الرقية
فاتحة الكتاب هي رقيةٌ عظيمة، نعم يا عباد الله! رقيةٌ لأنها خصيصة الله لهٰذِه الأُمَّة في كلامه القرآن، خصَّ الله بها أمة الإسلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}
جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أن النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثهم فأقبلوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فأقروهم فَلَمْ يَقْرُوهُمْ" أي: لم يطعموهم حقهم من القرى والضيافة، "فلُدِغَ سَيِّدُ هٰذَا الحي، فجاءت جارية له فقالت: أَيُّهَا القوم هل فيكم من راقٍ؟
فَقَالَ أبو سعيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنا، فذهب فقرأ عليه فاتحة الكتاب"، وفي رواية: "أنه قرأها عليه ثلاث مرات"، وفي رواية ثالثة: "أنه قرأها عليه سبع مرات، فنشط هٰذَا الشيخ من لدغته كأنما نشط من عقال"، وقد فاصلوهم قبل ذلك عَلَىٰ فرق من غنم، فرجع أبو سعيد ومعه الفرق من الغنم، فَقَالَ له أصحابه: والله لا نطعم منها شيئًا حَتَّىٰ نرجع إِلَىٰ النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلمَّا رجعوا جميعًا إِلَىٰ رسول الله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبروه الخبر، قَالَ لأبي سعيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ» ؟ اقسموه وَاضْرِبُوا لِي معكم بِسَهْمٍ»[1].
هٰذَا الحديث العظيم دلَّ عَلَىٰ فوائد كثيرة:
منها: أن فاتحة الكتاب هي رقيةٌ عظيمة، نعم يا عباد الله! رقيةٌ لأنها خصيصة الله لهٰذِه الأُمَّة في كلامه القرآن، خصَّ الله بها أمة الإسلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، فهي أفضل سور القرآن، وهي أعظمها.
وفيها قاعدة: أن كلام الله جَلَّ وَعَلَا يتفاضل بعضه عَلَىٰ بعض.
وفيها أَيْضًا: أنَّ هٰذَا القَسْم الَّذِي قسموه بينهم إِنَّمَا كان لحقهم من القرى والضيافة، وليس معناه أنه يأخذ أجرةً عَلَىٰ الرقية، وَإِنَّمَا الأجرة تؤخذ عَلَىٰ تعليم القرآن والانقطاع له، كما قاله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أحقّ ما أخذتم عليه الأجر: كتاب الله» [2].
وفي الحديث من الفوائد أَيْضًا: أن الرقية تنفع المؤمن، كما تنفع الكافر، بشرط أن يقتنع بها، فإنَّ شيخ هٰذَا الحي كان كافرًا ولديغًا، فنفعه الله جَلَّ وَعَلَا بهذه الرقية بالفاتحة، وقد كان النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعوّذ نفسه وبنيه وأهله بأنواع التعويذات، فلمَّا نزلت: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]؛ أخذ بهما صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترك ما سواهما.
ومن الرقية في القرآن يا عباد الله، أعظم آيات القرآن، وهي آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...} [البقرة: 255] إِلَىٰ آخرها؛ فإنها رقية عظيمة.
ومن الرقية في القرآن أَيْضًا: آخر آيتين من سورة البقرة، الَّتِي من قرأهما في ليلة، وَاَللَّيْل يبدأ من غروب الشَّمْس «من قرأهما في ليلةٍ؛ كفتاه» كما جاء بذلك الحديث الصحيح[3] عن النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والقرآن يا عباد الله كله شفاءٌ وذِكرٌ وهدى وموعظة للمؤمنين، ومن سوره الجليلة: سورة البقرة، الَّتِي قَالَ فيها نبيكم صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أخذها بركة، وإنَّ تركها حسرة، وإنها لا تستطيعها البطلة»[4]، وهي أعظم سورةٍ نفعت بِإِذْنِ اللهِ في حل السحر وفي دفعه، سواء كان سحرًا تخييليًّا، أو كان سحر عطفٍ، أو كان سحر صرف؛ فإنها والله من أعظم ما يحل هٰذَا السحر ويذهبه ويبعده عن النَّاس وعن المؤمنين خاصة.
فالزموا عباد الله ذِكر الله، والزموا كلام الله، واحذروا أن تقع في أنواع التعويذات الَّتِي يفعلها النَّاس، ويحققونها بأنها مجربة، وهي من غير القرآن، أو من غير السُّنَّة؛ فإنَّ هٰذَا مدعاةٌ إِلَىٰ الرقى الشيطانية، وَإِلَىٰ الحبائل الإبليسية.
عباد الله! فاتقوا الله جَلَّ وَعَلَا، والزموا هديه وطريق الإسلام، واحذروا البدع والمحدثات، فإنها والله تزيدكم من غضب الله قربًا، ومن رحمة الله بُعدًا، وهي سببٌ لولوج النَّار، فهي بريد الكفر عياذًا بالله!
واعلموا عباد الله! أنه يقع أنواع الرقاة في أنواعٍ كثيرةٍ من المخالفات:
أعظمها يا عباد الله: استعانتهم بالجن والشياطين، ولو زعموا أن هؤلاء المُستعان بهم من هؤلاء الجن أنهم من المسلمين، أو أنهم من الخدام المسلمين؛ فإنهم لا يُصدَّقون في هٰذَا أَلْبَتَّةَ، فَهٰذَا نَبِيّنَا صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جرى ما جرى عليه من الأمور العظيمة الفظيعة، ولم يستعِن إِلَّا بالله جَلَّ وَعَلَا، ولم يثبت عنه ولا عن أحدٍ من أصحابه أنه تعاون مع الجن الَّتِي يُزعم أنهم مسلمون.
ومن المخالفات الَّتِي يقعون فيها: جعلهم الرقية الشَّرْعِيَّة استثمارًا وتجارةً يدرون من خلالها الأموال، ويلعبون فيها عَلَىٰ هؤلاء الضعفاء، الضعفاء في عقولهم، والضعفاء في حاجتهم، وربما والضعفاء في إيمانهم وقلوبهم، فيستدرون عواطفهم، ويسلبون أموالهم بدعوى هٰذِه الرقية الشَّرْعِيَّة، أو ببيع الماء أو العسل أو الدهون بزعم أنَّ فيها رقية مركزة، وكل هٰذَا من الدجل واللعب عَلَىٰ النَّاس، ومن رأى من هؤلاء شيئًا؛ فليبلِّغ فيهم الجهات المسؤولة الَّتِي شكلها ولي الأمر من لجان من الداخلية في إمارات المناطق ورئاسة الهيئات وَالشَّرْط؛ لمكافحة هؤلاء الدَّجَّالين الَّذِينَ يلعبون عَلَىٰ النَّاس ويسلبون أموالهم.
ثُمَّ اعلموا عباد الله! أن النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأصحابه وللناس: «اعرضوا عليَّ رقاكم»[5]، فلمَّا عرضوا عليه رقاهم، أقرَّ ما لم يكن فيها شركًا، أو لم يكن فيها وسيلة وذريعة إِلَىٰ الشِّرْك؛ لأنَّ الإنسان في حال مرضه في مرضه بنفسه، أو مرض حبيبه يضعف نفسه بذلك كَثِيْرًا، وربما تعلَّق بأي متعلِّق، أما المؤمنون الكُمَّل؛ فإنَّ تعلقهم بالله جَلَّ وَعَلَا، كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عقبة بن عامر الجهني رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «من تعلَّق ودعةً؛ فلا ودع الله له، ومن تعلَّق تميمةً؛ فلا أتمَّ الله له، ومن تعلَّق شيئًا؛ وُكل إليه»[6].
ثُمَّ اعلموا عباد الله! أن أصدق الحديث كلام الله، وَخِيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَىٰ الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.
اللَّهُمَّ عِزًّا تعزُّ به الإسلام وأهله، وذلًّا تذلُّ به الشِّرْك والكفر وأهله يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك وعنايتك، اللَّهُمَّ من ضارنا أو شاقنا أو مكر بنا أو بالمسلمين، اللَّهُمَّ فامكر به يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ آمنَّا والمسلمين في أوطاننا، اللَّهُمَّ أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللَّهُمَّ اجعل ولاياتنا والمسلمين فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللَّهُمَّ ادفع عنَّا الرِّبَا والزِّنا والزَّلازل والمِحَن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هٰذَا خاصَّة، وعن بلدان المسلمين عامَّةً يا ذا الجلال والإكرام.
اللَّهُمَّ، اللَّهُمَّ أنت الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا مجللًا، اللَّهُمَّ سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ ولا نصبٍ، اللَّهُمَّ إنك ترى ما بنا من الحاجة واللأواء، ولا غنى بنا عن فضلك، اللَّهُمَّ فأجر علينا من أنهار السماء ومن خيرات الأرض ما تدفع به حاجاتنا وحاجة عبادك يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ ارحم هٰذِه البهائم الرتع، وهؤلاء الشيوخ الركع، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللَّهُمَّ أغث بلادنا بالأمن والأمطار والخيرات، وأغث قلوبنا بمخافتك وتعظيمك وتوحيدك يا ذا الجلال والإكرام، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.
[1] أخرجه البخاري (5007)، ومسلم (2201) بنحوه.
[2] أخرجه البخاري (5737).
[3] أخرجه البخاري (4008)، ومسلم (807) بنحوه.
[4] أخرجه البخاري (804).
[5] أخرجه مسلم (2200).
[6] هذا الحديث عبارة عن حديثين: فالأول: أخرجه أحمد (17404) بلفظ: (من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له)، والثاني: أخرجه أحمد (18781)، والترمذي (2072)، والنسائي (4079) بلفظ: (من تعلق شيئا وكل إليه).
علي بن عبد العزيز الشبل
أستاذ العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
- التصنيف: