في العجز الذاتي للأمة

منذ 2024-10-18

عندما تُصاب أُمَّة بالعجز الذاتي تنخفض روحها المعنوية، وتبدأ في فقدان الثقة في نفسها، ويصبح هناك شعور جماعي بالتهميش، وتُصبح نُخبتها غير قادرة على وضع تصوُّرات أو مشاريع للخروج من أزمة.

لماذا لا يستطيع سجينٌ أو ذليلٌ أن يَخرج من سجنه ويكسر قيده عندما تلوح له فرصة سانحة؟ هل من الممكن أن نتخيَّل هذه الحالة من العجز؛ أن يرى المظلوم الباب أمامه يحتاج فقط دفعة ضعيفة أو قفزة ليست بعيدة، ثم يترك هذا استسلامًا؟!

هذا السؤال شغل كثيرًا من العلماء، لماذا قد يصل الإنسان إلى مثل هذه الحالة من الضعف والخضوع والاستكانة؟

وتوصّلوا إلى مفهوم نفسي عرَّفوه بـ«العجز الذاتي»؛ يشير إلى حالةٍ يشعر فيها الشخص بعدم القدرة على التحكم في الأمور المتعلقة بحياته، أو العجز عن تحقيق أهدافه، حتى لو كان يمتلك القدرة الفعلية على التغيير أو التأثير. وضع خطًّا عريضًا تحت العبارة الأخيرة.

هذا الشعور بالعجز رأوا أنه يتطوَّر عادةً نتيجةً لتجارب سلبية سابقة مرَّ بها الفرد؛ حيث يشعر بأنه غير قادر على تغيير الوضع أو تحقيق النجاح، بغضّ النظر عن محاولاته. وقد يرتبط بتجارب الفشل المتكررة التي تؤدي إلى الشعور بعدم الجدوى أو الاستسلام.

أحد أشهر تجارب العجز الذاتي هي تجربة العالم مارتن سيليجمان التي أجراها في أواخر الستينيات على الكلاب؛ التجربة كانت بسيطة في تصميمها، لكنَّها قدَّمت رؤًى مهمةً حول كيفية تعلُّم الكائنات الحية العجز عندما تتعرَّض لمواقف سلبية لا تستطيع التحكم فيها.

قسَّم سيليجمان التجربة إلى مرحلتين:

1. المرحلة الأولى: تم تقسيم الكلاب إلى مجموعتين؛ المجموعة الأولى: وُضِعَت في حجرة يمكنها الهروب عندما تتعرَّض للأذى. أما المجموعة الأخرى فقد تعرَّضت لصدمات كهربائية غير مريحة، ولم يكن هناك أيّ طريقة للهروب من هذه الصدمات؛ فكانت تصرخ وتتألم، وتحاول الهرب، وتصطدم بالأبواب، لكن لم يكن ثمة نتيجة.

2. المرحلة الأخرى: تم وضع جميع الكلاب في حجرة مختلفة تحتوي على حاجز منخفض يمكن للكلب الهروب من هذه الصدمات الكهربائية بسهولةٍ عبر القفز فوق هذا الحاجز.

المجموعة الأولى (التي كانت قادرة على الهروب سابقًا) سرعان ما تعلمت القفز فوق الحاجز للهروب من الصدمات. أما المجموعة الأخرى -التي تعلمت في المرحلة الأولى أنها لا تستطيع الهروب-؛ فلم تحاول حتى القفز فوق الحاجز في المرحلة الثانية.

ببساطة استسلمت للصدمات على الرغم من أن الحل كان متاحًا؛ لأنها اكتسبت خبرة تأصَّلت لديها أن أيّ محاولة للهروب كانت عديمة الفائدة، وبالتالي لم تحاول الهروب؛ حتى عندما أُتيحت لها الفرصة.

سيليجمان استنتج أن هذه الكلاب طوَّرت عجزًا داخليًّا؛ أي: أنها تعلمتَ أن تكون عاجزةً عن تغيير وضعها بسبب التجربة السابقة.

لقد اكتشف أن الكائنات يمكن أن تتعلّم العجز دون أن تكون عاجزة على الحقيقة، وذلك بعد تعرُّضها لتجارب سلبية لا يمكنها التحكم فيها. وأن هذا العجز يمكن أن ينتقل إلى البشر أيضًا؛ حيث يبدأ الشخص في الاعتقاد بأنه عاجز عن تغيير وضعه أو التحكم في نتائج حياته، حتى في الظروف التي يستطيع فيها التغيير بالفعل.

وحال الأمة مثل حال الأفراد؛ قد تُصاب أمة كاملة أو شعب من الشعوب بحالة من العجز الذاتي غير الحقيقي بسبب تجاربه الفاشلة، حتى لو امتلك الموارد الكافية أو القدرات اللازمة. مثل هذا الشعور قد ينشأ نتيجةً لتاريخ طويل من الهزائم، والأزمات والاستعمار، أو تسلّط عدوه عليه بشكل مباشر أو غير مباشر، أو الصراعات الداخلية.

عندما تُصاب أُمَّة بالعجز الذاتي تنخفض روحها المعنوية، وتبدأ في فقدان الثقة في نفسها، ويصبح هناك شعور جماعي بالتهميش، وتُصبح نُخبتها غير قادرة على وضع تصوُّرات أو مشاريع للخروج من أزمة. وتُصاب بحالة من الإحباط الجماعي، الذي يَعُوق التقدُّم والتطوُّر، ويزيد من صعوبة الخروج من الأزمات.

كم من شعب يعيش هذه الحال! هل يفسِّر حال الأمة هذا ردود فِعْلها الضعيفة نتيجة ما أحاط بها ذلّ؟ رغم أنها كانت من قبل تنتفض لأقل مما يصيبها الآن بمراحل، هل شكّلت انتكاساتها عقب انتفاضاتها ضد طغاتها قيدًا في نفوسها قيَّدها عن الحركة؟

لقد شكَّل طوفان الأقصى رافعة قوية ليقظة الأمة بذاتها، وقدرتها على التغيير والتأثير، لذا كان هذا السباق المحموم لوأد انتصارها حتى لو بدا في بقعة صغيرة، وحتى لو كان محدودًا جغرافيًّا وعسكريًّا، لكن يدرك العدو أن لحظة يقظة واحدة لهذه الأمة يمكن أن تُغيِّر حالها.

والحقيقة أن الأُمة تملك أدواتها يقظتها، لو فطنت إليها، ورسائل التغيير كثيرة لمن وعى، لقد حققت طالبان نصرًا بعد عشرين عامًا من الصبر والتضحيات، وحققت المقاومة خرقًا لم تستطع الجيوش تحقيقه رغم ضعف الإمكانيات، والأكبر منه أن عدوّها لم يستطع أن ينال من قيادتها، ولم يحقق إلى الآن أيًّا من أهدافه التي أعلنها.

لم يتبقَّ وقت طويل، فقد اختصرت الأحداث التي نمرّ بها الكثير من الأميال قبل الوصول، وما هزائم حزب الله إلا تنقية للنصر من عوامل الخذلان والتشغيب، ولا يمكن أن يكون المبتدعة ناصية نهضة، ولا الوالغون في دماء أبنائها هم رايات النصر؛ فهذه أمة تُصنَع على عين الله. أما كلاب سيليجمان البائسة فلا ينطبق حالهم إلا على أشباههم من عجائن الدنيا، أما نحن فعجينتنا مختلفة من صبر وإيمان. 

  _______________________________________________
الكاتب: أحمد عمرو