنا قومنا بينهم من العداوة والشرّ والدماء ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدّين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك (الرحيق المختوم:122/123).


والشاهد في هذا الموقف الذي مهّد للهجرة النبوية الشريفة، ما عقده أهل يثرب من آمال على النبي - صلى الله عليه وسلم - في إطفاء لهيب الحرب الأهلية والثارات الجاهلية، مما يؤكد أنّ أهم مقاصد الدعوة الإسلامية بعد توحيد الله عزّ وجل، وحدة الكلمة وجمع الصفّ والقضاء على الفُرقة الناجمة عن العصبيات العشائرية وحبّ الزعامة.. فكان لأهل يثرب ما أملوه، وكان للرسول والصحابة ما يحتاجون إليه من دار يأوون إليها وأهل ينصرونهم وأرض يمكّن لهم فيها. فقد حمل أولئك الرهط المبارك رسالة الإسلام إلى يثرب التي انتشر فيها الإسلام رويداً رويداً إلى أن نجح سفير رسول الله مصعب بن عمير- رضي الله عنه - نجاحاً باهراً حتى لم يبقَ دار من دور المدينة إلا وصار فيها رجال ونساء مسلمون.


وبالإسلام ذابت العصبيات وتناسى الناس ما بينهم من ثارات الجاهلية، وأصبحوا كالجسد الواحد، فتعجّب اليهود واغتاظوا. يُروى أنّ (شاس بن قيس) اليهودي مرّ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدّثون، فغاظه ما رأى من إلفتهم وصلاح ذات بينهم بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، فقال: ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار!!، ثمّ أمر شاباً من اليهود ان يجلس إليهم ويذكّرهم يوم (بُعاث) وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار، ففعل، فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا، وقالوا: السلاح السلاح، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، وقال: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألّف بينكم» ؟!! فعرف القوم أنها كانت نزعة من الشيطان وكيداً من عدوّهم، فألقوا السلاح وبكوا وتعانقوا ثمّ انصرفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سامعين مطيعين، فأنزل الله عزّ وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]. إلى قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] (أسباب النزول للواحدي ص 66).


الموقف الثاني: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:

فبعد أن نجح الإسلام في توحيد الأوس والخزرج، وبعد بناء المسجد كبيت لعبادة الله وحده ومركز للتجمّع والتآلف بين المسلمين. كانت الخطوة التاريخية التالية ألا وهي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، قال ابن القيم رحمه الله: ثمّ آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى حين وقعة بدر، فلمّا أنزل الله عزّ وجل: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، (ردّ التوارث دون عقد الإخوة.. زاد المعاد:2/56).


ومعنى هذا الإخاء كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:

أن تذوب العصبيات الجاهلية، فلا حميّة إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه. وقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الأخوة عقداً نافذاً، لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر. وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الإخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال (فقه السيرة:140/141).


ومن هذه الأمثلة، ما جاء في صحيح البخاري أنهم لمّا قدموا المدينة آخى رسول الله بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي، أطلّقها، فإذا انقضت عدّتها فتزوّجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، وأين سوقكم؟ فدلّوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط (جبن) وسمن، ثمّ جاء يوماً وبه أثر صفرة (أي طيب)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مهيم «كلمة يمانية معناها: ما هذا»؟ قال: تزوجت. قال: كم سقت إليها؟ قال: نواة من ذهب. فقال له - صلى الله عليه وسلم -: «أولِم ولو بشاة».


وفي صحيح البخاري أيضاً: قالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: «لا» ، فقالوا: فتكفونا المؤونة، ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا.


لقد كان نجاح النبي - صلى الله عليه وسلم - في توحيد الأوس والخزرج على الرغم مما كان بينهم من دماء وثارات، وتوحيد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار على الرغم من تباعد الأنساب والأوطان فيما بينهم من أروع مآثر التاريخ ومن أعظم إنجازات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعجزات الإسلام خصوصاً في البيئة العربية التي اشتهرت بالعصبية للعشيرة والتفاخر بالآباء والأجداد والحميّة والغضب لأدنى سبب والحرص على الثأر والانتقام.


لسان حالهم يقول:

ألا لا يجهلنّ أحدٌ علينا   **  فنجهل فوق جهل الجاهلينا! 


فجاء الإسلام لينسف تلك المفاهيم البالية، ويجعل مكانها {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. ويصف لنا الشاعر المسلم معجزة رسول - صلى الله عليه وسلم - في تحقيق الوحدة بين العرب وإحيائهم بالإسلام ليكونوا نواة أمّة الإسلام التي لا فضل فيها لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

 

فيقول:

البدر دونك في حسن وفي شرف   **   والبحر دونك في خير وفي كرم 

أخوك عيسى دعا ميتاً فقام لـــــه   **   وأنت أحييت أجيالاً من العـــدم 

 


وختاماً:

ما أحوجنا اليوم الى تجديد معاني الأخوّة والوحدة فيما بيننا في مواجهة محاولات الفرقة والفتنة التي يدبّرها لنا الأعداء، خصوصاً في ظل الهجمة الصهيونية - الأميركية الحالية التي تتحدّ فيها جبهة الأعداء من زعماء الغرب وطغاة العرب مع العدو اليهودي ضد أهلنا العزّل في غزّة الذين يسطرون بوحدتهم وايمانهم وجهادهم وصمودهم أروع صور البطولة والفداء والتضحية والإخاء، ويهيبون بأمتهم أن تتحد على الحق والهدى وتهب لنصرتهم ومساعدتهم في رفع الحصار ودفع العدوان
فالأرض قد تعطّشت للدماء والجنة اشتاقت للشهداء وفلسطين قبلة جهادنا، فهل من ملبٍّ للنداء!! هل من ملبٍّ للنداء.

 

سادسا: من وسائل التعميق لروح الأخوة:

1- إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه في الله.

2- إذا فارق الأخ أخاه فليطلب منه الدعاء بظهر الغيب.

3- إذا لقي الأخ أخاه فليطلق وجهه عند اللقاء أي يلقاه بوجه متهلل بالبشر والتلطف والابتسام.

4- إذا لقي الأخ أخاه فليبادر إلى مصافحته والسلام عليه.

5- أن يكثر من زيارة أخيه المسلم بين الحين والآخر.

6- أن يهنئه ويدخل عليه السرور في المناسبات السارة.

7- أن يعزيه ويسليه ويواسيه عند المصائب.

8- أن يساعده ويعاونه عند الحاجة.

9- أن يؤدي له حقوق الأخوة كاملة.

 

سابعا: حقوق الأخوة:

أولا: الإخلاص في المحبة.

ثانيا: حفظ العرض.

ثالثا: حسن الظن.

رابعا: ان يحب أخاه لله لا لغرض من الدنيا.

خامسا:طهارة القلب والنفس.

سادسا: الإعانة على قضاء حوائج الدنيا على قدر استطاعتك.

سابعا: التناصح.

ثامنا: التناصر.

تاسعا: الستر والتغافر.

 

والله من وراء القصد

 


[1] رواه مسلم رقم  ( 4656) وقال النووي في شرح الحديث: (و ( المدرجة ) بفتح الميم والراء هي الطريق، سميت بذلك لأن الناس يدرجون عليها، أي يمضون ويمشون. قوله: (لك عليه من نعمة تربها) أي تقوم بإصلاحها، وتنهض إليه بسبب ذلك).

[2] رواه مسلم رقم ( 4655).

[3] رواه البخاري  رقم ( 620).

[4] أخرجه أبو داود برقم ( 3060)  وفيه انقطاع وباقي رجاله ثقات.

[5] أخرجه الترمذي برقم ( 2445).

[6] متفق عليه   خ  برقم ( 15)  م ( 60).

[7] متفق عليه   خ ( 12 )  م ( 64).

_________________________________________________________
الكاتب: الشيخ محمد كامل السيد رباح