شرح دعاء"اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة"

منذ 2024-10-27

المعافاة: هي أن يعافيك اللَّه من الناس، ويعافيهم منك، وأن يُغْنِيك اللَّه عنهم، ويُغْنيهم عنك، ويَصْرف أذاهُم عنك، ويصرف أذَاكَ عنهم

 

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ([1]).

المفردات:

المعافاة: هي أن يعافيك اللَّه من الناس، ويعافيهم منك، وأن يُغْنِيك اللَّه عنهم، ويُغْنيهم عنك، ويَصْرف أذاهُم عنك، ويصرف أذَاكَ عنهم([2])، وحقيقتها حفظ اللَّه تبارك وتعالى للعبد، عن كل ما يكرهه، ويحزنه، ويسوءه في دينه، ودنياه، وآخرته.

الشرح:

هذه الدعوة المباركة، أخبر سيد الأولين والآخرين، أنها أفضل دعوة، فعن أبي هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (ما من دعوة يدعو بها العبد، أفضل من: اللَّهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة).

وجاء عن أبي بكر رضى الله عنه أنه خطب الناس على منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: قام رسول اللَّه في مقامي هذا عام الأوَّل، ثم بكى أبو بكر رضى الله عنه ثم سُرِّي عنه فقال: سمعت رسول اللَّه يقول: ( «إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا فِي الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ وَالْمُعَافَاةِ، فَسَلُوهُمَا اللَّهَ» )([3]).

وقد تقدّم في الدعاء رقم (71) ( «اللَّهم إني أسألك اليقين، والعفو، والعافية في الدنيا والآخرة» )، بشرح موسَّع لمعنى هذه الدعوات.

دلّت هذه الدعوة على عظم شأنها، وجلالة قدرها، وأنها لا يعدلها شيء، وذلك أن السلامة والحفظ والأمان هي أجلّ المقاصد، والمطالب التي يتشوّف إليها كل العباد؛ فإنه من أُعطي هذا المطلوب، نجا من كل مرهوب، وحصل له كل مطلوب، وهذه الدعوة يا عبد اللَّه من جوامع الكلم كما تقدّم؛ لأنه ليس شيء يعمل للآخرة يتلقى إلا باليقين، وهو الإيمان الثابت الراسخ الذي لا ريب فيه ولا شك، وهذا أفضل العمل، فعن عبد اللَّه بن حبشي الخثعمي رضى الله عنه قال: «سُئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: (إيمان لا شك فيه)» ([4]).

وعلى قدر الإيمان يكون رفع المنازل في الجنان، فعَن أَبِي هُرَيْرَةَرضى الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:  «(إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ فِي الْغُرْفَةِ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الشَّرْقِيَّ أَوْ الْكَوْكَبَ الْغَرْبِيَّ الْغَارِبَ فِي الْأُفُقِ أوالطَّالِعَ فِي تَفَاضُلِ الدَّرَجَاتِ) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ؟ قَالَ: (بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَأَقْوَامٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ)» ([5]).

قوله: « (وأقوام آمنوا باللَّه ورسوله، وصدقوا المرسلين)» : أي أن هذه الغرف، والمنازل العُلا، ينالها أيضاً أقوام غير الأنبياء المرسلين (ولم يذكر عملاً، ولا شيئاً سوى الإيمان، والتصديق للمرسلين، وذلك ليعلم أنه عنى الإيمان البالغ، وتصديق المرسلين من غير سؤال، ولا تلجلج، وإلاّ كيف تنال الغرفات بالإيمان والتصديق الذي للعامة، ولو كان كذلك، كان جميع الموحدين في أعلى الغرفات، وأرفع الدرجات، وهذا محال)([6])

قوله:  «(المعافاة في الدنيا والآخرة)» : أي السلامة والأمان في الدارين: ففي الدنيا، فإنه ليس شيء يهنأ فيها إلا مع السلامة، والعناية والوقاية، من شرورها كلها: ظاهرها وباطنها، ومن جملتها السلامة من الخلق، والاستغناء عنهم.

قوله:  «(والمعافاة في الآخرة)» : السلامة، والنجاة من الذنوب وتبعاتها، ومن جملة ذلك من القصاص، والحقوق التي بينك وبين العباد، وبين العباد وبينك، فمن رُزق المعافاة، ضمن دخول منازل وجنان الرحمن، فتضمّنت هذه الدعوات المباركة خيري الدنيا والآخرة، فاعتني بها يا عبد اللَّه في دعائك، وأكثر منها في ليلك ونهارك.

([1]) ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، برقم 3851، والمعجم الكبير للطبراني، 20/ 165، والديلمي في الفردوس، برقم 6145، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 259، برقم 3841، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1138.

([2]) نظر النهاية، 627.

([3]) رواه أحمد في المسند، 1/ 212، برقم 38، وأبو يعلى، 1/ 121، وبنحوه في الترمذي، كتاب الدعوات، أحاديث شتى من أبواب الدعوات، برقم 3553، وسنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، برقم 3849، والسنن الكبرى للنسائي، 6/ 222، والسنن الصغير للبيهقي، 1/ 15، وصححه لغيره الأرناؤوط في تعليقه على المسند،

1/ 212، وصححه محقق مسند أبي يعلى، 1/ 121.

([4]) النسائي، برقم 2526، والكبرى له، برقم 2317، وأحمد، برقم 15401وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1504، وتقدم.

([5]) الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في ترائي أهل الجنة في الغرف، واللفظ له برقم 2556، ومسند الإمام عبد اللَّه بن المبارك، ص 71، وفي صحيح البخاري: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t، عَنْ النَّبِيِّ r: قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ، لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: (بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ)، البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وانها مخلوقة، برقم 3256، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة الغرف، كما يرى الكوكب في السماء، برقم 3831، وأما رواية الترمذي، فقد صححها الشيخ الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2556.

([6]) التذكرة للقرطبي، 433.