لا تحزن إن الله معنا
ولعل أبرز الآيات التي نزلت في بيان كرامة أبي بكر رضي الله عنه هى آية الهجرة من سورة التوبة...
أيها الإخوة الكرام : من آيات القرآن الكريم آيات كثيرات نزلت في شأن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، خير القرون، وصفوة الخلق بعد الأنبياء، كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام ...
آيات تكريم وآيات تشريف وآيات أمر ونهي..
{﴿ وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِى ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ۚ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾} نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه..
{﴿ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُۥ مُطْمَئِنٌّۢ بِٱلْإِيمَٰنِ ﴾ } نزلت الآية في عمار بن ياسر رضي الله عنهما..
{﴿ أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ ٱلْءَاخِرَةَ وَيَرْجُوا۟ رَحْمَةَ رَبِّهِۦ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ ﴾} نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه ..
{﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُۥ نُورًا يَمْشِى بِهِۦ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ ﴾} نزلت في حمزة رضي الله عنه..
{﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ ﴾} زيد بن حارثة رضي الله عنه..
{﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ ﴾} صهيب الرومي رضي الله عنه..
لكن تبقى الآيات التي نزلت في شأن أبي بكر رضي الله عنه هى الأكثر، وهى الأعظم أثراً، وهى الأعلى شرفاً..
ولعل أبرز الآيات التي نزلت في بيان كرامة أبي بكر رضي الله عنه هى آية الهجرة من سورة التوبة...
{ ﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ }
«ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ» الأول في هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلّم والثاني أبو بكر، «إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ» القائل في الآية رسول الله صلى الله عليه وسلّم والصاحب أبو بكر، «لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ» الناهي في هذا الموضع هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمُخاطَبُ بالنهي أبو بكر، «فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا» أيد الله بالجنود رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أما السكينة فنزلت على أبي بكر..
{ ﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ }
هذه الآية تتحدث عن أصعب الأيام والليالي التي مرت على النبي محمد صلى الله عليه وسلّم «إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟»
لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلّم من البشر في تلكم الأيام العصيبة والليالي الخطيرة إلا أبا بكر رضي الله عنه، كانوا اثنين فقط وكان الله سبحانه وتعالى ثالثهما..
ليلة تآمرت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو وحيد فريد بلا معين وبلا نصير إلا الله، ورغم ذلك سلّمه الله تعالى ونجاه {﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ ۖ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ ﴾}
العجيب في تلك الليلة هو حال النبي صلى الله عليه وسلّم..
هو إنسان واحد رمته قريش عن قوس واحدة، واجتمعوا على المكر به، وعقدوا العزم على أذيته، ورصدوا أنفس أموالهم في سبيل القضاء عليه، وعلى الرغم من كل ذلك ما اهتزت شعرة واحدة في رأس النبي عليه الصلاة والسلام، لم يعرف الخوفُ ولا الفزعُ ولا الحزنُ ولا اليأسُ طريقه إلى قلب النبي عليه الصلاة والسلام ..
إنه الإيمان بالله عز وجل، إنه حسن الظن بالله تبارك وتعالى، إنه الثقة في وعد الله سبحانه وتعالى..
أخذ رسول الله في ليلة الهجرة بكل أسباب النجاة الممكنة، لأن الأخذ بالأسباب سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، قد أبى الله عز وجل إلا أن يجعل لكل شيء سبباً..
وبعد الأخذ بكل الأسباب الممكنة، فوّض رسول الله أمره إلى الله عز وجل، فامتلأ القلب ثقة وأماناً وطمأنينة واتفاؤلاً واستبشاراً ..
أما في الطريق فجعل ابو بكر يمشي أمام رسول الله، وجعل يمشي خلف رسول الله، ثم جعل يمشي عن يمينه، ثم عن يساره، كل ذلك وهو كثير الإلتفات خوفاً على رسول الله يود لو كان ضرر أو لو كان أذى أصابه هو وسَلِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ..
أما رسول الله فثقته وطمأنينته لم تفارقه، جعل يمشي ينظر تلقاء وجهه، لا يلتفت، يقرأ القرآن، ويدعو الله عز وجل..
وأما أبو بكر فطار قلبه خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم..
هذه الليلة عدها عمر رضي الله عنه خير من عمر ومن آل عمر ..
وأما في الغار فلم يزل أبو بكر رضي الله عنه يخشى على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يخشى قريشاً، يخشى أذيتهم بصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، يخشى أن يُمس جناب النبي عليه الصلاة والسلام ..
تأزمت الأمور، وحضرت قريش بأكابر مجرميها، تقتفي الآثار، حتى وصلت إلى الغار وفيه رسول الله وفيه أبو بكر، ووقفوا بباب الغار وليس بين قريش وبين رسول الله شيء، فجعلوا ينظرون ولا يبصرون، وجعل أبو بكر يتكلم ورسول الله يرد عليه وهم لا يسمعون..
يقول أبو بكر : يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا فيربض رسول الله على كتف الصديق فيقول يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما.. يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا..
إن الله معنا هى: رسالة أمان واطمئان فمع العسر يسران..
إن الله معنا هى: رسالة تفاؤل فمع الكرب فرج، ومع البلاء لطف من الله سبحانه وتعالى..
وإذا كنت في معية الله تعالى فلا خوف، ولا حزن، ولا يأس، ولا ضلال، ولا ضياع لأن الله معك..
فهو الحي الذي لا يموت، وهو القيوم الذي لا يغفل ولا ينام، وهو القوي الذي لا يضام ، وهو الغني الذي لا يُلام، وهو العزيز وهو الغالب الذي لا يقهر ، وهو خير الحافظين، وهو أرحم الراحمين.. لو كان معك فمن عليك ؟!
لو أن الله معك فمن ذا الذي يكون عليك ؟!
قالت (عاد) ل( هود عليه السلام) {﴿ إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعْتَرَىٰكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوٓءٍ ۗ}} فرد ( هود) على ( عاد) {{قَالَ إِنِّىٓ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوٓا۟ أَنِّى بَرِىٓءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾﴿ مِن دُونِهِۦ ۖ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ﴾﴿ إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌۢ بِنَاصِيَتِهَآ ۚ إِنَّ رَبِّى عَلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾}
نسأل الله العظيم أن ينصرنا وأن يجبرنا وأن يكون بفضله ورحمته وإحسانه وإنعامه معنا لا علينا.. آمين.
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث أن نقول:
تدور الأيام دورتها، وتعود الأحداث وتتكرر، وبعد 1446 عاماً من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يزل العدو عدواً، ولم يزل الكيد والمكر والغدر كما هو، ولم يزل الصراع بين الحق وبين الباطل على أشده..
أهل الباطل وقفوا صفاً واحداً، ورموا أهل الحق عن قوس واحدة، ورصدوا لذلك الأموال وخرجوا على المنابر الإعلامية يكذبون ويتهمون أهل الحق بالوحشية والهمجية.. وأهل الحق كل واحد منهم يغرد في واد ٍ، لا يجتمعون على كلمة واحدة، ولا يقفون في صف واحد، بل إن من أهل الحق من نزع يده، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
هذا الحال الذي نحن فيه الآن من التقاعس والتفرق والخذلان وقع بالحرف الواحد في العام التاسع من الهجرة مع النبي عليه الصلاة والسلام..
أما أهل الباطل في ذلك الزمان فتمثلوا في الروم ( القوة العظمى على وجه الأرض في ذلك الزمان) عقدت الروم العزم على غزو المدينة لقطع دابر الإسلام والمسلمين...
فكلم الرسول الناس، وأمرهم أن يجهزوا أنفسهم وأموالهم دفاعنا عن الحق الذي هم عليه، فمن المسلمين من استجاب بنفسه وماله..
ومنهم من تكاسل، ومنهم من تعلل، ومنهم من تخلف، ومنهم من جبن، ومنهم من سعى بين الناس يحطم معنوياتهم ويقول ( لا تنفروا في الحر) ..
في ذلك الوقت وجد رسول الله نفسه كوحيد أسلمه من حوله، وكقوي خذلته قدماه..
في ذلك الوقت نزلت رسالة السماء ترفع من همة النبي صلى الله عليه وسلّم وهمة الصادقين معه، وتعتب على المتكاسلين الذين خذلوا رسول الله وتكاسلوا وقعدوا عن نصرة الإسلام، ليأتي مضمون الرسالة أن الله تعالى قادر أن ينصر الإسلام ورسول الإسلام ولو لم يكن مع الرسول أحد، وما هجرة النبي إلا مثل من الأمثلة:
{﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْءَاخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْءَاخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ ﴿ إِلَّا تَنفِرُوا۟ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْـًٔا ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ }
أسأل الله العظيم أن ينصر الحق وأهل الحق على الباطل وأهل الباطل عاجلاً غير آجل إنه ولي ذلك والقادر عليه.. آمين.
محمد سيد حسين عبد الواحد
إمام وخطيب ومدرس أول.
- التصنيف: