الطيرة في شهر صفر

منذ 2012-01-21

من نعم الله عز وجل على العبد وتوفيقه له أن يرزقه العلم بما في كتابه الكريم، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ويدلُّه على الطريق الموصلة إلى رضوانه، ويوفقه لسلوكها، فكم من البشر ضلوا عن الطريق الموصلة إليه؟


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:
من نعم الله عز وجل على العبد وتوفيقه له أن يرزقه العلم بما في كتابه الكريم، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ويدلُّه على الطريق الموصلة إلى رضوانه، ويوفقه لسلوكها، فكم من البشر ضلوا عن الطريق الموصلة إليه؟ وكم فئة من الناس عرفوا هذه الطريق ثم جانبوها؟

وإن نعمة الهداية إلى الطريق الحق نعمة لا تعدلها نعمة، إذ امتن الله عز وجل بها على عباده المؤمنين فقال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. ورغم أن طرق الضلال كثيرة وسبله عديدة، إلا أن طريق الحق واحد: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. وهي الطريق التي نسأل الله عز وجل في كل صلاة أن يهدينا إليها، ويثبتنا عليها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].

إلا أن كثيراً من الناس جانبوا الصواب في طريق الهداية، وسلكوا طريق الغواية والضلال، فلم يرعوا للنص سمعاً، وإن من طرق الغواية التي يعيشها كثير من البشر (الطيرة) والطيرة اسم مصدر تطير وهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وقيل: التشاؤم بمعلوم مرئياً كان أو مسموعاً، زماناً كان أو مكاناً، وهذا أشمل فيشمل ما لا يرى ولا يسمع كالتطير بالزمان، وأصل التطير: "التشاؤم، لكن أضيفت إلى الطير، لأن غالب التشاؤم عند العرب بالطير، فعلقت به، وإلا فإن تعريفها العام: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم" وكان العرب يتشاءمون بالطير وبالزمان، وبالمكان وبالأشخاص، وهذا من الشرك" (موسوعة توحيد رب العبيد:10/ 385).

وكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب، وبمرور الظباء، فسموا الكل: تطيراً لأن أصله الأول، ولم يكن التشاؤم حادثاً عند العرب في جاهليتهم فقط، بل كان موجوداً في الأمم التي سبقتهم، فقوم صالح عليه السلام تشاءموا منه وقالوا: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل: 47]. وأصحاب القرية تشاءموا بالمرسلين إليهم: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18]. وآل فرعون تشاءموا بموسى ومن معه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]. وكفار مكة كانوا يتشاءمون من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وينسبون إليها ما يصيبهم من شر كما قال الله عنهم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78].

وهناك الكثير ممن ابتعدوا عن توحيد ربهم، أو غاب عنهم اليقين بربهم، يتشاءمون من ساعات، أو أيام أو أصوات، أو طيور أو حيوانات، أو رؤية أقوام أو أرقام، أو نحو ذلك، ومنهم ممن يتشاءم من البوم والغراب، أو رؤية الأعور والأعرج، وبعضهم يتشاءم من يوم الأربعاء، أو ساعة معينة منه، أو يتشاءمون بشهر صفر حيث كان ذلك موجوداً عند بعض الناس منذ القدم.
وكان العرب يعتقدون أن شهر صفر شهر حلول المكاره، ونزول المصائب، وتشاءم المشركون من شهر صفر لأنهم كانوا يعودون فيه إلى السلب والنهب، والغزو والقتل بعد الكف عنها في الأشهر الحرم، حتى أنه لا يتزوج من أراد الزواج في هذا الشهر لاعتقاده أن لا يوفق، ومن أراد تجارة فإنه لا يمضي صفقته في شهر صفر خشية ألا يربح.

إن أوجب الواجبات على العبد معرفة توحيد الله عز وجل، وتحقيقه في الواقع، والحذر من الوقوع فيما يناقضه من الشرك والخرافات والبدع، لأن التوحيد هو القاعدة والأساس في دين الإسلام، فلا يقبل الله عملاً إلا به، وهو أصل الأصول الذي خلقنا لأجله، والأعمال كلها متوقف قبولها واعتبارها على تحقيق هذا الأصل العظيم، فالشياطين ما فتئت تترصد لبني آدم تجتالهم وتغويهم، وإن مما يضاد التوحيد في واقع المسلمين المعاصر اليوم ما يعتقده بعض من ابتعد عن الدين الحنيف في هذا الزمان من اعتقادات وبدع في هذا الشهر من العام ألا وهو شهر صفر.

وإذا كان أهل الجاهلية يعتقدون في بعض الأشهر الاعتقادات الباطلة، فإن الناظر لحالهم قد يجد لهم عذراً وهو جهلهم وبعدهم عن الهدي الرباني السليم، وانتشار الجاهلية فيهم، أما أبناء المسلمين اليوم فما عذرهم في الوقوع قي هذا الوحل من البدع والخرافات، وما بال فئة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن هم من أهل التوحيد، والهدي الرباني النبوي أبت أنفسهم إلا التشبه بأهل الجاهلية، والحذو حذوهم في بعض بدعهم واعتقاداتهم، حتى أن هناك فئة منهم تروج للأمة هذه البدع، وتؤصل لها وفق أحاديث مكذوبة على الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكل هذا تحت مسمى ديني.

وشخصيات تسمي أنفسها أنها مرجعيات للأمة، فأين هؤلاء من قول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ، وَلَا صَفَرَ» (البخاري: 5316، ومسلم: 4116). فقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم محارباً لهذه البدعة، ونهى عنها، وقد قيل في تفسير صفر: "أنهم كانوا في جاهليتهم يتشاءمون من شهر صفر، وأنهم يقولون: إنه شهر مشئوم" فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: «وَلَا صَفَرَ».

وتبرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الذين يتطيرون فعن عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ، أَوْ تُطِيَّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ، أَوْ تُكِهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ، أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ عَقَدَ عُقْدَةً أَوْ قَالَ: مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-» (مسند البزار: 2/30، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3/97). وفي الحديث إشارة إلى: "براءة المصطفى صلى الله عليه وسلم ممن يفعل شيئاً من هذه الأفاعيل التي منها التطير، والسحر، ولا يتبرأ صلى الله عليه وسلم من فاعل فعل مباح" (حقيقة السحر وحكمه في الكتاب والسنة: 2/7).

وأين هم من قوله: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» (البخاري: 2499، ومسلم: 188). وفي صحيح البخاري: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (البخاري: 2499، ومسلم: 188). فالبدع كلُّها ضلالٌ لأنها ليست من الدين في شيء، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (مسلم: 1435).
فكل فعلة أُحدِثَت على خلاف الشرع فهي ضلالة، لأن الحق ما جاء به الشارع الحكيم، وما لا يرجع إليه يكون ضلالة، بل عدَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطيرة من الشرك بالله عز وجل، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الطيرة شرك، الطيرة شرك ثلاثاً، ولكن الله يذهبه بالتوكل» (الأدب المفرد: 1/313). فهذا هو حكم الطيرة في الدين الإسلامي الحنيف، ومنها التطير والتشاؤم من شهر صفر دون أن يستَنَد في هذا الصنيع إلى دليل شرعي مصدره كتاب الله عز وجل، أو سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو بما ثبت عن الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-

وإنما هو اتباع هوى، وتلبيس الشيطان، وخرافة محدثة، وعادة جاهلية باطلة، تؤثر على إيمان العبد ويقينه بالله عز وجل، وتوكله عليه في كل أموره، فالزمان لا تأثير له في قضاء الله، فما أراده الله عز وجل كان، وما لم يرده لم يكن، وكل ذلك داخل تحت قدرته ومشيئته تبارك وتعالى، وتخصيص الشؤم بزمان كشهر صفر أو نحوه غير صحيح، إذ هو في الحقيقة معصية الله تعالى، وإنما الزمان كله لله، وهو خلق من خلق الله تعالى، وفيه تقع أعمال بني آدم وفق إرادة الله تبارك وتعالى.

ألا فليحذر مروجوا البدع من خطورة ما يقومون به من إضلال للأمة، وإغواء للعامة، وعليهم أن يعلموا أن أوزار من اتبعهم من الناس فإن لهم نصيب منها لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» (الشرح المختصر على بلوغ المرام: 3/292، بتصرف).

ثم من أين لهم أن يتشاءموا بهذا الشهر، ويتطيروا به، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يصدر منه أثر حتى ولو كان ضعيفاً أنه تشاءم بهذا الشهر، بل نراه قد هاجر من مكة إلى المدينة في شهر صفر، فلو أنه عليه الصلاة والسلام كان يتشاءم لتشاءم من الخروج إلى المدينة في هذا الشهر، لأنه يعلم أن بطون قريش كلها تطلب دمه، قال يزيد بن أبي حبيب: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في صفر، وقدم المدينة في ربيع الأول" (صفة الصفوة: 1/125).

ونراه صلى الله عليه وآله وسلم تزوج بخديجة -رضي الله عنها- في شهر صفر، قال ابن إسحاق: "في شهر صفر كان زواج السيدة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عقب خمسة وعشرين يوماً من صفر سنة ست وعشرين" (سبل الهدى والرشاد: 2/165). ولو افترضنا جدلاً أن هذا الزواج كان في أيام الجاهلية، وقبل البعثة فإنه يرد عليه بأن التشاؤم كان موجوداً في أيام الجاهلية، فهو أحرى بأن يتشاءم..!

ثم ماذا يقولون في تزويجه صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بابنته فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- في الإسلام، وبعد بعثته صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال ابن كثير: "وأما فاطمة -رضي الله عنها- فتزوجها ابن عمها علي بن أبى طالب -رضي الله عنه في صفر سنة اثنتين، فولدت له الحسن والحسين، ويقال ومحسن، وولدت له أم كلثوم وزينب" (السيرة النبوية لابن كثير: 4/611).

فمن أين لهم صحة ما يدعونه، وإذا استندوا إلى نقل ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم زوراً وكذباً فهي مكذوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجملة ما استندوا إليه حديثين هما:
حديث: «من بشرني بخروج صفر بشرته بالجنة».
وحديث: «يكون صوت في صفر، ثم تتنازع القبائل في شهر ربيع، ثم العجب العجاب بين جمادي ورجب» وهذين الحديثين من الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لم ترد عنه، قال الصغاني: "موضوع" وكذا قال العراقي (الفوائد المجموعة: 1/438).

وقال القاري في الموضوعات تبعاً للصغاني: "لا أصل له" (كشف الخفاء: 2/236). وقال أبو حنيفة النعمان وقد سئل: "هل يصح هذا الخبر، وهل فيه نحوسة ونهي عن العمل فيه؟ هل الأمر كما زعموا؟" فقال: "أما ما يقولون في صفر فذاك شيء كانت العرب يقولون ذلك، وأما ما يقولون القمر في العقرب أو في الأسد فإنه شيء يذكره أهل النجوم، ولتنفيذ مقالتهم ينسبون إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو كذب محض" (الفتاوى الهندية في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان: 5/380، بتصرف).

وأهم علاج للتطير هو: التوكل على الله تعالى، والمضي فيما عزم عليه العبد، والبعد عن وساوس الشيطان وتلبيساته، وعدم الاستسلام لنزواته، واليقين الكامل الصادق بأن الأمور كلها بيد الله سبحانه وتعالى، وأن القدر مكتوب لا ترده الطيرة، وكذا اليقين الصادق الذي لا يتخلله شك، ولا تتطرق إليه شبهة، في أن ما قضاه الله وقدَّره هو الذي سيكون متى ما أراده الله، ووفق مشيئته سبحانه.

ألا فليتق الله عز وجل كل مسلم، وليراجع دينه، ويصحح عقيدته وفق ما جاء من عند الله تبارك وتعالى، ودلنا عليه رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الفلاح كل الفلاح في اتباع شرع الله عز وجل، والخسارة كل الخسارة في البعد عنه، والابتداع فيه بما ليس منه، وليلتزم كل أحد بالنصوص القرءانية، والأحاديث النبوية الصحيحة للفوز برضوان الله تبارك وتعالى في الدارين.

نسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


 

المصدر: موقع إمام المسجد