القراءات الحداثوية للنص المقدس ج1

منذ 2024-10-13

الناظر في مناظرات الفلسفة القديمة في كثير من المواضيع يدرك أن القوم لم يكونوا يعرفون معرفة صريحة وحياً منزلاً ثابتاً قطعاً،

د. محمد عبدالحميد القطاونة

إن الحديث عن منهجية قراءة الوحي لا تكتمل صورته إلا بفهم واستيعاب البناء العقلي الغربي القديم وتصوره للوحي، وذلك لما مارسه الفكر الغربي ومن خلال افكاره وفلسفاته، من تشويه حقيقي لمنهجية التعامل لفهم الوحي، وليس ذلك فحسب، بل لسيطرة المنهجية الغربية على الحقل التداولي المعرفي عند بعض المتأثرين في العالم الإسلامي بل في العالم بأسره، لذلك لا بد من تأصيل يوضح الصورة المشوشة التي أفرزتها الفلسفة الغربية القديمة منها والحديثة في قراءتها للوحي.

الوحي وقراءته عند الفلاسفة الأقدمين:

كانت اليونان في نحو القرن السادس ق.م تعج بديانات وثنية، ولا يلاحظ للوهلة الأولى أثر واضح للوحي في تصورهم عن الدين، ولكن بعضاً منهم مثل جلبرت موراي يرى أن أصل المعتقدات الدينية التي كانت عند اليونانين هو رسالة سماوية مرت عليها أزمان ومراحل من التبديل، حتى غدت بتلك الصورة التي انتهت إليها، أو بدأت أسطورية ثم خالطت شيئاً من العقائد السماوية كاليهودية أولاً، والمسيحية فيما بعد([1]).

وعلى كل فإنهم لم يعرفوا معرفة جلية وحياً منزلاً من عند الله لم يبحثوا فيه قبولاً ورداً، ومجالات وقيماً، ولذلك فإن السابقين على سقراط حاولوا أن يفسروا الوجود تفسيرات فلسفية خاصة بهم. وفلسفاتهم وإن كانت تحمل أحياناً شيئاً من اثر العقائد الوثنية السائدة، لكن سعيهم وراء إجابات أفضل لمسالة الوجود، وسخريتهم من تلك العقائد الدينية أو تعديلهم لبعضها أحياناً، دون البحث عن مصدرها يدل على اعتبارهم إياها إنتاجاً بشرياً، بل هو ما اتخذه بعضهم موقفاً صريحاً اذ عدَّ الدين في حقيقة مجموعة أساطير ابتدعه خيال الإنسان الخصب، فينبغي أن يُستبدل به أفكار من نبع العقل في تفسير الكون([2])، وسعياً وراء هذه الأفكار العقلية البديلة رأى طالس (624- 546 ق.م) أن المبدأ الأول للأشياء هو الماء. فيما يرى انكسيمنس أن المبدأ الأول هو الهواء. أما انكسمندر (545 ق.م) فرأى أن أصل الكائنات مادة لا شكل لها ولا نهاية ولا حدود. وكأنهم كانوا يبحثون عن الإله الذي ليس كمثله شيء من حيث لا يشعرون. ثم فيثاغورس (507 ق.م) الذي حاول أن يجد أصلاً ذا صفة تشمل كل شيء في العالم مادياً أو معنوياً فاختار العدد، ولما كانت الأعداد عبارة عن تكرار الواحد، فالواحد إذا هو أصل الكون وعلته.

ونبذ اكزنوفنس أساطير اليونان المجسدة للإله وسخر من آلهتهم التي تأكل وتشرب وتلتذ وتموت، فقال: (إن الناس هم الذين اخترعوا الآلهة وتصوروها بمثل هيئاتهم، ولو كانت الثيران أو الأسود أو الجياد تعرف التصوير لرسمت لنا الإله على أشكالها، كلا ثم كلا، إنه لا يوجد غير إله واحد، هو ارفع الموجودات، ليس مركباً على هيئتها، ولا يفكر مثل تفكيرنا، بل كله بصر وكله سمع وكله فكر). وأما إدراك كنهه فهو عنده أمر مستحيل على العقول. إلى أن جاء العقليون وعلى رأسهم سقراط (399 ق.م) الذي بنى فلسفة المعرفة ببيان قيمة العقل([3]) في الوصول إلى الإدراكات الكلية المجردة عن طريق النظر في المحسوسات، وبهذه الإدراكات العقلية الكلية نستطيع أن نضع مقاييس صحيحة ثابتة للحقائق، وأن نعرف ما هي الفضيلة. فأكد بذلك قيمة العقل في المعرفة، وأنه يدرك الحقائق المطلقة. ثم وسم الدين بأنه في حقيقته مجموعة أساطير ابتدعها خيال الإنسان الخصب، فينبغي أن يُستبدل به أفكار من نبع العقل في تفسير الكون([4])، ولا شك في أنه يقصد الديانة اليونانية الوثنية التي كانت سائدة في بيئته، وهو الموقف الذي أعدم من أجله([5]).

ثم أقبل أفلاطون (347 ق.م) على فلسفة المعرفة التي وضعها سقراط فأضاف إليها أن الإدراكات العقلية الكلية تستند في أحكامها على نماذج مسبقة لها وجود حقيقي خارج عقولنا، وذلك هو عالم المثل، ثم قسم الدين إلى أسطوري وسياسي وفلسفي، وهذا الأخير هو الذي يصور الحقيقة كما يقررها العقل([6]). الذي من اوجب أعماله معرفة الله وأنه خير محض، فيعرف به نفسه ويعرف الحق حتى يكون مقياساً أو مثالاً للأشياء جميعاً([7]). فإن العالم آية في الجمال والنظام ولا يمكن أبداً أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقية، بل هو صنع عاقل، كامل، توخى الخير، ورتب كل شيء عن قصد وحكمة.

ثم كان موقف أرسطو أن رتب طريق الوصول على المعرفة عن طريق ثلاث مراحل هي الإدراك الحسي ثم التجربة ثم التأمل النظري للوصول على الاستنتاج والحكم. ورأى أن الأشياء تنشأ عن علل أربع: هي المادية والصورية والفاعلة والغائية، ولما كانت الغائية مقصود الفاعل والصورية هي ثمرة فعله بقي أن الأمر منحصر في البحث عن أصل العلية المادية فحسب، ومن ثم هناك مادة قديمة ليس لها أي صورة، ومن ثم فهي ليست إلا عبارة عن قابلية التلقي، فكأنها العدم ذاته وقد سماها بالهيولى، ولذلك فالعالم قديم بمادته وصورته وحركته ومحركه، وهذا المحرك الذي أعطى العالم صورته وحركته هو الله([8]). أما الرواقية فكانت قد ارتابت في قدرة العقل على الوصول إلى معرفة الأحكام الكلية لأنها مبنية على ما تلقت خلال الحياة من إحساسات جزئية، ولذلك فالحقيقة إنما تعرف عن طريق الشعور الذي يغلب على النفس بقوة حتى لا يكون لإنكاره سبيل. وفسروا أصل الوجود بالمادة وقوة تمدها بالحركة وغيرها من أشكالها وهذه القوة هي النار، والله هو النار الأولى صدر عنها الهواء وعنه الماء وعنه التراب، ثم سيعود كل شيء إلى النار، وهكذا مراراً، والله هو نفس العالم، والعالم هو جسمه([9]).

وأما الابيقورية فإنهم في نظرية المعرفة يتفقون مع أرسطو بان مصدر المعرفة هو ملاحظة مجموع الإدراكات الحسية بواسطة العقل للوصول بها إلى الأحكام الكلية، ولكننا نتعرض للخطأ عندما نحاول تجاوز ما جاءت به الحواس للوصول إلى رأي في الأسباب الحقيقية التي تختبئ وراء الظواهر. ثم يأخذ ابيقور بقول ديموقريطس إن أصل الوجود هو الذرات لكنه يزعم أنها تتحرك ذاتياً بتأثير ثقلها على الأسفل، غير أنها تنحرف قليلاً في أثناء سقوطها فتلتقي وتؤلف الأجسام المركبة وقد نشأت الحياة عن هذا التركيب اتفاقاً بطريق المصادفة([10]).

 

وبالنتيجة: فان الناظر في مناظرات الفلسفة القديمة في كثير من المواضيع يدرك أن القوم لم يكونوا يعرفون معرفة صريحة وحياً منزلاً ثابتاً قطعاً، ولذلك لم يحسموا أمرهم بقبوله والاستفادة منه.

 فإن الديانة الوثنية اليونانية ديانة صنعها البشر، وملامح المقولات المبثوثة داخل فلسفاتهم مما يبدو مستفاداً من الرسالات السماوية هي مقولات وصلتهم محرفة بأيد بشرية –وأما الوحي فيها فكان كالصوت الخافت الذي لا يكاد يسمع-، فضمنوها في داخل فلسفاتهم، التي كانت بدورها هي الأخرى فلسفات بشرية، وهذا على لسان أشهر السفسطائيين بروتاغوراس، وذلك بقوله: (إن الإنسان مقياس كل شيء). وهذا كما هو واضح ليس تحكيماً للعقل البشري في الحكم على الحقائق، فإنه على يد أشهر السفسطائيين، وإنما هو تحكيم للشعور أو الرأي أو المزاج المحض بشكل مطلق عن القول بالإذعان لثبوت شيء من الحقائق أصلاً. بعد هذه الإطلالة على علاقة الوحي بالفلسفة القديمة نجد بما لا يدع مجالاً للشك تلك القطيعة بين العقل الفلسفي الغربي والوحي الإلهي، وهذه العلاقة التي ستضفي بضلالها على المناهج الغربية المعاصرة في علاقتها مع الوحي قراءة وفهماً.

 

 

([1])- أنظر: متى، كريم. الفلسفة اليونانية ، بغداد: مطبعة الإرشاد، د.ت.، 1393ھ، ص 103 . أنظر كذلك : انيهاردت. الأله الأبطال في اليونان القديمة، ترجمة، هاشم حجاوي دمشق :الأهالي للنشر، الطبعة الأولى.

([2]) -انظر: النشار، مصطفى تاريخ الفلسفة اليونانية، القاهرة: دار قباء، 1998م، د.ت.، ص 36 .كذلك الفلسفة اليونانية لكريم متى ص76.

([3]) - نديم الجسر، قصة الإيمان للشيخ ، ص28- 37.

([4]) - كريم متى، الفلسفة اليونانية ص76.

([5]) - أحمد فؤاد الأهواني، فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط ، ص20.

([6]) - أحمد فؤاد الأهواني، افلاطون ، ص126.

([7]) -العلم والدين في الفلسفة المعاصرة، أميل باترو، ترجمة: أحمد فؤاد الاهواني، الهيئة المصرية، 1973م. ، ص10. فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، ص22. وانظر للتوسع في هذا المطلب: مصادر المعرفة للزنيدي، ص103- 1-7.

([8])-الشيخ نديم الجسر، قصة الإيمان، ،دار المثقف المسلم، 1362ه. ص37- 44.

([9]) تاريخ الفلسفة اليونانية، ص253. مصادر المعرفة للزنيدي، ص109.

([10]) قصة الإيمان للجسر، ص46- 48.كذلك انظر: حنا، الناضوري ّ، تاريخ الفلسفة العربية، بيروت: دار المعارف، الجزء الأول، ص 19-37.