التسبيح
التسبيح لغةُ الكون، ولسان الوجود، تتغنَّى به الأشجار، وتشدو به البلابل والأطيار، وتترنَّم به الجبال، وتتعبَّد به البحار والأنهار
التسبيح لغةُ الكون، ولسان الوجود، تتغنَّى به الأشجار، وتشدو به البلابل والأطيار، وتترنَّم به الجبال، وتتعبَّد به البحار والأنهار، وهو دَيدنُ السماء وأهلها، والأجواء وطيرها، والأرض إنسِها وجنِّها، ووحشها وأليفها، كلٌّ يُردِّد: سبحان الله، سبحان الله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41]، أما الملائكة، فتسبيحهم متواصل ليلَ نهارَ: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، وفي مقدمتهم حملة العرش: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]؛ يقول شهر بن حوشب: "حملة العرش ثمانية: أربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك"، وأما الرعد، فإنه يسبح بحمد الله مع الملائكة؛ خوفًا من الله؛ {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13]، وأما الجبال، فقد سُخِّرت مع الطير يسبِّحن بتسبيح داود عليه السلام: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79]، فإذا ما جَلَونا مرآةَ التسبيح عند البشر، فإننا نرى في القمة أنبياء الله ورسله، نراهم يعيشون في جنة التسبيح ليلَ نهارَ؛ فهذا زكريا عليه السلام يقول له ربه عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]، فيمتثل لأمر الله، بل ويأمر أهله بالتسبيح بكرةً وعشيًّا: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]، وهذا يونس عليه السلام يدعو وهو في بطن الحوت ضارعًا إلى مولاه؛ قائلًا: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وهذا موسى عليه السلام حين يُفيق من صعقة الطور ينطق أول ما ينطق بتسبيح الله: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]، وهذا عيسى عليه السلام يقول عنه رب العزة والجلال: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، فيرُد منزِّهًا ربه عز وجل: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116]، سبحانك أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يُولَد، ولم يكن له كفوًا أحد!
فإذا ما دخلنا بستان التسبيح في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجدنا أطايبَ الأزهار، وعجائب الرياحين؛ فقد كان التسبيح غِلاف حياته وصوت صدره؛ خاطبه ربه قائلًا: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98]، وخاطبه قائلًا: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58]، وخاطبه قائلًا: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]، فصَدَعَ بأمر الله، وصار التسبيح روح حياته، وصديق عمره، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء والمرسلين القدوةُ والأُسوةُ، فإذا أصبحتَ أو أمسيتَ فسبِّحِ الله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]، وإذا نظرت إلى السماء وما فيها من بديع صنع الله؛ فقل: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، وإذا دخلت المسجد، فكُنْ من الرجال المسبِّحين ليلَ نهارَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36، 37]، وإذا ركعتَ أو سجدتَ، فسبح ربك العظيم الأعلى، وقبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وأدبار السجود: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39، 40]، وسبِّح بحمد ربك آناء الليل وأطراف النهار: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]، وإذا ما غابت النجوم، قُلْ: سبحان الله؛ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48، 49]، وإذا ركِبتَ وسيلة مواصلات، فسبِّح ربك: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13، 14]، وإذا هبطتَ واديًا أو وسيلة هبوط إلى أسفل، فقُل: سبحان الله؛ عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: ((كنا إذا صعِدنا كبَّرنا، وإذا نزلنا سبَّحنا))؛ (البخاري 4/57).
واعلم أن التسبيح نجاة من كل كرب مهما عظُم؛ فقد أنجى الله تعالى يونس من ظلمات البحر، والليل، وبطن الحوت؛ لأنه كان من المسبحين: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143، 144]، واعلم أيضًا أن بقولك: سبحان الله، تُغرَس لك نخلة في الجنة؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غُرِست له نخلة في الجنة»؛ (الترمذي 5/511).
فإذا أردت أن تثقِّل ميزانك، فأكْثِرْ من قول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده»؛ (البخاري 8/86، ومسلم 4/2072)، وإذا أردت أن يكون لك خيرٌ من الدنيا وما فيها، فَقُلْ كما كان يقول صلى الله عليه وسلم: «لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس»؛ (4/2072)، وحسب التسبيح جمالًا أن يكون دعاء أهل الجنة: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]، فسبحان الله الذي لا حدود لقدرته، ولا نهاية لكماله وجماله وجلاله! سبحان الله عددَ خَلْقِهِ، وزِنَةَ عرشِهِ، ورضا نفسه، ومِدادَ كلماته! {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].
___________________________________________________________
الكاتب: نجاح عبدالقادر سرور
- التصنيف: