{ وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين }
يبقي الحديث عن سيدنا موسى عليه السلام هو أطول حديث عن نبي من الأنبياء فقد ذُكر عليه السلام نحواً من مائة وثلاثين مرةً.. ويبقي الحديث أيضاً عن بني إسرائيل هو اطول حديث عن أمة من الأمم..
اخرج الإمام أحمد عن عَبْد اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ قال : «حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، حَدِّثْنَا عَنْ خِلِالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهَا، لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، فَكَانَ فِيمَا سَأَلُوهُ أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟ قَالَ: " فَأَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَطَالَ سَقَمُهُ، فَنَذَرَ لِلهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللهُ مِنْ سَقَمِهِ، لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ، فَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ، لُحْمَانُ الْإِبِلِ، وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا؟ فَقَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ)»
أيها الإخوة الكرام: لقد عُني القرآن الكريم عناية بالغة بالحديث عن الأنبياء والرسل عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم السلام، وعُني القرآن الكريم أيضاً بالحديث المستفيض عن الشعوب والأمم التي سبقت أمة محمد صلى الله عليه وسلّم..
لكن يبقي الحديث عن سيدنا موسى عليه السلام هو أطول حديث عن نبي من الأنبياء فقد ذُكر عليه السلام نحواً من مائة وثلاثين مرةً..
ويبقي الحديث أيضاً عن بني إسرائيل هو اطول حديث عن أمة من الأمم..
وهنا أود ان اقول:
لابدَّ وأن يكون لهذا الحديث الطويل سببٌ، ولا بدَّ وأن يكون لهذا الذكر المُستمِر مِن حِكمَة قصَدها الشارعُ الحكيم..
وهنا ينشأ سؤال يقول : مَن هو إسرائيل؟ ومَن هم بنو إسرائيل؟ ولماذا خاطَبهم الله بقوله يا بني إسرائيل ؟
يقول ابن كثير رحمه الله : إن إسرائيل هو نبي الله يعقوب عليه السلام وكلمة إسرائيل كلمة ليست من لام العرب، وإنما هي عبرية مركبة من مقطعين ومعناها (عبد الله) قال الله تعالى {﴿ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَىٰةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا۟ بِٱلتَّوْرَىٰةِ فَٱتْلُوهَآ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ ﴾}
وقد خاطب الله تعالى بني إسرائيل ب(بني إسرائيل) لأنهم من ذريته وكأنه سبحانه وتعالي يقول لهم: يا بني العبد الصالح المُطيع لله، كونوا مثل أبيكم في إيمانه وأخلاقه واتباعه الحق..
اما حديث القرآن الكريم عن بني إسرائيل فهو اطول حديث عن امة من الأمم والسبب هو ان بني إسرائيل هم أقرب الأمم إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلّم، ومن أسباب كثرة ذكرهم في القرآن أيضاً أن أغلب الأنبياء الذين أتي القرآن الكريم على ذكرهم كانوا من بني اسرائيل بداية من نبي الله يوسف إلى سيدنا عيسى عليه السلام..
فذكر القرآن الكريم المواقف التي مرت ببني إسرائيل بحلوها ومرها، وبخيرها وشرها من أجل أن تعتبر بها هذه الأمة..
ولذلك ترى الحديث عن بني إسرائيل في القرآن الكريم ( المكي) والغرض منه تثبيت القِلَّة المؤمِنة على الإيمان والصبر على الأذى..
وترى الحديث عن بني إسرائيل أيضا في القرآن ( المدني) والغرض منه كشْف حقيقة نوايا بني إسرائيل خاصة وان طوائف منهم سكنوا المدينة،فكان في ذكرهم بيان وسائلهم الخبيثة وتحذير المسلمين منهم ، وتحذير المسلمين أيضاً مِن الوقوع في مثل ما وقع فيه بنو اسرائيل من الفسوق والعصيان..
لكن ما يصيبك بالعجب:
هو طبيعة حديث القرآن الكريم عن بني إسرائيل.. فالقرآن في موضع يمتدح بني إسرائيل ويرفع قدرهم حتى يصل بهم عنان السماء، وتارة القرآن يذمهم ويلعنهم ويجعلهم في أسفل سافلين.. !! !!
في جانب مدح بني إسرائيل تأتي مثل هذه الآية {﴿ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾}
وفي جانب الذم لبني إسرائيل تأتي مثل هذه الآية {﴿ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنۢ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ يَعْتَدُونَ ﴾}
وهذا هو غاية الإنصاف:
لأن بني إسرائيل لم يكونوا سواء بل كان منهم الصادقون الصالحون، وكان منهم العصاة والفاسقون..
فضل الله تعالى بني إسرائيل في زمانهم يوم آمنوا، يوم اتقوا ربهم، يوم عملوا الصالحات وسعوا إلى الخيرات، ففضلهم الله تعالى في زمانهم على العالمين..
لكن بني إسرائيل لما انتكسوا، لما فسقوا، لما تجاوزا حدودهم في الجحود والعصيان، لما عبدوا العجل، لما قالوا لموسي أرنا الله جهرة، لما اعتدوا، لما بدلوا وغيروا، لما آذوا المرسلين، لما قتلوا الأنبياء، لما سكتوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما زيفوا وحرفوا كلام الله تعالى، لما امتنعوا من دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، لما قعدوا عن الجهاد في سبيل الله وقالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، لما قالوا ذلك وأكثر من ذلك.. ولما شددوا على انفسهم شدد الله عليهم وحرم عليهم طيبات أحلت لهم ، وضرب الله عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، مقتهم الله تعالى وغضب عليهم ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم،
هذا السياق القرآني هو السياق العادل المنصف:
حين استحق بنو إسرائيل المدح مدحهم
وحين استحقوا الذم ذمهم وأنكر عليهم {﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوٓا۟ إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا۟ يَكْفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ يَعْتَدُونَ ﴾}
هذا الذي ذكره القرآن الكريم عن بني إسرائيل من المدح او من الذم يؤكد شيئاً مهماً هو أن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وان الله تعالى حكم عدل لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون..
حديث القرآن الكريم عن بني إسرائيل او عن غيرهم إنما يساق في القرآن لنتعظ منه ونعتبر به {﴿ لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُو۟لِى ٱلْأَلْبَٰبِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾}
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا، وأن يهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال إنه ولي ذلك والقادر عليه..
الخطبة الثانية
من بين المواضع الذي ورد الحديث فيها عن بني إسرائيل في القرآن الكريم هذا الموضع {﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ فِى ٱلْكِتَٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾}
اما إفسادهم الأول فوقع فيمن كان قبلنا حين افسدوا في الأرض فسلط عليهم من ساهم سوء العذاب وذلك قول الله تعالى {﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُو۟لِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا۟ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا ﴾}
هذه العقوبة عملت عملها في بني إسرائيل فتنبهوا وأصلحوا أعمالهم وتابوا إلى الله تعالى وأنابوا، فتاب الله تعالى عليهم وأصلح أحوالهم قال الله تعالى {﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَٰكُم بِأَمْوَٰلٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾}
ثم إن بني إسرائيل عادوا ليفسدوا في الأرض من جديد، عادوا إلى الفجور والإجرام، عادوا إلى الفسوق والعصيان، وأحسب أن هذا هو الإفساد الثاني لبني إسرائيل، وأحسب أنه في زماننا هذا وأن الله تعالى سينكل بهم على ايدينا، وأحسب أن هذا اليوم أصبح قريباً قال الله تعالى {﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْءَاخِرَةِ لِيَسُۥٓـُٔوا۟ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا۟ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوْا۟ تَتْبِيرًا ﴾}
هذا لن يحصل بمجرد الأماني، ولن يحصل بمجرد الدعوات، إنما الأمر يحتاج إلى عمل، وجهد، وقوة، وبأس شديد، وترابط بين المسلمين، وفوق كل ذلك إخلاص العبادة لله رب العالمين، بهذا تتحقق الأماني، وتستجاب الدعوات، وعد وعدنا الله به والله تعالى لا يخلف الميعاد
{﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمْ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ ﴾ } نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن ينصر الإسلام والمسلمين وأن يعلي بفضله كلمة الحق والدين.. آمين.
محمد سيد حسين عبد الواحد
إمام وخطيب ومدرس أول.
- التصنيف: