موقف أهل السنة والجماعة من مسألة التكفير

منذ 2024-07-31

ومن أصول عقيدة السلف الصالح؛ أهل السُّنَّة والجماعة: أنهم لا يكفرون أحدًا بعينه من المسلمين ارتكب مكفِّرًا، إلا بعد إقامة الحُجَّة التي يكفُرُ بموجبها؛ فتتوافر الشروط، وتنتفي الموانع، وتزول الشبهة عن الجاهل والمتأوِّل

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، والصلاة والسلام على خير خَلْقِ الله محمد بن عبدالله، وآله وصحبه، ومن اهتدى بهداه؛ أما بعد:

فهذه كلمات مُستلَّة بتصرُّفٍ من كتاب: (الوجيز في عقيدة السلف الصالح... أهل السُّنَّة والجماعة)، لمؤلِّفه: عبدالله بن عبدالحميد الأثري السلفي العراقي، حفظه الله تعالى، وهو كتاب نافع في موضوع يحتاجه كل أحد، ذكر فيه عقيدة مختصرة في بيان: عقيدة السلف الصالح، أهل السُّنَّة والجماعة، وقد ذكر الباعث له على تأليف الكتاب بقوله: "قد حمَلَ على جمعه وكتابته ما تعيشه الأمة الإسلامية اليومَ من تفرُّقٍ واختلاف، يتمثلان في الفِرَقِ المعاصرة، والجماعات الموجودة في الساحة؛ كلٌّ يدعو إلى عقيدته ومنهجه، ويُزكِّي جماعته، حتى اختلط الأمر على الناس، وأصبحوا في حَيرة من أمرهم، من يتَّبعون؟ وبمن يقتدون؟"، والآن مع المادة المختارة:

ومن أصول عقيدة السلف الصالح؛ أهل السُّنَّة والجماعة: أنهم لا يكفرون أحدًا بعينه من المسلمين ارتكب مكفِّرًا، إلا بعد إقامة الحُجَّة التي يكفُرُ بموجبها؛ فتتوافر الشروط، وتنتفي الموانع، وتزول الشبهة عن الجاهل والمتأوِّل، ومعلوم أن ذلك يكون في الأمور الخفيَّة التي تحتاج إلى كشف وبيان، بخلاف الأشياء الظاهرة؛ مثل: جحد وجود الله، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وجحد عموم رسالته، وختمه للنبوة.

 

وأهل السُّنَّة لا يكفِّرون الْمُكْرَهَ إذا كان قلبه مطمئنًّا بالإيمان، ولا يكفرون أحدًا من المسلمين بكل ذنب، ولو كان من كبائر الذنوب التي هي دون الشرك؛ فإنهم لا يحكمون على مرتكبها بالكفر، وإنما يحكمون عليه بالفسق ونقص الإيمان، ما لم يستحلَّ ذنبه؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، ويقول سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

 

وإذا مات العبد على ذنب - دون الشرك - لم يستحِلَّه، فأمرُهُ إلى الله تعالى، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له، خلافًا للفرق الضالَّة التي تحكم على مرتكب الكبيرة بالكفر، أو بالمنزلة بين المنزلتين.

 

وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر أحدٌ أحدًا دون برهان؛ قال صلى الله عليه وسلم:  «أيما امرئ قال لأخيه: يا كافرُ، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه»؛ (رواه مسلم)، وقال:  «من دعا رجلًا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه»؛ (رواه مسلم)، وقال:  «لا يرمي رجلٌ رجلًا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك»؛ (رواه البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم:  «ومن رمى مؤمنًا بكفرٍ، فهو كقتله»؛ (رواه البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم:  «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافرُ، فقد باء به أحدهما»؛ (رواه البخاري).

 

فرق بين الحكم على القول والحكم على المعيَّن:

وأهل السُّنَّة والجماعة يفرِّقون بين الحكم المطلق على أصحاب البدع بالمعصية أو الكفر، وبين الحكم على شخص معين ممن ثبت إسلامه بيقين، صدرت عنه بدعة من البدع، بأنه عاصٍ أو فاسق أو كافر، فلا يحكمون عليه بذلك حتى يَبِينَ له الحق، وذلك بإقامة الحُجَّة، وإزالة الشبهة، وهذا في الأشياء الخفية، لا في الأمور الظاهرة، ثم هم لا يُكفِّرون الْمُعَيَّن، إلا إذا تحقَّقت فيه الشروط، وانتفت الموانع.

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  «كان رجلان في بني إسرائيل مُتَواخِيَينِ، فكان أحدهما يُذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقْصِرْ، فوجده يومًا على ذنب، فقال له: أقْصِرْ، فقال: خلِّني وربي، أبُعثتَ عليَّ رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك - أو لا يدخلك الله الجنة - فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: كنت بي عالمًا، أو كنت على ما في يدي قادرًا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار»، قال أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسي بيده، لَتكلَّمَ بكلمةٍ أوْبَقَت دنياه وآخرته))؛ (صحيح سنن أبي داود).

 

أنواع الكفر:

والكفر ضد الإيمان إلا أن الكفر في لسان الشرع كفران؛ إذ يرد الكفر في النصوص مرادًا به أحيانًا الكفر المخرج عن الملة، وأحيانًا يُراد به الكفر غير المخرِج عن الملة، وذلك أن للكفر شُعَبًا، كما أن للإيمان شعبًا، والكفر ذو أصول وشعب متفاوتة؛ منها ما يُوجِبُ الكفر، ومنها ما هي من خصال الكفار:

أولًا: كفر أكبر مُخرِج من الْمِلَّة، ويسمى الكفر الاعتقادي: هو ما يناقض الإيمان، ويُبطل الإسلام، ويُوجِب الخلود في النار، ويكون بالاعتقاد والقول والفعل، وينحصر في خمسة أنواع:

كفر التكذيب: هو اعتقاد كذب الرسل، أو ادعاء أن الرسول جاء بخلاف الحق، أو من ادَّعى أن الله حرم شيئًا أو أحلَّه، مع علمه أن ذلك خلاف أمر الله ونهيه.

 

كفر الإباء والاستكبار مع التصديق: وذلك بأن يقر أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حقٌّ من ربه، لكنه يرفض اتَّباعه أَشَرًا وبَطَرًا واحتقارًا للحق وأهله؛ ككفر إبليس، فإنه لم يجحد أمر الله ولم ينكره، ولكن قابله بالإباء والاستكبار.

 

كفر الإعراض: بأن يُعرِض بسمعه وقلبه عن الرسول لا يُصدِّقه، ولا يُكذِّبه، ولا يواليه، ولا يعاديه، ولا يصغي إليه ألبتة، ويترك الحق لا يتعلمه ولا يعمل به، ويهرب من الأماكن التي يُذكَر فيها الحق؛ فهو كافر كُفْرَ إعراض.

 

كفر النفاق: وهو إظهار متابعة ما جاء به الرسول، مع رفضه وجحده بالقلب؛ فهو مُظْهِر للإيمان به، مُبْطِن للكفر، والنفاق نوعان: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل:

أولًا: نفاق الاعتقاد، أو النفاق الأكبر: وهو ما أبطن الكفر في القلب، وأظهر الإيمان على لسانه وجوارحه، وصاحبه من أهل الدرك الأسفل من النار؛ مثل من كذَّب بما جاء به الله، أو بعض ما جاء به الله، وكذب الرسول، أو بعض ما جاء به الرسول، أو كراهية الانتصار لدين الرسول، وغيرها من الأعمال الكفرية.

 

ثانيًا: نفاق العمل، أو النفاق الأصغر: وهو النفاق العملي؛ أي: ما ظهر فيه العمل على وجه مخالف لما يكون عليه الشرع، وصاحبه لا يخرج من الملة؛ مثل: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر؛ كما جاء في الحديث.

 

كفر الشك: بألَّا يجزم بصدق النبي ولا كذبه، بل يشك في أمره، ويتردد في اتباعه؛ إذ المطلوب هو اليقين بأن ما جاء به الرسول من ربه حقٌّ لا مرية فيه، فمن تردد في اتباعه لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو جوَّز أن يكون الحق خلافه، فقد كَفَرَ كُفْرَ شكٍّ وظن.

 

وهذه الأنواع من الكفر مُوجِبة للخلود في النار، ومُحْبِطة لجميع الأعمال، إذا مات صاحبها عليها؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]، وقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].

 

ثانيًا: كفر أصغر غير مخرج من الملة: أطلقه الشارع على بعض الذنوب على سبيل الزجر والتهديد؛ لأنها من خِصال الكفر، وما كان من هذا النوع فمن كبائر الذنوب، وهو مقتضٍ لاستحقاق الوعيد دون الخلود في النار، ومن الأمثلة على ذلك: قتال المسلم، والحلف بغير الله تعالى، والطعن في النسب، والنياحة على الميت، وقول المؤمن لأخيه المؤمن: يا كافر، إلى غير ذلك؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:  «سِباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر»؛ (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم:  «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقابَ بعضٍ»؛ (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم:  «من حلف بغير الله فقد أشرك، أو كفر»؛ (صحيح أبي داود)، وقال صلى الله عليه وسلم:  «اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب، والنياحة على الميت»؛ (رواه مسلم).