قراءات نصية: الوحي في النصرانية وظهور الهرمنيوطقيا

منذ 2024-10-15

ليس بالإمكان استقصاء كل ما يمكن أن يتصل بقراءة الوحي في النصرانية، أعنى مصادر الكنيسة ونصوصها المقدسة.

د. محمد بن عبد الحميد القطاونة

أ. الفكر الإسلامي جامعة ملايا

ليس بالإمكان استقصاء كل ما يمكن أن يتصل بقراءة الوحي في النصرانية، أعنى مصادر الكنيسة ونصوصها المقدسة. والعقائد التي انتهت إليها الكنيسة ومحاولات فرضها على الناس. والأسرار الكنسية وطقوس العبادة. ومنزلة رجال الدين (الاكليروس) في البناء الكنسي. وما اتهم العلمانيون به الكنيسة من الاستخفاف بعقول الناس. وتفسيراتها الغريبة لحقائق الأشياء. والعجز التام عن إقناع معارضيها وأتباعها على حد سواء([1]). ولكنا نقتصر على مراحل منهجية قراءة الوحي في النصرانية وتأثيرات الهرمنيوطقيا عليها.

الناظر في منهجية النصارى في التعامل مع الوحي يجد ومنذ الوهلة الاولى أن الوحي مستمر لا ينقطع بمعتقدهم. خاصة أنهم يتبنون مقولة مفادها أن الكنيسة ليست هي البناء وإنما هي جماعة المؤمنين إذا التقوا وأخلصوا نياتهم فإن روح القدس يكون معهم يؤيدهم ويلهمهم، ومن ثم فإن الاتصال بروح القدس أمر لا ينقطع، وهو أمر إرادي، إذ لا يقوم على الاجتباء الإلهي، بل على التطلب الاختياري من قبل الجماعة. وبالنتيجة فإن حقيقة الأمر استحياء لا إيحاء([2]). وهنا يظهر الجانب البارز للتصرف البشري في أصل تحقق وجود الوحي قبل الحديث حتى عن فهمه أو تفسيره وتأويله.

ويقولون: إن روح القدس الذي حلَّ في مريم لدى البشارة، وعلى المسيح في العماد على صورة حمامة وعلى الرسل من بعد صعود المسيح، ولا يزال ينزل على الآباء والقديسين بالكنيسة ليرشدهم، ليس إلا روح الله وحياته، إله حق من إله حق([3]).

ولا يعتقد المسيحيون في خصوص الإنجيل الحرفي الذي يعتقده المسلمون في القرآن، فهم لا يقولون بأن الأناجيل نزلت على كاتبيها من الله أو الملائكة كلمة كلمة، بل كتبت على يد تلاميذ المسيح وتلاميذهم. وذلك أن الله جل وعلا قد أوحى لرجاله بالمعنى فقط ثم ترك حرية التعبير لكاتب السفر، فإنه يحرك باطناً كاتباً يختاره، فيبعثه على كتابة السفر المقصود، ثم يمده ويلهمه اختيار الحوادث والظروف والأعمال والأقوال التي شاء رقمها لفائدة عباده. وكان له رقيباً ومرشداً، وعصمه من الخطأ في نقلها وتسطيرها إفراداً وإجمالاً، بحيث غنه لا ينقل غلا ما ألهمه الله إياه. وهذا كاف لأن يعزى الكتاب إلى الله.

وهذا الرأي في الواقع دون سند موثق من الكتاب المقدس، ولعل صاحبه أو القائل به أراد أن يهرب من تلك التناقضات الغريبة التي تتضح لمطالع الكتاب المقدس مبرهنة على أصله البشري الإلهي([4]).

من المعلوم أن مصادر المسيحية هي: الأناجيل الأربعة، ورسائل بولس الأربع عشرة، وأعمال الرسل. وهي تسمى بـ (العهد الجديد) تمييزاً عن العهد القديم الذي يخص اليهود، وهو التوراة وملحقاتها. ومجموعهما يكون (الكتاب المقدس). وعلى الرغم من الانفصال بين اليهودية والمسيحية يعدّ المسيحيون العهد القديم جزءاً من الكتاب المقدس، يجب على كل مسيحي الإيمان به.

وبناءً عليه لا يقصد بالوحي لدى النصارى إنجيل عيسى عليه السلام. وهذا إذا استثنينا المتقدمين جداً منهم من أمثال ترتوليان (165- 220م) فإن تشديده على تفضيل الإنجيل على كل جهد بشري مع تقدم زمانه وقربه من عيسى عليه السلام قد يمكن تفسيره بأن سببه هو حديثه عن إنجيل عيسى الذي هو الوحي. وأمّا بعد ذلك فلا احد يجادل في أن الجهد البشري كان له دور في تأليف الأناجيل المعتمدة اليوم([5]).

كل ذلك يسوقنا الى أن نذكر ما قاله "ألان دي ليل" من فلاسفة العصور الوسطى: (إن الوحي صنم انفه من شمع، وينثني وفقاً لمشيئة العالم) ([6])، وكما يرى ألفرد جارفي فإن أهدافاً سيئة كانت وراء تلك التعديلات، منذ دخول الأناجيل بلاد اليونان وتأثرها بفلسفة الإغريق والقانون الروماني حتى غدت لا تمثل الحقيقة([7]). وعلى حد قول الكاتب المسيحي برنتن: إنها ديانة مخالفة كل المخالفة لمسيحية المسيحيين الذين كانوا في الجليل. ولو أن المرء عد العهد الجديد (الأناجيل وأعمال الرسل) التعبير النهائي عن العقيدة المسيحية لخرج من ذلك قطعاً لا بأن مسيحية القرن الرابع  تختلف عن المسيحية الأولى فحسب، بل لخرج بأن مسيحية القرن الرابع لم تكن مسيحية بتاتاً([8]).

وعلى الرغم من معرفتهم بكل ذلك تؤكد الكنيسة بحزم وإصرار أن الأناجيل الأربعة تنقل بأمانة ما فعله وعلمه المسيح ابن الله، فالكتّاب المقدسون ألفوا الأناجيل الأربعة، بحيث يكشفون دوماً عن المسيح أشياء حقيقية وصادقة. وأنه إن ظهر لأحد في موضع من المواضع في تحريرها اختلاف أو محال عقلي، فذلك دليل نقصان علمه وفهمه([9]).

وبدءاً من نهاية العصر الوسيط في القرن الرابع عشر الميلادي صارت الغلبة المعرفية لدى الأساتذة الجامعيين وكثير من رجال الدين لصالح الفلسفة والعلم التجريبي، والفصل بينهما وبين الإيمان بالوحي. إذ القيمة العلمية إنما تحصل بالبراهين الفلسفية لدى بعضهم وبالتجربة لدى آخرين وبهما جميعاً لدى غيرهم. أما الوحي فالإيمان به مجرد من الصفة العلمية([10]).

وبالنتيجة: فإننا بهذا نعلم أن أصل الأصول في الديانة المسيحية يكتنفه قدر هائل من الشكوك والاضطراب، حتى وصفه بعضهم بالأدب "المفكك"، وهو أمر يفتح الباب على مصراعيه متيحاً المجال الواسع لحرية تطبيق مقولات الفينومينولوجيا واستعمال المنهج الهرمينوطيقي وتفكيكية دريدا، من أجل محاولة البحث عن الحقيقة المختفية وراء حروف النص وكلماته وبين سطوره، من أجل اكتشاف المسكوت عنه من خلال المفصح عنه. أو أن يزاح عن أصل النص الموحى به أو الواقعة التاريخية والتضخيم الذي أضافه الخيال البشري.

ونلخص هنا عوامل تهاوي المقدس في النصرانية:

أولاً: عدم مصداقية الكتاب المقدس اساساً، لما دخل عليه من تحريف جارف.

ثانياً :المناهج الفكرية الحديثة ودورها في نقد الكتاب المقدس وجعله حقلاً لتجاربها([11]) .

ثالثاً: عدم صمود الكتاب المقدس أمام الضربات العلمية الموجعة التي تعرض لها.

رابعاً : تاريخ الفساد الكنسي، والانحطاط السلوكي الذي اتصف به رجال الكنيسة من باباوات وكرادلة ورهبان وراهبات([12]).  

 

 

([1])عبد العظيم المطعني، الإسلام في مواجهة الأيدولوجيات المعاصرة ، ص69- 70.

([2])أحمد شلبي، المسيحية ، ص209- 213، أحمد عبد الغفور عطار، الديانات والعقائد، جـ3، ص: 320.

([3]) الموسوعة الميسرة، ص569، 653، 1170.

([4])محمد طارق الشافعي، عقيدة النصارى بين القرآن الكريم والسنة الشريفة، ص12- 15.

([5])المصدر السابق، نفس الصفحات .

([6])يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، دار القلم بيروت. ص109.

([7])أحمد شلبي، المسيحية، من مجموعة مقارنة الأديان، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط6، 1978م ، ص215.

([8]) عبد العظيم المطعني، الإسلام في مواجهة الأيدولوجيات المعاصرة، مكتبة وهبة، مطبعة دار السعادة، القاهرة، ط1، 1987م. ص21. وهو ينقل عن كتاب: أفكار ورجال، ص207.

([9]) الزنيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي ، ص584- 585.

([10]) تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، ص52، 109، 204، 241، وانظر: فلسفة العصور الوسطى، ص36.

([11]) - انظر :زالمان شازاد، تاريخ نقد العهد القديم،ترجمة احمد الهويدي،تقديم ومراجعة محمد خليفة حسن، المجلس الاعلى للثقافة 2000م، القاهرة، د.ط.

([12]) - احيل هنا الى كتاب القس دي روزا" التاريخ الاسود للكنيسة"ترجمه من الالمانية آسر حطيبة .والقس دي روزا كان محاضراً لا هوتياً في روما وفي اهم الجامعات البابوية،أذهله التاريخ المظلم للبابوات والكنيسة فاعتزل العمل  اللاهوتي الكنائسي عام 1970م.