أعظم سورة في القرآن

منذ 16 ساعة

إنَّ مما يُعابُ على المسلم أنْ يظَلَّ سنينَ طويلةً يُردِّدُ هذه السورة عشراتِ المرات في اليوم والليلة، ومع ذلك لا يفقهُ معناها، ولا يعرفُ تفسيرَها.

فأوصيكم ونفسي أولًا بتقوى الله في السر والعلن، وخشيَتِه في الغيب والشهادة، فإن تقوى الله سبحانه وتعالى خيرُ ما أظهرتم، وأكرم ما أسررتم، وأعظم ما ادَّخرتم.

 

عباد الله، يقول الله ربُّ العالمين في تنزيل القرآن وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 41 - 44].

 

ويقول جل وعلا: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].

 

عباد الله، في القرآن العظيم سورةٌ عظيمةٌ جليلةٌ، ما أنزل الله في التوراة والإنجيل والزبور مثلَهـا، بل اختصَّ جلَّ وعلا هذه الأمّةِ المرحومة بهذه السورةِ المباركة التي يحفظها الصغير قبل الكبير، كيف لا وهي سورة نقرؤها كلَّ يومٍ وليلة سبع عشرةَ مرة في الفريضة، هي سورة الفاتحة يا عباد الله، أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأُبَيِّ بن كعب: كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته».

 

في صحيح البخاري من حديثِ أبي سعيد رافع بن المعلى رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآن قَبْلَ أنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِد»؟ فَأخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أرَدْنَا أنْ نَخْرُجَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّكَ قُلْتَ: لأُعَلِّمَنَّكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ؟ قالَ: «الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ»، هي السبع المثاني وأمُّ الكتاب وأمُّ القرآن، وهي الشافية الناجية، والواقية، والكافية، والوافية، هي السبع المثاني الذي قال الله فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، فهذه السورة فيها الجمال والجلال والعطاء والسؤال، وفيها المهتدي والضال.

 

إنها السورة التي نقرؤها في صلاتنا كلها فرضها ونفلها فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.

 

تنتظم مقاصدها في تعظيم الربِّ سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى رب العالمين، وهو سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم، وهو سبحانه وتعالى مالك يوم الدين، وهو سبحانه وتعالى ربُّنا ومالكنا والمتصرِّف فينا جل وعلا.

 

عباد الله، إنَّ مما يُعابُ على المسلم أنْ يظَلَّ سنينَ طويلةً يُردِّدُ هذه السورة عشراتِ المرات في اليوم والليلة، ومع ذلك لا يفقهُ معناها، ولا يعرفُ تفسيرَها.

 

ألا فاعلم وتعلَّم - يا عبد الله - أنَّ قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] الحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله، و {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه بيانٌ أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الرازق الخالق المدبِّر المحيي المميت.

 

{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]: اسمان دالَّان على أنه -تعالى- ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي.

 

{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]: أي هو مالكُ يومِ الدين والجزاء والحساب؛ وهو يوم القيامة، يملكُه ربُّنا سبحانه وتعالى، ويتصرَّف فيه وبه كيفَ يشاء؛ لأنَّ كلَّ الأملاك التي تُدَّعى في الدنيا تزولُ يوم القيامةِ ولا يبقى منها شيء، كما قالَ جل جلاله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] فيظهَرُ تمامُ مُلكه وكمالهِ سبحانه وتعالى.

 

عباد الله، وفي هذه السورة العظيمة آيةٌ هي سببُ بعثةِ الرسل ونزول الكتب، وبسببها قامت سوق الجنة والنار، ونُصبت الموازين، ووُضع الصراط، كلمةٌ تحملُ معنى ألوهيَّةِ الله جلَّ شأنه، ألا وهي قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ومقصودها: لا نعبُد إلَّا أنت، متذلِّلين لكَ وحْدَك لا شريكَ لك، ولا نستعين إلَّا بك وحْدَك لا شريكَ لك.

 

فالمعبود الحق هو الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، بارك الله لي ولكم.

 

عباد الله، إنَّ طلبَ الهدايةِ إلى الصراط المستقيم هو أخصُّ الدعاء وأسنى المطالبِ، قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161]، وهو جملةُ ما يوصلُ إلى السعادة في الدنيا والآخرة، منْ عقائدَ وأحكامٍ وآدابٍ، وهو الهادي إلى العلمِ النافعِ والعملِ الصالحِ.

 

عباد الله، إنَّ العلمَ بشريعة الله عز وجل يستوجبُ العمل، فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى ذمَّ الجهل، قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]، وقال سبحانه: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7]، وقال جل وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألَا سألوا إذْ لم يَعلَموا؛ فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ»، وهذا شأن النصارى الذين عملوا بجهالة، وأما مَنْ تركَ العمل وهو يعلمُ حكمَ اللهِ فيه فقد تشبَّهَ باليهود، قال سفيان بن عيينة: مَنْ فسدَ مِنْ عُلـمائنا ففيهِ شَبَهٌ مِنَ اليهود، ومَنْ فسد مِنْ عُبَّادِنا ففيهِ شَبَهٌ مِنَ النصارى، ألا فاتقوا الله عباد الله، وتعلَّمُوا واعملوا، فاليوم عملٌ ولا حساب، والغد حسابٌ ولا عمل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].

 

اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا.

 

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

_______________________________________________________
الكاتب: أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري