شرح لأذكار وادعية التشهد
(التَّحيَّاتُ لِلَّه، والصَّلواتُ، والطِّيِّباتُ، السَّلامُ عَليْكَ أيُّها النَّبيُّ ورَحمةُ اللَّهِ وبَركاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالحينَ...
التَّشَهُّدُ
هو قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ ولأن هذا الجزء هو الأشرف من هذا الذكر سمي به.
«(التَّحيَّاتُ لِلَّه، والصَّلواتُ، والطِّيِّباتُ، السَّلامُ عَليْكَ أيُّها النَّبيُّ ورَحمةُ اللَّهِ وبَركاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالحينَ، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله، وأشْهَدُ أنَّ مُحمداً عَبْدُهُ ورَسُولُه)»
صحابي الحديث هو عبدالله بن مسعود
قوله: (التحيات) جمع تحية؛ ومعناها السلام، وقيل: البقاء، وقيل: العظمة، وقيل: الملك.
قال المحب الطبري ‘: (يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركاً بين هذه المعاني)
وقال الخطابي والبغوي – رحمهما الله -: (المراد بالتحيات لله أنواع التعظيم له).
قوله: (الصلوات) قيل: المراد الخمس، أو ما هو أعم من ذلك من الفرائض والنوافل، وقيل: العبادات كلها.
قوله: (الطيبات) أي: ما طاب من الكلام، وحسن أن يثنى به على الله – تعالى – دون ما لا يليق بصفاته، وقيل: الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء، وقيل: الأعمال الصالحة، وهو أعم.
قوله: (السلام عليك أيها النبي) السلام بمعنى السلامة، والسلام من أسماء الله تعالى؛ والمعنى أنه سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد؛ ومعنى قولنا: السلام عليك.. الدعاء؛ أي: سلمت من المكاره، وقيل: معناه اسم الله عليك.
وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين زمان حياته، وزمان وفاته.
وهو قوله: (وهو بين ظهرانينا، فلما قُبض قلنا: السلام على النبي).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (هذه الزيادة ظاهرها أنهم كانوا يقولون: (السلام عليك أيها النبي)بكاف الخطاب في حياة النبي، فلما مات النبي تركوا الخطاب، وذكروه بلفظ الغيبة؛ فصاروا يقولون: (السلام على النبي ).
وقال العلامة الألباني – رحمه الله – في (الصفة): (وقول ابن مسعود: (قلنا: السلام على النبي)؛ يعني: أن الصحابة كانوا يقولون (السلام عليك أيها النبي) في التشهد والنبي حي، فلما مات عدلوا عن ذلك، وقالوا: (السلام على النبي) ولا بد أن يكون ذلك بتوقيف منه، ويؤيده أن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنهَا كذلك كانت تعلمهم التشهد في الصلاة: (السلام على النبي).
قلت: في ظاهر ما نقلته عن العالمين الفاضلين ما يدل على اتفاق الصحابة على ما ذكروه.. ولكن فيما يظهر لي في هذه المسألة: أن أقل ما يقال فيها: أنها مسألة مختلف فيها، وأما الراجح:
فالراجح الأخذ بصفة التشهد الذي كان ينطق به النبي في حياته وفعله كثير من الصحابة بعد وفاته ؛ كمثل ما ورد عن عمر بن الخطاب أنه كان يخطب على المنبر يعلم الناس التشهد، يقول: قولوا: … السلام عليك أيها النبي، وكلهم يسمع الخطبة ويتعلم من عمر صفة التشهد ولا ينكر عليه أحد، والصحابة متوافرون في زمنه وأيضاً ما جاء عن عائشة ’ وعن عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر، وأبي موسى الأشعري y أجمعين.
وقال الطيبي ‘: (نحن نتبع لفظ الرسول الذي كان علَّمه الصحابة)، والله أعلم.
قال المصحح: وهذا هو الصواب وهو أن المصلي يقول في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) بلفظ المخاطب الحاضر: (السلام عليك أيها النب) قال العلامة البسام رحمه الله: (لم يقصد بهذه الكاف (عليك)المخاطب الحاضر، وإنما قصد بها مجرد السلام: سواء كان حاضراً أو غائباً، بعيداً أو قريباً، حياً أو ميتاً؛ ولذا فإنها تُقال سراً، وإنما اختص النبي بهذا الخطاب، لقوة استحضار المرء هذا السلام الذي كأن صاحبه حاضراً، واختص بكاف الخطاب بالصلاة، وكل هذا من علو شأنه، ومن رفع ذكره واسمه)
قوله: (ورحمة الله) إحسانه ورأفته.
قال المصحح: وهذا تأويل فاسد، والصواب أن الرحمة هنا: صفةٌ لله تعالى تليق بجلاله يرحم بها عباده، وينعم عليهم).
قوله: (وبركاته) أي: زيادته من كل خير.
قوله: (السلام علينا) استدل به على استحباب البداءة بالنفس في الدعاء.
قوله: (وعلى عباد الله الصالحين) الأشهر في تفسير الصالح؛ أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده، وتتفاوت درجاته.
قال الحكيم الترمذي: (من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة فليكن عبداً صالحاً، وإلا حُرِمَ هذا الفضل العظيم).
الصَّلاةُ عَلَى النَّبيِّ بَعْدَ التَّشهُّدِ
«(اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُـحمَّدٍ وعلَى آلِ مُـحمَّدٍ، كَمَـا صَلَّيتَ عَلَى إبْرَاهِيْمَ وعَلَى آلِ إبراهِيْمَ، إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحمَّدٍ وعَلى آلِ مُحمَّدٍ، كمَا بَارَكْتَ عَلَى إبراهِيْمَ وعَلَى آلِ إبْراهيمَ، إنَّك حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ)»
صحابي الحديث هو كعب بن عُجرة
(اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وعَلَى أزواجِهِ وذُرِّيتهِ، كمَا صَلَّيْتَ علَى آلِ إبْراهيمَ، وبَارِكْ عَلى مُحمَّدٍ، وَعَلَى أزْوَاجِهِ وذُرِّيَّتـِهِ، كمَا بَاركْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيْمَ، إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ)
صحابي الحديث هو أبو حميد الساعدي المنذر بن سعد بن المنذر
قوله: (اللهم صلِّ على محمد) قال ابن الأثير ‘ في (النهاية): (معناه: عظمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وتضعيف أجره ومثوبته) وقيل: المعنى لما أمر الله – تعالى – بالصلاة عليه، ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك أحلناه على الله، وقلنا: اللهم صل أنت على محمد لأنك أعلم بما يليق به.
وقيل: صلاة الله – سبحانه – على محمد رسوله وعبده؛ هي ذكره في الملأ الأعلى.
قال الخطابي ‘: (الصلاة التي بمعنى التعظيم والتكريم لا تقال لغيره، والتي بمعنى الدعاء والتبرك تقال لغيره؛ ومنه الحديث:
(اللهم صلِّ على آل أبي أوفى) أي: ترحم وبرك).
قوله:(على آل محمد) قال ابن الأثير – رحمه الله – في (النهاية): (اختلف في آل النبي فالأكثر على أنهم أهل بيته، قال الشافعي: دل هذا الحديث – يعني حديث: لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد، أن آل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة، وعُوِّضوا منها الخمس، وهم صليبة بني هاشم وبني المطلب، [و] قيل: آله أصحابه ومن آمن به، وفي اللغة يقع على الجميع).
قال المصحح: والصواب: أن (آله صلى الله عليه وسلم) إذا ذكرت وحدها أو مع أصحابه، فإنها تكون بمعنى أتباعه على دينه منذ بُعث إلى يوم القيامة، أما إذا قرنت بالأتباع، فقيل: (آله وأتباعه) فالآل: هم المؤمنون من آل بيت النبي )
قوله: (وعلى أزواجه وذريته) أي: نسله؛ وهم هنا أولاد فاطمة ’ وكذا غيرها من البنات، ولكن بعضهن لم يعقب وبعضهن انقطع عقبه.
قوله: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) اشتهر الخلاف والتساؤل بين العلماء عن وجه التشبيه في قوله: (كما صليت)؛ لأن المقرر أن المشبه دون المشبه به، والواقع هنا عكسه؛ إذ أن محمداً أفضل من إبراهيم، وقضية كونه أفضل؛ أن تكون الصلاة المطلوبة أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل.
واستحسن كثير من العلماء قول من قال: (إن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طُلب للنبي ولآله من الصلاة عليه مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء؛ حصل لآل محمد من ذلك ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء – وفيهم إبراهيم – لمحمد، فيحصل له من المزية ما لا يحصل لغيره).
قال العلامة ابن القيم ‘ معلقاً على هذا القول: (وهذا أحسن ما قيل، وأحسن منه أن يقال: محمد هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم، كما روى علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَـمِينَ؛ قال ابن عباس: (محمد من آل إبراهيم)، وهذا نص [فإنه]
إذا دخل غيره من الأنبياء الذين هم من ذرية إبراهيم في آله؛ فدخول رسول الله أولى؛ فيكون قولنا: (كما صليت على آل إبراهيم) متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، ثم قد أمرنا الله تعالى أن نصلي عليه وعلى آله خصوصاً؛ بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموماً وهو فيهم، ويحصل لآله من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له.
قال: ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم ورسول الله معهم أكمل من الصلاة الحاصلة له دونهم، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم الذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعاً، ويظهر حينئذ فائدة التشبيه وجريه على أصله، وأن المطلوب له من الصلاة بهذا اللفظ أعظم من المطلوب له بغيره؛ فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به، وله أوفر نصيب منه؛ صار له من المشبه المطلوب أكثر مما لإبراهيم وغيره، وانضاف إلى ذلك مما له من المشبه به من الحصة التي لم تحصل لغيره، فظهر بهذا من فضله وشرفه على إبراهيم، وعلى كلٍّ من آله – وفيهم النبيون – ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل وتابعة له، وهي من موجباته ومقتضياته).
قوله: (بارك) من البركة؛ وهي الزيادة والثبوت والدوام؛ أي: أدم شرفه وكرامته وتعظيمه وزد له في ذلك.
قوله: (إنك حميد) أي: محمود الأفعال والصفات، مستحق لجميع المحامد، (مجيد) أي: عظيم كريم.
الدُّعَاءُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَخِيْرِ قَبْلَ السَّلامِ
«(اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، ومِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْـمَحيَا والـمَمَـاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الـمَسيحِ الدَّجَّالِ)»
صحابي الحديث هو أبو هريرة
قوله: (المحيا) بمعنى الحياة، و(الممات) بمعنى الموت، وفتنة الحياة التي تعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا، والشهوات، والجهالات، وأشدها وأعظمها – والعياذ بالله – أمر الخاتمة عند الموت، واختلفوا في فتنة الممات، قيل: فتنة القبر، وقيل: يحتمل أن يراد به الفتنة عند الاحتضار؛ أضاف الفتنة إلى الموت لقربها منه.
وإذا كان المراد من قوله: (وفتنة الممات) فتنة القبر فيفهم منه التكرار؛ لأن قوله: من عذاب القبر يدل على هذا.
والظاهر أن ليس فيه تكرار؛ لأن العذاب يزيد على الفتنة، والفتنة سبب له.
قوله: (المسيح الدجال) أما تسميته بالمسيح؛ فلأن الخير مُسِحَ
منه، فهو مسيح الضلالة، وقيل: سمي به؛ لأن عينه الواحدة ممسوحة، ويقال: رجل ممسوح الوجه ومسيح، وهو أن لا يبقى على أحد شِقَّي وَجْهِهِ عينٌ، ولا حاجب إلا استوى، وقيل: لأنه يمسح الأرض؛ أي: يقطعها.
وقيل: إنه الذي مُسح خَلْقهُ؛ أي: شُوهَ، فكأنه هرب من الالتباس بالمسيح ابن مريم – عليهما السلام – ولا التباس؛ لأن عيسى – عليه السلام – إنما سمي مسيحاً؛ لأنه كان لا يمسح بيده المباركة ذا عاهة إلا برأ، وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بدهن، وقيل: المسيح الصديق.
وأما تسميته بالدجال؛ فلأنه خدَّاع، ملبِّس.
والدجل: الخلط، ويقال: الطلي والتغطية، ودجلة نهر بغداد، سميت بذلك؛ لأنها تغطي الأرض بمائها، وهذا المعنى – أيضاً – في الدجال؛ لأنه يغطي الأرض بكثرة أتباعه، وقيل: لأنه مطموس العين من قولهم: دجل الأثر، إذا عفى ودرس، وقيل: من دجل؛ أي: كذب؛ والدجال: الكذاب.
وفائدة التعوذ من شر الدجال في ذلك الوقت، مع علمه بأن الدجال متأخر عن ذلك الزمان بكثير؛ أن ينتشر الخبر، ويشيع بين الأمة من
جيل إلى جيل، وجماعة إلى جماعة بأنه كذاب، مبطل، مفتري، ساعٍ على وجه الأرض بالفساد، ومموه ساحر، حتى لا يلتبس على المؤمنين أمره عند خروجه، ويتحقق أمره، ويعرفوا أنه على الباطل، كما أخبر رسول الله
«(اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الـمَسيحِ الدَّجَّالِ، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الـمَحْيَا والـمَمَـاتِ، اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الـمَأثَمِ والـمَغْرَمِ)»
صحابية الحديث هي عائشة
وجاء فيه؛ أنه قال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله، فقال: (إن الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف).
قوله: (المأثم) معناه: الإثم.
وقوله: (المغرم) هو الغُرم، وهو الدَّين، وقيل: الغرم والمغرم ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه.
قوله: (قال له قائل) وإنما سأل هذا عن وجه الحكمة في كثرة استعاذته من المغرم؛ فأجاب رسول الله بأن الرجل إذا غرم، أي: إذا لحقه دين حدَّث فكذب، بأن يتعلل لصاحب الدَّين بعلل شتَّى، وهو كاذب فيها، وغرضه الدفع، ووعد فأخلف، بأن يقول: أوفي حقك اليوم الفلاني، والساعة الفلانية، ولم يوفه، فيقترف من أجل الدين الكذب، والخلف في الوعد، وهذا من صفات المنافقين – نعوذ بالله من ذلك.
وكلمة (ما) في قوله: (ما أكثر ما تستعيذ) للتعجب؛ أي: ما أكثر استعاذتك من المغرم.
(اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثيراً، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ، فاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وارْحَمْنِي إنَّك أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)
صحابي الحديث هو عبد الله بن عمرو
قوله: (ظلماً كثيراً) بالثاء المثلثة في معظم الروايات، وفي بعض روايات مسلم (كبيراً) بالباء الموحدة، وكلاهما حسن، وقال النووي – رحمه الله – في (الأذكار): (ينبغي أن يجمع بينهما، فيقال: ظلماً كثيراً كبيراً).
أو يأتي بهذه أحياناً وبالأخرى أحياناً.
وفي هذا دليل على أن الإنسان لا يعرى من ذنب وتقصير؛ كما قال: (استقيموا ولن تحصوا)، وفي الحديث: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)
قوله: (لا يغفر الذنوب إلا أنت) إقرار بوحدانية الله تعالى، واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (عَلِمَ أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب). وفي هذا امتثال لما أثنى الله عليه في قوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون)
فقوله: (ولا يغفر الذنوب إلا أنت)؛ كقوله تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ
قوله: (فاغفر لي مغفرة) إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها من عند الله تعالى، لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره، فهي رحمة من عنده سبحانه.
قوله: (إنك أنت الغفور الرحيم) من باب المقابلة، والختم للكلام، فالغفور مقابل لقوله: (اغفر لي)، والرحيم مقابل لقوله: (ارحمني).
«(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، ومَا أخَّرْتُ، ومَا أسْرَرْتُ، ومَا أعْلَنْتُ، ومَا أسْرَفْتُ، ومَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنْتَ الـمُقَدِّمُ، وأنْتَ الـمُؤَخِّرُ لا إلَهَ إلاَّ أنْتَ)»
صحابي الحديث هو علي بن أبي طالب
أقول: هذا أيضاً لتعليم الأمة، ولتعظيم الله سبحانه وتعالى، حيث لم يقطع سؤاله منه.
قوله: (ما قدمت) أي: من الذنوب.
قوله: (وما أخرت)، أي: من الطاعات، [وقيل: إن وقع مني ذنب فاغفره لي]
قوله: (وما أسرفت) أي: وما أكثرت من الذنوب والخطايا، والأوزار والآثام.
قوله: (أنت المقدِّم وأنت المؤخر) معنى التقديم والتأخير فيهما هو تنزل الأشياء منازلها، وترتيبها في التكوين والتفضيل، وغير ذلك على ما تقتضيه الحكمة.
(اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسْنِ عِبَادَتِكَ)
صحابي الحديث هو معاذ بن جبل
قوله: (ذكرك) يشتمل جميع أنواع الثناء حتى قراءة القرآن، والاشتغال بالعلم الديني.
وإنما قدم الذكر على الشكر؛ لأن العبد إذا لم يكن ذاكراً لم يكن شاكراً، كما قدم في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي
قوله:(وحسن عبادتك) قيد بالحسن؛ لأن العبادة الحسنة هي العبادة الخالصة، فالعبادة إذا لم تكن خالصة [صواباً على السنة] لا تقبل، ولا تنفع صاحبها.
«(اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ أنْ أُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمْرِ، وأعُوْذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ)»
صحابي الحديث هو سعد بن أبي وقاص
قوله: (البخل) أي: منع إنفاق المال، بعد الحصول عليه، وحبه وإمساكه.
قوله: (الجبن) أي: تَهَيُّب الإقدام على ما لا ينبغي أن يُخاف.
قوله: (أن أردَّ إلى أرذلِ العمر) هو البلوغ إلى حد في الهرم، يعود معه كالطفل؛ في سخف العقل، وقلة الفهم، وضعف القوة.
والأرذل: هو الرَّديء من كل شيء.
قوله: (فتنة الدنيا) ومعنى الفتنة الاختبار، قال شعبة رحمه الله: (يعني: فتنة الدَّجَّال)، وفي إطلاق الدنيا على الدجال، إشارة إلى أن فتنته أعظم الفتن الكائنة في الدنيا، وقد ورد ذلك صريحاً في قوله: (إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم، أعظم من فتنة الدجال)
ومعنى (ذرأ) خلق.
قوله: (عذاب القبر) فيه إثبات لعذاب القبر؛ فأهل السنة والجماعة يؤمنون بفتنة القبر وعذابه ونعيمه؛ فأما الفتنة: فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ ومَا دينك؟ ومَن نبيك؟ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبةٍ من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين – الإنس والجن – ولو سمعوا لصعقوا، ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب!!
«(اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ الجَنَّةَ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ)»
صحابي الحديث هو أبو هريرة
أي: اللهم إني أطلب منك الفوز بالجنة، وأن تجيرني من عذاب النار.
ويتضمن هذا الدعاء طلب التوفيق والهداية إلى الأعمال الصالحة المبتغى بها وجه الله تعالى، التي هي سبب للفوز بالجنة، وطلب البعد عن الأعمال السيئة، التي هي سبب لعذاب النار.
«(اللَّهُمَّ بعِلْمِكَ الغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ؛ أحْيِني مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْراً لِي، وتَوَفَّنِي إذَا عَلِمْتَ الوَفَاةَ خَيْراً لي، اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، وأسْألُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَا والغَضَبِ، وأسْألُكَ القَصْدَ فِي الغِنَى والفَقْرِ، وأسْألُكَ نَعِيماً لا يَنْفَدُ، وأسْألُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وأسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاءِ، وأسْألُكَ بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ الـمَوْتِ، وأسْألُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِيْنَةِ الإيْمَانِ، واجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ)»
صحابي الحديث هو عمار بن ياسر
قوله: (ما علمت الحياة خيراً لي) أي: إذا كانت الحياة خيراً لي في علمك للغيب، وكذلك التقدير في قوله: (وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي) أي: إذا كانت الوفاة خيراً لي في علمك.
قوله: (خشيتك في الغيب والشهادة) أي: فيما غاب عني وفيما أشاهده، والمراد منه: الخشية في جميع الأحوال.
قوله: (كلمة الحق) أي: التكلم بالحق؛ والمراد: العون والتوفيق على التكلم بالحق.
قوله: (في الرضا والغضب) أي: في حالة الرضا وحالة الغضب، أو المعنى: عند رضاء الراضي، وعند غضب الغاضب.
قوله: (القصد) القصد من الأمور؛ أي: المعتدل الذي لا يميل على أحد طرفي التفريط والإفراط؛ يعني: أسألك الاعتدال والوسط في الفقر والغنى، لا فقراً بالتفريط، ولا غنىً بالإفراط؛ لأن الفقر جداً يستدعي ترك الصبر، المؤدي إلى ارتكاب الطعن في التقدير، والتكلم بأنواع البشاعة، والغنى جداً يؤدي إلى الطغيان والفساد، وخير الأمور أوسطها.
قوله: (نعيماً لا ينفد) أي: لا يفرغ، وهو نعيم الجنة.
قوله: (قرة عين لا تنقطع) كناية عن السرور والفرح، يقال: قرَّتْ عيناه؛ أي: سر بذلك وفرح، وقيل معناه: بلوغ الأمنية حتى ترضى النفس، وتسكن العين، ولا تستشرف إلى غيره.
قوله: (وأسألك الرضا بعد القضاء) أي: بعد قضائك عليَّ بشيء من الخير والشر؛ أما في الخير فيرضى به ويقنع به، ولا يتكلف في طلب الزيادة، ويشكر على ما أوتي به، وأما في الشر فيصبر عليه ولا يكفر.
قوله: (وأسألك برد العيش بعد الموت) كناية عن الراحة بعد الموت.
قوله: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك) إنما سأل هنا لذة النظر ولم يكتف بسؤال النظر، مبالغة في الرؤية وكثرتها؛ لأنه فرق بين رؤية ورؤية.
قوله: (والشوق) أي: أسألك لذة الشوق إلى لقائك؛ والشوق هو تعلق النفس بالشيء.
قوله: (في غير ضراء) متعلق بقوله: (أحيني إذا علمت الحياة خيراً لي) أي: أحيني إذا أردت حياتي في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، وتوفني إذا أردت وفاتي في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة عند الموت.
والضراء: الحالة التي تضر، وهي نقيض السراء.
ووصف الضراء بالمضرة، والفتنة بالمضلة للتأكيد والمبالغة.
قوله: (اللهم زينا بزينة الإيمان) أي: بشرائعه؛ لأن الشرائع زينة الإيمان؛ يعني: وفقنا لأداء طاعتك وإقامة شرائعك، حتى تكون لنا زينة في الدنيا والآخرة.
قوله: (هداة) جمع هادي؛ أي: اجمع لنا فينا بين الهدى والاهتداء.
«(اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ يَا أللهُ بأنَّكَ الوَاحِدُ الأحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَـمْ يَلِدْ وَلَـمْ يُولَدْ، ولَـمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، أنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)»
صحابي الحديث هو مِحْجَن بن الأرْدَع
قوله: (بأنك) الباء سببية؛ أي: بسبب أنك الواحد.
قوله: (الواحد الأحد) لا فرق بين الواحد والأحد؛ أي: الفرد الذي لا نظير له، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله تعالى؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله.
قوله: (الصمد) هو الذي يُصمد إليه في الحاجات؛ أي: يقصد لكونه قادراً على قضائها، قال الزجاج رحمه الله: (الصمد السيد الذي انتهى إليه السؤدد، فلا سيد فوقه)، وقيل: هو المستغني عن كل أحد، والمحتاج إليه كل أحد، وقيل: هو الذي لا جوف له؛ قال الشعبي رحمه الله: (هو الذي لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب).
قوله: (الذي لم يلد ولم يولد) أي: ليس له ولد ولا والد ولا صاحبة.
قوله: (كفواً) أي: مثلاً ونداً ونظيراً.
«(اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بأنَّ لَكَ الحَـمْدَ، لَا إلَهَ إلاَّ أنْتَ، وَحْدَكَ لا شَرِيْكَ لَكَ، الـمَنَّانُ، يَا بَدِيْعَ السَّمَـاواتِ والأرْضِ، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إنِّي أسْألُكَ الجَنَّةَ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ)»
صحابي الحديث هو أنس بن مالك
قوله: (المنان) أي: كثير العطاء، من المنة بمعنى النعمة، والمنة مذمومة من الخلق؛ لأنهم لا يملكون شيئاً، قال صاحب (الصحاح): (مَن عليه هنا؛ أي: أنعم، والمنان من أسماء الله تعالى).
قوله: (يا بديع السموات والأرض) أي: مبدعها ومخترعها لا على مثال سبق.
قوله: (يا ذا الجلال والإكرام) أي: صاحب العظمة والسلطان والإنعام والإحسان.
وجاء في نهاية الحديث؛ قوله: (لقد دعا الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعْطَى).
قال الطيبي ‘: (فيه دلالة على أن لله تعالى اسماً أعظم إذا دعي به أجاب).
قال الشوكاني ‘: (قد اختلف في تعيين الاسم الأعظم على نحو أربعين قولاً).
قال ابن حجر ‘: (وأرجحها من حيث السند: الله لا إله إلا هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد).
وقال الجزري ‘: (وعندي أن الاسم الأعظم: لا إله إلا هو الحي القيوم).
ورجح ذلك ابن القيم وغيره، والله أعلم.
«(اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بأَنِّي أشْهَدُ أنَّكَ أنْتَ اللهُ لا إلَهَ إلاَّ أنْتَ، الأحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَـمْ يَلِدْ وَلَـمْ يُوْلَدْ، ولَـمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحَدٌ)»
صحابي الحديث هو بريدة بن الحُصَيْب الأسلمي
- التصنيف:
- المصدر: