هَمَسات .. في كلمات ... (32)

منذ 5 ساعات

(هَمَسات .. في كلمات) في باقتها الـ (32) بفضل الله ومنته وتوفيقه..........................................ز

 

 

رأيت رجل كبير في السن، له أولاد، ولأولاده أولاد، أي أنه أصبح جَدًّا، قد رقَّ عظمه، وانحنى ظهره، وغزى الشيب شعر رأسه، كان يصطحب أحد أحفاده معه إلى المسجد ليشهد الجماعة مع المصلين، وهذا الرجل لكبر سِنِّه لا يستطيع أن يجلس في التشهد إلا متربِّعًا، العجيب أن المسجد مليء بالمصلين الذي لا يجلسون متربعين أثناء الشهد لكنَّ الولد الصغير تجاهل كل هؤلاء العشرات من الكبار والشباب والصغار ليجلس في التشهد متربعًّا محاكيًا جدَّه ومخالفًا -بلا مبالاة- كافة الموجودين في المسجد، انتبه يا صغيري! جَدُّك مجرد واحد فقط وغيره في المسجد الكثير والكثير فيا سبحان الله! إنه اقتداء الأبناء لا سيما الصغار منهم بوالديهم وإخوانهم الكبار، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أشار بوضوح إلى هذا المعنى بقوله ( «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» )[1]فإذا كان الوالدين قدوة حسنة لأولادهم فقد اختصروا مسافات طويلة وجهود مضنية، من عناء التربية ووعثائها، فعند أولادنا  الأفعال أبلغ وأعمق تأثيرًا من الأقوال.

********

الناس مع الحق أزواجٌ ثلاثة، فمنهم من جهِله، ومنهم من عرَفه ولم يوفق لاتِّباعِه، وطائفة بأعلى المنازل عرفوا الحق واتبعوه، والصنف الأول أقرب إلى الحق من الصنف الثاني، أما أسوأ الطوائف فهم الذين عرفوا الحق ونبذوه إما لكبْرٍ أو إعراض أو شهوة أو غيرها، ولذا فالفئة الأولى بحاجة إلى إرشاد ودلالة وثاني الفئات قد يفيد معها التخويف والإنذار من عذاب الله وعقابه، والتخويف من عذاب الله يفيد أكثر مع صاحب الشهوة أكثر من صاحب الكِبْر والهوى والإعراض، وهذه التقسيمات مهمة ولأهميتها ذكرها الله في أعظم سور القرآن سورة الفاتحة، فالعارفين للحق والمتبعين له هم الذين أنعم الله عليهم، والذي جهلوا الحق هم الضالون، أما المغضوب عليهم فيعرفون الحق ويخالفونه والعياذ بالله.

********

الابتلاء سنة إلهية وما سلِم منه أحد حتى الأنبياء، فقد سئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ قال : الأنبياءُ ، ثم الصالحون ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ ، يُبتلى الرجلُ على حسبِ دِينِه ، فإن كان في دِينِه صلابةٌ ، زِيدَ في بلائِه ، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ ، خُفِّفَ عنه ولا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ حتى يمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ) وبعض أنواع الابتلاء لا يدرك المسلم حقيقتها إلا إذا وقع فيها، فليست النائحة الثَّكْلى كالنائحة المستأجرة، من ذلك مسألة الذهاب إلى السحرة والعرافين والكهان، وحكمهم معروف في شريعة ربنا عز وجل فـ ( «من أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ؛ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» ) و( «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» ) وحذرنا رسولنا من ذلك بقوله:( «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هنَّ ؟ قال: الشرك بالله، والسحر» ) والكثير - والحمد الله- يدرك خطورة إتيان هذه الفئات الضالة المفسدة، ويعرف المحذور الشرعي في الذهاب إليهم لكن المشكلة أن هناك من يسقط عند أول ابتلاء، فإذا مرض ابنه أو اختفت ابنته أصبح مستعد للتعلق بأي شيء  ولو كان الذهاب إلى السحرة والعرافين والكهان الذين بالأمس كان يحذر الناس منهم بلسانه، والمعصوم من عصمة من الانزلاق في مثل هذه المهالك، وبعض الناس يصبح عونًا للشيطان على أخيه بحيث يستحثه للذهاب للساحر الفلاني أو تلك العرافة لعله يجد عنده أو عندها حلّ، والله وبالله وتالله ما عند هؤلاء المجرمون إلا سراب يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فلا شك أن ضياع الابن أمر مهول لكن علينا أن نقف إلى جانب إخواننا لنثبتهم ونرشدهم للتعلق بالله القوي العزيز، وذلك لأن شياطين الأنس والجن يستغلون حاجة الناس وضعفهم لإيقاعهم في شباكهم وسرقة آخرتهم.

********

العبد في حاجة دائمة ماسة إلى خالقه سبحانه، واستشعار هذا المعنى يسمو بالنفس البشرية عن الكِبْر واحتقار الآخرين والتعالي عليهم، كما أنه يقطع تعلق النفْس بالمخلوقين، فلا قوة إلا بإذن القوي العزيز وإنما هم مجرد أسباب، وحاجة العبد لمولاه تشمل كل شيء في أمْنه وحفظه وصحته ورزقه وسعيه وفي تعلمه وعبادته وفي شأنه كله، وتظهر هذه المعاني جلية عند حالات الضعف كالمرض والخوف والفاقة وعند حلول المصائب والكوارث، كما أن التالي لكلام ربِّه بتأمل يمتلئ قلبه من الخضوع والخشوع لخالقه ومالكه والافتقار إليه، وأهم ذلك ما في كتاب الله من أسمائه الحسنى  وصفاته العلى التي تجعل العبد يعرف حقيقته نفسه وعظمة خالقه ونتيجة لذلك يلجأ إليه في كل أحواله، بالإضافة إلى أن الصلاة بخشوع تطهِّر النفس من أدران الكبر والإعراض عن الله ونسيان نعمه، ومرد ذلك كله إلى ذكر الله بذهن حاضر، وقلب خاشع، فتلاوة القرآن والصلاة ما هما إلا ذكر لله العزيز الرحيم.

********

مكانة العلم لا ينكرها عاقل، ولذا تبذل الدول الكثير الأموال والمجهودات وتضع الخطط المُحْكمة ليحصل رعاياها على تعلُّم أفضل، ونجاح أحسن في حياتهم الدراسية، لكن للأسف النظام التعليمي في المناهج الحكومية يجعل المركزية للدرجات لا العلْم، حيث يقاس النجاح بالدرجات التي بدورها تؤدي للحصول على الشهادات ومن ثَم الوظيفة والعمل، فالهدف غالبًا يكون المال الذي يأتي من الوظيفة المرتبطة بالشهادة، والشهادة بتحصيل الدرجات والنجاح في الامتحانات، وهذا خطأ فادح ومن نتائجه أن الطالب بعد الاختبار بمدة تطول أو تقصر يتبخَّر ما لديه من معارف خزنها في ذهنه من أجل الاختبار والحصول على الدرجات والدرجات فقط، ولو تأملنا قليلا في ديننا العظيم نجد أن العلم وسيلة لمرضاة الله، وطريق إلى الجنة، ونوع عظيم من أنواع الجهاد في سبيل الله وذلك لمن صلحت نيته، أما من كانت همته ونيته في تحصيله العلمي في الدنيا وللدنيا فقد فوت على نفسه خيرًا كثيرًا، بل قد خسِر خسرنًا مبينا، ولذا تعوّذ الرسول صلى الله عليه وسلم من علْم لا ينفع، فالمسلم يطلب العلم عبادة لله، وإذا فعل ذلك نجح ونجاحه يعني وصوله إلى الجنة، فمتى سنربي أولادنا على أن يكون شعارهم في الحياة { ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)}

 وصلى الله على المصطفى وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين والتابعين لهم بإحسان.

 

 

[1] البخاري ومسلم