مفهوم الشهادة في سبيل الله وواجب النصح والنصرة
إطلاق اسم الشهادة على أهل الضلال والفجور لا يصح؛ إذ إن ذلك اللفظ له مدلول شرعي مقتضٍ للثناء الديني على الموصوف به، والحكم الظاهري له برتبة عالية من القبول الإلهي والنعيم الأخروي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، فــ .. :
• إطلاق اسم الشهادة على أهل الضلال والفجور لا يصح؛ إذ إن ذلك اللفظ له مدلول شرعي مقتضٍ للثناء الديني على الموصوف به، والحكم الظاهري له برتبة عالية من القبول الإلهي والنعيم الأخروي من غير سابقة عذاب، وهذا مستلزمٌ للتهوين من ضلال صاحب هذه الحال من جهة، ولإيغار صدور المؤمنين الذين خاض في دمائهم وأعراضهم وأموالهم من جهةٍ أخرى، وقد صحّ أنه قيل في رجل: هنيئًا له الشهادة، وكان قد غلّ شملة من الغنائم (أي أخذ قطعة قماش بغير وجه حق)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلا والذي نفس محمد بيده، إن الشَملة لتلتهب عليه نارًا»، ورُوي أنه قيل: فلانٌ شهيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلا، إني رأيته في النار في بردة غلّها، أو في عباءة غلّها»، فلم يؤخر النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذلك تجنبًا للاضطراب والفتنة، وذلك لكيلا تُدفع الفتنة بِشَرٍّ منها، والصحيح أن من قيل فيه ذلك لم يكن منافقًا، بل تثبت لمثله أحكام الشهادة، فلا يُغسَّل ولا يكفَّن، ويصلي عليه المؤمنون.
وأخرج مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم أبى الصلاة على رجل مات يوم حُنين لأنه غلّ خرزات ما تساوي درهمين، لكن قال لأصحابه: «صلوا على صاحبكم»، فأمر بالصلاة عليه ولم يأمر بغسله وتكفينه، وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إطلاق اسم الشهادة مع ثبوت أحكامها حتى لا يُستهان بالجُرم المفعول، وحتى لا يُظن أن الجهاد والموت في سبيل الله يغسلان هذه الخيانة للمسلمين، وهذه ليست قضية عين، ولا من التعبديات غير معقولة المعنى، ولا من الأحكام الغيبية أو الباطنية، بل هو منوط بوصف ظاهر غير مختص بالغلول كما هو مقتضى كلام الفقهاء جميع ذلك، فإن كان هذا في الغلول، فما بالك بالضلال والبهتان واستباحة الدماء والحُرُمات؟! إذ الخيانة في الدين والنفس والعِرض أعظم من الخيانة في المال!
• الأصل في الفطر المستقيمة أنها تَمُجّ كل باطل وتستقبحه وتنفر منه، وإنما يدخل الضلال على النفوس بتبدّل الفِطر من جهة وتزيين الشيطان للباطل من جهة أخرى، وكيد الشيطان ضعيف، فلا يقوى على النفس الإنسانية حال قوتها، بل حال ضعفها، ومن مواطن ضعف النفس ثوران المشاعر واشتدادها وتملّكها، أيّ مشاعر، الحزن أو الفرح أو الغضب أو الإحباط أو الخوف أو غيرها، خاصة إذا اجتمعت طائفة كبيرة من الناس على ذلك، فيؤججون مشاعر بعضهم بعضًا، ومع استغلال أهل النفاق والجهالة لنحو هذا بالنفخ فيه، ولذلك كانت هذا المواطن أحرى من غيرها بالنصيحة والتذكير والحكمة والموعظة الحسنة، والفتنة إذا أدبرت أدركها كل أحد، والشأن في استبصارها في أول مهدها!
• المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضه، ينصحه، ويلم شعثه، ويسد خلته، ويُصلح وراءه بعض ما قد يضطر إليه أو يتأول فيه، ويغسل بيده عن ثوبه الطاهر أي نكتة يراها، ليبقى أبيض مثل الصفا، خاصة إذا كان في أحوج الأحوال إلى ذلك، لكن في الناس من يُلبِس حِقدَه ونفاقه وخصوماته وأهوائه وجهالاته جُبّة النصيحة لله والمؤمنين والدفاع عن الحق، والمؤمن يعرفهم بسيماهم وفي لحن القول، وهؤلاء ملعونون أينما ثُقفوا، لأنهم جمعوا إلى أمراض نفوسهم تشويه التناصح بين المسلمين والريبة منه وإثقاله في النفوس أكثر مما هو ثقيل أصلًا!
• الأصل في أهل السنة أنهم أعرف الناس بالحق وأرحم الخلق بالخلق، وأنهم لا ينبذون الأخوة الإيمانية والموالاة الإسلامية لأجل ما يرون أنها زلة وإن عظمت، وقد صحّ أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه دفعه الخوف على أهله في مكة إلى مكاتبة المشركين بغزو النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وقد كان يرى أن ذلك يحمي أهله ولا يضر جيش المسلمين، وهذه فعلة عظيمة جدًا، وقد وصف بعض الصحابة رضي الله عنهم ذلك بأنه نفاق وكفر وخيانة لله ورسوله والمؤمنين، لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم أعْظَم صِدْقَه وأقر إيمانه ونهى الصحابة عن إيذائه بالقول، وقال لهم: «لا تقولوا له إلا خيرًا»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، على الرغم من أنه قد نزل حينئذ من القرآن ما يجرّم هذا الفعل ويشنّعه، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم التهوين من الأمر، وليس المقصود أن لمن شهد بدرًا الإتيان بما شاء من موالاة الكافرين، بل أراد النبي صلى الله عليه وسلم إرشاد أصحابه رضي الله عنه إلى الرأفة بإخوانهم الذين ثبتت أمارات صدقهم وبذلهم إذا عَرَضت لأحدهم بعض العوارض الإنسانية مع في نفسه من التأوُّل لفعله! ..
فأين هذا من بعض الإطلاقات هنا وهناك ممن يجاهد بنفسه وماله وأهله، وقد خذله الأقاصي والأداني، وتكالبت عليه الدنيا بأسرها، وأتاه الموت من كل مكان، وأسلمه عامة إخوانه تقريبًا، بل أعانوا عدوه عليه، ونفد صبر كثير من أهله، وكاد أكثر من يواليه بمجرد العاطفة أن ينسى أمره أصلًا، فالحمد لله الذي يثبّت على مثل هذا عقله ودينه! ..
فليعذر المسلم أخاه المسلم، والمكلوم في إحدى ديار الإسلام ينبغي أن يكون أعرف الناس بحال أخيه المكلوم في دار أخرى وأرحمهم به، لا كما يقع بين بعض السوريين والفلسطينيين مثلًا، وليلعنا جميعًا كل من فرق ديار الإسلام وقطّعها وأضعفها وسلط عليها أعداءها وجعلها ملعبًا لهم ولمصالحهم!
• والأصل ألا يخوض في ذلك إلا من يتكلم بعلم وحلم وإنصاف وتثبُّت، والإنسان في عافية وبحبوحة ما سكت، وينبغي أن يكون أعظم شاغل للمرء نفسه وما سيُسأل عنه بين يدي الله، ومن ذلك حق إخوانه عليه، فوجوب الدفع عنهم بكل سبيل واجب على جميع المسلمين شرقًا وغربًا، وليس ذلك منةً أو تفضلًا، وقد فصّلت ذلك في رسالة (أثر تعدد الدول الإسلامية)، ثم لا يدري المرء بعد ذلك أيُكتب عند الله عاجزًا معذورًا أم لا! .. فليلزم الإنسان الوجل من ذلك، والحياء من الله والمؤمنين، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
اللهم انصر إخواننا، وثبّت أقدامهم، واحقن دماءهم، واشرح صدروهم، وادحر عدوهم، وانتقم ممن خذلهم وأعان عليهم، وبدد مُلكهم، ولا تكتبنا عندك منهم، وألهمنا رشدنا، وبصّرنا بما يرضيك عنّا!
_______________________________________________
الكاتب: كريم حلمي
- التصنيف: