{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم }

منذ 2024-12-05

جاء هذا التنوير وهذا التحذير، يبصر الأمة المسلمة بحقيقة الأمر، ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين، الذين لا يخلصون لها أبدا، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة.

تعاني الدول الإسلامية كافة، ومؤسساتها في كل المجالات، وقطاعاتها وشركاتها من حالة عدم استقرار، وسوء سمعتها بين دول العالم؛ لذلك توصف بأنها ضمن العالم الثالث، بل إنها عالة على الدول الأخرى، فى معظم أمور حياتها، لذلك فهي تعيش حالة من الذل والهوان بين دول العالم.

 

كما أن هناك حالة تفكك وصراع بين أقطار العالم الإسلامي منذ زمن كبير. ولا يخفى على أحد تلك الحروب المدمرة التي تعيشها هذه الدول، وتلك الصراعات التي أنهكت كل مسلم في داخل أقطارهم، واختلاط الحابل بالنابل في عقول كل فرد، حتى أصبح الناس لا تعرف أين الصالح من الطالح. وكل هذا راجع في أصله للعطب والعفن داخل جسم الأمة الإسلامية.

 

فالمتأمل في واقع حياة المسلمين داخل أقطارهم في كل مجالات حياتهم: الاقتصادية، والتعليمية، والسياسية، والاجتماعية، يجد أن قيادة حياتهم ليست بأيديهم، ولا بإرادتهم، ولا يعرفون من أين تأتيهم التوجيهات، وكأنهم سكارى، وما هم بسكارى.. إنهم يعيشون في ظلمات التيه، لقد وضعوا أنفسهم بأنفسهم في هذه الظلمات في علاقتهم باليهود، والمؤسسات الصهيونية والماسونية التي تغلغلت في كل بقاع بلاد المسلمين وحياتهم ومؤسساتهم، وفقدوا الثقة بأنفسهم وقدراتهم، وسلموا زمام أمورهم لليهود وشركاتهم ومؤسساتهم، لقيادة حياتهم وكأن لا عقول لهم.

 

وهذا ما حذرهم منه ربهم في كتابه الكريم؛ قال تعالى:  {يَاأ َيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].

 

يجيء هذ التحذير للأمة المسلمة من أن تتخذ من أعدائها الطبيعيين بطانة، وأن تجعل منهم أمناء على أسرارها ومصالحها، ويجيء هذا التحذير في صورة شاملة خالدة، ما نزال نرى مصداقها في كل وقت، وفي كل أرض.. صورة رسمها القرآن، فغفل عنها أهل القرآن، فأصابهم من غفلتهم وما يزال يصيبهم الشر والأذى والمهانة... إنها صورة كاملة السمات لأعداء الإسلام، ناطقة بدخائل النفوس، وشواهد الملامح، تسجل المشاعر الباطنة، والانفعالات الظاهرة، والحركة الذاهبة الآيبة. وتسجل بذلك كله نموذجًا بشريًّا مكرورًا في كل زمان وفي كل مكان.

 

ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الأمة المسلمة من أعداء. يتظاهرون للمسلمين - في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم - بالمودة. فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة. وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة، وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال، ولا يقصرون في إعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم، والكيد لهم والدس، ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار.

 

فما يزال المسلمون مخدوعين في أعداء الله هؤلاء، وما يزال المسلمون يفضون إليهم بالمودة، وما يزال المسلمون يأمنوهم على أسرار الأمة المسلمة؛ ويتخذوا منهم بطانة وأصحابا وأصدقاء، لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار... لذلك جاء هذا التنوير وهذا التحذير، يبصر الأمة المسلمة بحقيقة الأمر، ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين، الذين لا يخلصون لها أبدا، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة. ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصورا على فترة تاريخية معينة، فهو حقيقة دائمة، تواجه واقعا دائما.. كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا الآن من حاضر مكشوف مشهود..

 

والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم: ألَّا يتخذوا بطانة من دونهم. بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة وألَّا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة.

 

المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعًا في كل أمر، وكل شأن، وكل موضع، وكل نظام، وكل تصور، وكل منهج، وكل طرييق!

 

والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم، يوادون من حاد الله ورسوله؛ ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم. والله سبحانه يقول للأمة المسلمة الأولى كما يقول للأمة المسلمة في أي جيل: {وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].

 

قال القرطبي- رحمه الله: قلت وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء.

 

وروى البخاري عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: « ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه. وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه، والمعصوم من عصمه الله».

 

انظر هذا البيان من الله لوصف هذه الحالة في علاقة المسلمين بأهل الكتاب من اليهود والصليبية العالمية؛ قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 119، 120].

 

ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة، ولكننا لا نفيق... ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر. ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله المسلمون، ولا تغلسها سماحة يعلمها لهم الدين. ومع ذلك نعود، فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق! وتبلغ بنا المجاملة، أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها، وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام، وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين! ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله. ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي. ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا، ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا...

 

فهل نعقل ما قاله لنا ربنا: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} ​​​​​​ [آل عمران: 118].

______________________________________________________
الكاتب: أ. د. فؤاد محمد موسى