أمة لن تموت
أيها الناس، هذه الأمة لن تموت، وسيبقى لها دينها ما بقِيَ الليل والنهار، ولا تزال طائفة منها على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
قال الله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 7، 8]، وقال جل جلاله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32، 33]، وروى الإمام البخاري في صحيحه، عن خباب بن الأرتِّ رضي الله عنه قال: شَكَونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظل الكعبة، فقلنا: ألَا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟، وهم بهذه الشكوى يخبرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحصل لهم من تعذيب وظلم من قِبَلِ قريش، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبَّرهم وذكَّرهم بما حل للمؤمنين في الأمم الغابرة، من ابتلاء وتعذيب وتضييق؛ حتى قال لهم: «والله لَيَتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموتَ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه».
أيها المسلمون، إن الناظر إلى حالنا نحن أهل الإسلام، وما يرى من ضعف وتفرق واختلاف، وما يشاهد من تمزُّق وشتات، وتخبُّط وجهل، وتبعية عمياء للأعداء، من يهود ونصارى، وسائر أهل الضلال والأهواء، عندها تتملَّكه الحَيرة، ويسيطر عليه الحزن، وربما لبِسه الهمُّ والغم والحزن الشديد، وربما قال في نفسه: لن تقوم لهذه الأمة قائمة، ولكن: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
أيها الناس، لا ننكر أن أُمَّتَنا تكالبت عليها أمم الضلال، من يهود ونصارى وسائر أهل الضلال والأهواء، وها نحن نرى ونسمع ما يحصل للمسلمين في بقاع كثيرة من الأرض من ظُلْمٍ وسفك للدماء، وقتل وتشريد، وتهجير وحصار خانق على الدين وعلى الغذاء، وعلى الدواء، وأعداء الإسلام ماضون في مشاريعهم الإجرامية في حق الشعوب المسلمة، وأعداء الإسلام وأهله يعملون جاهدين على طمس الهُوِيَّة الإيمانية، وتشويه الحقائق القرآنية، وتكذيب للسنة النبوية، وإلصاق التُّهم بحمَلة الدين من العلماء والدعاة والفضلاء، كل ذلك من أجل صدِّ الناس عن الحق وأهله، وتشويش الأجيال الحاضرة والقادمة، كي يخلو لهم الجو في احتلال بلاد الإسلام، ومحاربة الحق ودفعه، ونشر الباطل وتثبيته.
أيها الناس، هذه الأمة لن تموت، وسيبقى لها دينها ما بقِيَ الليل والنهار، ولا تزال طائفة منها على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
أيها المسلمون، الْمُتَتَبِّع للتاريخ والمتأمِّل لِما حصل للمسلمين عبر العصور، من هجمات التتار، وإهلاكهم للحرث والنسل، والقضاء على الخلافة العباسية، وقتل آخر خليفة من بني العباس، وتدمير عاصمة الخلافة العباسية بغداد، وقتل مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، ظن كثير من الناس أن هذه الأمة ماتت وقُضي عليها، وأصبحت في خبر كان، لكن الله تعالى حافظ دينه، وحافظ عباده الصالحين الصادقين، فباء التتار بالخسار والبوار، ودخل كثير منهم في هذا الدين، ولم تَمُت هذه الأمة، وهكذا توالت الضربات والطعنات على جسد هذه الأمة المباركة، التي وُعِدَت بالنصر والتأييد، واستمر أعداء الإسلام في مخططات الهلاك لهذه الأمة، وكلها باءت بالفشل؛ لأن الله تعالى جعل هذه الأمة خير أمة أُخرجت للناس، وجعل هذه الأمة شاهدة على سائر الأمم، وتحقَّق وعد الله تعالى بأن هذه الأمة باقية إلى يوم القيامة.
أيها المسلمون، ثم توالت المحن على هذه الأمة، وجاءت الحملات الصليبية النصرانية الحاقدة على الدين وأهله، سبع حملات صليبية على الأمة الإسلامية، وعمل الصليبيون في الأمة المسلمة ما تشيب له رؤوس الوِلْدان، وتتصدع له قلوب أهل الإيمان، من قتلٍ، وأَسْرٍ، ونهب، وانتهاك للحرمات، فهل ماتت هذه الأمة؟ لا، إنها أُمَّةٌ لن تموت، وما اختارها الله وجعلها آخر الأمم إلا لتبقى، حاملةً رسالةَ الحق والعدل.
أيها المسلمون، وها هو العالم الإسلامي في القرن الماضي شهِد زحفًا بشعًا وشنيعًا، وشهِد استعمارًا بغيضًا، همجيًّا بربريًّا على هذه الأمة المسلمة؛ الاستعمار الإسباني، والهولندي، والبريطاني، والفَرنسي، والإيطالي، واحتلوا معظم بلاد الإسلام، وأكثروا في الأرض الفساد، وجلبوا معهم قاذوراتهم، من الفكر وفساد الأخلاق، والتفسخ، وجثموا على كثير من بلاد الإسلام عشرات السنين، ثم ماذا؟ خرجوا يجرون أذيال الخيبة والخسران، فهل ماتت هذه الأمة؟ لا، هذه الأمة لن تموت.
أيها المسلمون، وفي العصر الحاضر، عادت الكَرَّة من جديد لحرب الإسلام وأهله، فها هم اليهود على أرض الإسراء والمعراج يعيثون في الأرض الفساد، ويدنِّسون مقدسات أهل الإسلام، وهم قتلة الأطفال والنساء، وهم من يُمْعِنون في إبادة ذلك الشعب المظلوم المكلوم، فهل تحقق لليهود ما يريدونه؟ وهل قضَوا على الإسلام وأهله في أرض الشام؛ الأرض المباركة؟ وهل ماتت أمة الإسلام هناك؟ لا، لم ولن تموت، فخرجت أجيال وأطفال يحملون بأياديهم الطاهرة الأحجارَ، فقذف الله في قلوب الأعداء الرعبَ والخوف والهلع، وها هم أهل فلسطين وغزة يُثخِنون في اليهود الجراحَ، ويُذِيقونهم ألوانًا من العذاب، ولله الحمد والمنة، فهذه الأمة لن تموت.
أيها الناس، وها هي أمريكا دولة الكفر والشر دخلت بجيوشها الجرارة أفغانستان، وخرجت منها حقيرة وذليلة تجر أذيال الخزي والعار والهزيمة، ودخلت أرض العراق، وخرجت صاغرة حقيرة، فهذه الأمة لن تموت.
أيها المسلمون، وها هو العالم اليوم تجمَّع في حلف واحد، بسلاحه، وعسكره، وإعلامه، وماله، وعملائه، حربًا على الدين وأهله، وطمسًا لهُوِيَّةِ المسلمين، وحربًا على الدين الحق؛ كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل ماتت هذه الأمة؟ لا لم تَمُت هذه الأمة.
أيها الناس، كل راية رُفِعت ضد الإسلام سوف يسقطها الله بعزِّ عزيزٍ، أو بذُلِّ ذليل، إلا راية الإسلام الحق، فقد رُفعت لتبقى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
ففي مكة المكرمة بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته بمفرده، ثم أسلم معه في بداية الدعوة زوجته المباركة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، ثم صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم ابن عمه وصهره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وكان يجتمع سرًّا بالمؤمنين في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وتآمرت عليه قريش، وأرادوا قتله لِوَأدِ دعوته في مهدها، ثم تجمع عليه أهل الطائف، ثم أجمعت قريش على اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجَّاه الله، وخرج مع صاحبه أبي بكر الصديق مهاجرًا سرًّا وخفية: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40].
وخرجت قريش قضُّها بقَضِيضِها إلى بدر للقضاء على الثُّلَّة المؤمنة، وخابت وخسرت، وجاءت غزوة أُحد، واستُشهد من الصحابة سبعين، على رأسهم سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، فهل انتهى الإسلام؟ وهل ماتت هذه الأمة؟ لا، لم تمت هذه الأمة، إن الله تعالى أوجدها لتبقى، ثم حضر المشركون بعشرة آلاف لمحاصرة المدينة واستِئصال أهلها، فرجعوا خائبين، فهل ماتت هذه الأمة؟ لا لم تمت هذه الأمة.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة فاتحًا منتصرًا، وهو يقول لمن قاتلوه وأخرجوه من بلده، وعذَّبوا أصحابه، وحاصروه، وأمعنوا في الأذى والسخرية والتكذيب، وقال لهم: «اذهبوا فأنتم الطُّلقاء».
أيها المسلمون، هذه الأمة وجِدت لتُحيي البشرية، وتُخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
هذه الأمة باقيةٌ إلى يوم القيامة، هذه الأمة لن تموت، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
أيها المسلمون، علينا أن نفهم حقيقة المعركة الدائرة اليوم، إنها ليست حربًا بين المسلمين والكافرين، وإن كان ظاهرها كذلك، إنما هي في حقيقتها حرب بين الله تعالى، وبين مَن مَرَقَ عن طريق الحق والهدى، وما جاء به الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه، إنها حرب بين الله تعالى، وبين من كفر بالله، وحارب دين الله، وكذب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 279]، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 15 - 17]، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 50، 51]، هذه هي نتيجة المعركة، ونهايتها، إن الله جل جلاله تولَّى بنفسه الكريمة الحربَ على أعداء دينه وأعداء رسوله.
أيها الناس، وهكذا أعداء الإسلام من يهود ونصارى وسائر أهل الضلال والأهواء، لم يكتفوا بالحرب العسكرية المباشرة، واحتلال البلدان، بل تضافرت جهود أعداء الدين، واتخذوا كل الوسائل والأساليب لحرب الإسلام وأهله، ففي هذا العصر كثَّف أعداء الإسلام مِن استخدام مصطلح الحرب الناعمة، ويعنون بها حرب الأفكار، وزعزعة المسلَّمات، ونشر الشبهات والشهوات، ونشر الإلحاد عبر القنوات ووسائل التواصل الاجتماعي، وعبر المنتديات، وعبر كل الوسائل الممكنة، فيعملون على نشر الفساد العقائدي، والفساد الخُلقي، ويعملون على الحرب على المسلَّمات، وحاربوا الوعي الإسلامي، وضيَّقوا على العلماء والدعاة، وضيقوا على تعليم العلم الشرعي، وعلى تحفيظ الكتاب العزيز كلام رب العالمين، وهكذا عملوا في كل ميدان لمحاربة الخير والفضيلة، وفي المقابل عملوا على نشر الشر والرذيلة، فهل تحقق لهم ما يرمون إليه؟ لا، وهل ماتت أمة الإسلام؟ لا وألف لا.
فالدين باقٍ، والحق قائم، والفضيلة ظاهرة، وما جاء به رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم باقٍ إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها، فهذه الأمة لن تموت: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
ألَا وصلوا وسلموا...
_____________________________________________
الكاتب: راجح محمد حسين الحنق
- التصنيف: