حديث : ازهد في الدنيا يحبك الله
" ليس الزهد في الدنيا تركها، إنما الزهد أن يُزهد في كل ما سوى الله تعالى، هذا داود و سليمان عليهما السلام قد ملكا الدنيا، وكانا عند الله من الزاهدين ".
متن الحديث:
عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبّني الناس، فقال: «ازهد في الدنيا يحبّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس» (رواه ابن ماجة).
الشرح:
الإنسان اجتماعي بطبعه، يحبّ أن يأنس بالناس، وأن يأنس به الناس، كما يعجبه أن يكون محبوبا في مجتمعه، محترما في بيئته، لذا فهو يسعى دائما لكسب ود الناس وحبهم، والعاقل من البشر من يسعى لرضى ربّ الناس قبل سعيه في كسب رضى الناس.
ولا شك أن لنيل محبّة الله ثم محبّة الناس سبيل وطريق، من حاد عنه، خسر تلك المحبّة، ومن سلكه فاز بها، وأنس بلذتها، ولذلك أورد الإمام النووي رحمه الله هذا الحديث، ليكون معلما ومرشدا، وليبيّن لنا الكيفية التي ينال بها العبد محبة ربّه ومحبة خلقه.
إن محبّة الخالق للعبد منزلة عظيمة، فهي مفتاح السعادة، وباب الخير، ولذلك فإنها لا تُنال بمجرّد الأماني، ولكنها تحتاج من العبد إلى الجدّ والاجتهاد في الوصول إلى هذه الغاية، وقد جاء في الكتاب والسنة بيان للعديد من الطرق التي تقرّب العبد من مولاه وخالقه، وتجعله أهلا لنيل رضاه ومحبته، وكان من جملتها ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من التخلق بخلق الزهد.
والزهد هو قصر الأمل في الدنيا، وعدم الحزن على ما فات منها، وقد تنوعت عبارات السلف في التعبير عنه، وأجمع تعريف للزهد هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: " الزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة "، وهذا يشمل ترك ما يضر، وترك ما لا ينفع ولا يضر.
ولا يفهم مما سبق أن الأخذ من طيبات الحياة الدنيا على قدر الحاجة ينافي معنى الزهد، فقد كان من الصحابة من كانت لديه الأموال الكثيرة، والتجارات العديدة، كأمثال أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين، لكن هذه التجارات وتلك الأموال كانت في أيديهم، ولم تكن في قلوبهم، ولهذا ترى الصحابة رضي الله عنهم في باب الصدقة ومساعدة المحتاج والإنفاق في سبيل الله، تراهم كمطر الخير الذي يعطي ولا يمنع، ويسقي حتى يُشبِع.
وعلى هذا فإن حقيقة الزهد: أن تجعل الدنيا في يدك لا في قلبك، فإذا كان العبد مقبلا على ربّه، مبتعدا عن الحرام، مستعينا بشيء من المباحات، فذلك هو الزهد الذي يدعو إليه الحديث، وصدق بشر رحمه الله إذ يقول: " ليس الزهد في الدنيا تركها، إنما الزهد أن يُزهد في كل ما سوى الله تعالى، هذا داود و سليمان عليهما السلام قد ملكا الدنيا، وكانا عند الله من الزاهدين ".
ولقد وعى سلفنا الصالح تلك المعاني، وقدروها حقّ قدرها، فترجموها إلى مواقف مشرفة نقل التاريخ لنا كثيرا منها، وكان حالهم ما قاله الحسن البصري رحمه الله: " أدركت أقواما وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا إذا أقبل، ولا يأسفون على شيء منها إذا أدبر، وكانت في أعينهم أهون من التراب ".
لقد نظروا إليها بعين البصيرة، ووضعوا نُصب أعينهم قول الله تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [فاطر: 5]، وقوله: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح} [الكهف: 45]، فهانت عليهم الدنيا بكلّ ما فيها، واتخذوها مطيّة للآخرة، وسبيلاً إلى الجنّة.
ثم يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم السبيل إلى محبة الناس فقال: «وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس» ، ومعنى ذلك: ألا يكون القلب متعلقا بما في أيدي الناس من نعيم الدنيا، فإذا فعل العبد ذلك، مالت إليه قلوب الناس، وأحبته نفوسهم.
والسرّ في ذلك أن القلوب مجبولة على حب الدنيا، وهذا الحب يبعثها على بغض من نازعها في أمرها، فإذا تعفف العبد عما في أيدي الناس، عظم في أعينهم ؛ لركونهم إلى جانبه، وأمنهم من حقده وحسده.
فما أعظم هذه الوصية النبوية، وما أشد حاجتنا إلى فهمها والعمل بمقتضاها، حتى ننال بذلك المحبة بجميع صورها.
- التصنيف: