معالم من سورة الطارق
التفكُّر في عَظَمَة الله وواسع قدرته وعظيم بطشه وشديد انتقامه يورث القلب خوفًا وخشيةً تحولُ بينه وبينَ شهواتِ نفسِه وأهوائِها
الحمد لله أكرمنا بالقرن وأعزنا بالإسلام، وجعلنا من خير أمة أُخرجت للناس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوه، ونشر دينه وبلّغوه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله..
أيها الإخوة.. آيات القران العظيم تهزُّ قلبَ القارئِ المتدبر، لأنها كلامُ اللهِ عز وجل خالقِ كلِّ شيء.. العظيمِ الجليلِ سبحانه.. فكيف إذا كانت قسمًا منه سبحانه؟! والعظيمُ سبحانه يقسمُ بمخلوقاته العظيمة تبارك وتعالى، ولا يجوز أن يقسم أحدٌ بمخلوق سوى الله الخالق تبارك وتعالى، فهو من له الحق وحده بالقسم بمخلوقاته، ومن تلك السور القصيرة التي تُحدثُ أثرًا في النفوس المؤمنة.. سورة مكية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها أحيانًا في صلاة العشاء، يُقسم تعالى فيها بالسماء وما جعل فيها من الكواكب النيرة؛ ولهذا قال:
(والسماء والطارق).. ثم قال (وما أدراك ما الطارق) ثم فسره بقوله: (النجم الثاقب)
قال قتادة وغيره: إنما سمي النجم طارقًا؛ لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار. ولذا جاء في الحديث الصحيح: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا»[1] أي: يأتيهم فجأة بالليل. وفي الحديث الآخر المشتمل على الدعاء: «إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ، يَا رَحْمَنُ»[2][3].
والثاقب المضيء والمحرق للشيطان.
ثم قال عز وجل: {إن كل نفس لما عليها حافظ} وهذا هو جواب القسم. وقيل: الجواب إنه على رجعه لقادر[4].. أي: يحفظ عليها أعمالها الصالحة والسيئة، وستجازى بعملها المحفوظ عليها[5].. وقال ابن كثير: كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات، كما قال تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} ثم قال جل وعلا: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} استفهامٌ أي من أي شيء خلق؟ أي ابن أدم مم خلق وجه الاتصال بما قبله توصية الإنسان بالنظر في أول أمره، وسنته الأولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره[6]. وفي هذا تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه، وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد؛ لأن من قدر على البداءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى، كما قال: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}.
ثم قال سبحانه: {خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ} يعني المني يخرج دفقا من الرجل ومن المرأة فيتولد منهما الولد بإذن الله عز وجل. {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} يحتمل أنه من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهي ثدياها.
ويحتمل أن المراد أنه ماء الرجل يخرج من بين صلبه وترائبه، وهذا أولى..
{إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} فالذي أوجد الإنسان من ماء دافق، يخرج من هذا الموضع الصعب، قادر على رجعه في الآخرة، وإعادته للبعث، والنشور والجزاء[7].
{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أي: تختبر سرائر الصدور، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ففي الدنيا، تنكتم كثير من الأمور، ولا تظهر عيانًا للناس، وأما في القيامة، فيظهر بر الأبرار، وفجور الفجار، وتصير الأمور علانية[8] مكشوفة والله المستعان.
{فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ} يدفع بها عن نفسه {وَلَا نَاصِرٍ} خارجي ينتصر به، فهذا القسم على حالة العاملين وقت عملهم وعند جزائهم.
ثم أقسم قسمًا ثانيًا على صحة القرآن، فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أي: ترجع السماء بالمطر كل عام، وتنصدع الأرض للنبات، فيعيش بذلك الآدميون والبهائم، وترجع السماء أيضًا بالأقدار والشؤون الإلهية كل وقت، وتنصدع الأرض عن الأموات.
ثم جاء جواب القسم الثاني: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} إنه، يعني القرآن، لقول فصل، حق وجِدٌّ يفصل بين الحق والباطل[9].
وما هو بالهزل، ما هو باللعب والباطل. بل هو القول الذي يفصل بين الطوائف والمقالات، وتنفصل به الخصومات[10].
ثم أخبر عن مشركي مكة فقال: {إنهم يكيدون كيدًا}، يخافون النبي صلى الله عليه وسلم ويظهرون ما هم على خلافه، ويدخل في الآية كل المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم، وللقرآن. بل كل الذين يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن، حتى في وقتنا الحاضر.
وأكيد كيدًا، قال البغوي: وكيد الله استدراجه إياهم من حيث لا يعلمون. اهـ [11]
والآدمي أضعف وأحقر من أن يغالب القوي العليم في كيده.
ثم قال: {فمهل الكافرين} أي: أنظرهم ولا تستعجل لهم، {أمهلهم رويدا} أي: قليلًا. أي: وترى ماذا أحل بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك، كما قال: (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}[12].
وهنا وقفات:
الأولى: أنّ هذا القسم العظيم بالسماء وبالنجوم من خالقها وخالق كل شيء سبحانه مدعاة للمؤمن أن يلتزم عبادة التفكر.. وما سلك العابدون طريقًا إلى ربهم أسرع ولا أرحب من التفكُّر.
وتعويد القلــب علـى التفكُّـر، يستنبت في القلب معاني التوحيد، ويستفيد منه العبد معرفة الرب وجلال عظمته.
قـال وهـب بن منبـه: ما طالـت فكرةُ امـرئٍ قـط إلا فَهِـم، ومـا فَهِـم إلا علـم، وما علم إلا عمل[13]
والتفكُّر في عَظَمَة الله وواسع قدرته وعظيم بطشه وشديد انتقامه يورث القلب خوفًا وخشيةً تحولُ بينه وبينَ شهواتِ نفسِه وأهوائِها؛ فالأثر لهذا التفكُّر يعرقل عمل الشهوات في القلب ويدفع أهواءها على حسب قوة الوارد من أنوار التفكُّر؛ فتُسْلَب الشهوة من عاجل لذتها فما يتبقى منهــا ســوء عاقبتهــا. قال بِشْر الحافي: لو تفكَّر الناس في عَظَمَة الله - تعالى - ما عصوه[14].
الوقفة الثانية: أنّ المؤمن الحق يستحضر في كل أحيانه الكرام الحفظة الكاتبون فلا يعمل إلا ما يرضي الله، وإن أخطأ أو قصر تراجع وتاب واستغفر.
والكرام الكاتبون يلازمون الإنسان في كل لحظة وحين، لا يفارقونه بحال، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، طاهرًا أو نجسًا.
وأما الذين يفارقون الإنسان إذا كان جنبًا فهم ملائكة الرحمة، كما روى أبو داود عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلى أن يتوضأ» [15] قال صاحب عون المعبود قوله: لا تقربهم الملائكة أي النازلون بالرحمة والبركة على بني آدم، لا الكتبة فإنهم لا يفارقون المكلفين.
الوقفة الثالثة: أنّه مهما عظم كيد أعداء الملة والدين من اليهود والنصارى والمنافقين والباطنين وغيرهم، فلن يطول كيدُهم ولن يَغلِبُون، لأنّ اللهَ قال إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا، وكيدهم لا يساوي شيئًا أمام الله تعالى، ولأن المؤمن مدركٌ أن العاقبة للمتقين.
[1] أخرجه البخاري (5243)، ومسلم (715).
[2] أخرجه أحمد في المسند (15461)، وصححه الألباني في الصحيحة (840).
[3] تفسير ابن كثير ط قرطبة (14/ 315).
[4] تفسير القرطبي (20/ 3).
[5] تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 920).
[6] تفسير القرطبي (20/ 4).
[7] تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 920).
[8] تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 920)
[9] تفسير البغوي - طيبة (8/ 395)
[10] تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 920).
[11] تفسير البغوي - طيبة (8/ 395)
[12]تفسير ابن كثير ط قرطبة (14/ 318).
[13] العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (1/ 313).
[14] مجلة البيان (168/ 10).
[15] رواه أبو داود (4180)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (3522)
______________________________________________________
الكاتب: د. صغير بن محمد الصغير
- التصنيف: