قل فيهما إثم كبير

منذ يوم

فحرم الإسلام العدوان على العقل بخداعه أو بتضليله أو تغفيله أو بإفساده أو بتغييبه..


أخرج ابن ماجة رحمه الله من حديث أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «"مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدَغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "» ، « قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا رَدَغَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ"» [صحيح] . 

أيها الإخوة الكرام : 
قبل أسبوعين اثنين كان لنا حديث مستفيض عن نعمة العقل، وأنه أجل النعم،  وأنه زينة،  وأنه نور، وأن نعمة العقل هي أكبر المعاني قدرًا، وأعظم الحواس نفعًا، فبالعقل فقط يتميز الإنسان عن البهيمة، وبالعقل يعرف الإنسان الصواب من الخطأ ، وبالعقل المدعوم والمؤيد بالوحي السماوي يهتدي الإنسان إلى مصالحه، وبالعقل يتقي الإنسان ما يضره، والعقل شرط في ثبوت الولاية على النفس وعلى الغير ولا صحة لتصرف الإنسان في مال أو عقد إلا أن يكون عاقلاً رشيداً.. 

ولم يخاطب رب العالمين سبحانه وتعالى في رسالات الأنبياء إلا العقلاء من الناس.. 

من هنا كانت دعوة الإسلام قوية إلى ضرورة الحفاظ على العقل،  من حيث هو موجود،  ومن حيث هو يعمل،  ومن حيث هو يقظ وحاضر.. 

فحرم الإسلام العدوان على العقل بخداعه أو بتضليله أو تغفيله أو بإفساده أو بتغييبه.. 

فلا يحل لإنسان أن يفسد على إنسان آخر عقله بضرب أو أذى ولو فرضنا أن إنسانا ضرب إنساناً فأفسد عقله غرم هذا المعتدي دية كاملة لأن من أفسد عقل إنسان كأنما قتله،  ولذلك لما كتب النبي صلى الله عليه وسلّم كتاباً إلى عمرو بن حزام جاء فيه ( وفي العقل الدّية) قال ابن قدامة: ولا نعلم في هذا خلافاً بين الفقهاء.. 

قلت: وهذا ما فطنت إليه القوانين الوضعية في هذا العصر في العقوبة المقدرة لمن يتاجر في السموم البيضاء، ومن يتاجر في إفساد العقول،  ويتربح من خراب البيوت ويتاجر بالمخدرات، حيث قررت الحكومات حكم الإعدام بحق من تاجر بهذه السموم البيضاء فأفسد بها عقول الناس وبيوتهم بحكم الإعدام جزاء وفاقاً.. 

هذه السموم ماذا سماها القرآن الكريم؟ 
هذه السموم التي تفسد العقل وتذهبه وتغيبه وتدمر الإنسان إيمانياً وتدمره نفسياً وتقضي عليه عقلياً وصحياً وتجرده أخلاقياً، وتعود على بيته وأسرته بالخراب العاجل سماها النبي صلى الله عليه وسلّم باسم واسع يجمع كل أسماء هذه السموم وكل ألوانها وأنواعها سماها النبي صلى الله عليه وسلّم ( خمراً ) 
قَالَ النبي عليه الصلاة والسلام : «" كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"» (رواه مسلم). 

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ بَارِدَةٍ نُعَالِجُ فِيهَا عَمَلًا شَدِيدًا، وَإِنَّا نَتَّخِذُ شَرَابًا مِنْ هَذَا الْقَمْحِ نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا، فسأله النبي صلى الله عليه وسلّم فقَالَ: هَلْ يُسْكِرُ؟، قال: نَعَمْ، قَالَ: فَاجْتَنِبُوهُ"» (رواه أبو داود)

وعنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «" مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ"» (رواه أبو داود) 

وعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رضي الله عنها)، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «"كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، مَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ" » (رواه الترمذي) وفي رواية: «" الْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ"» .

هذه السموم التي تغتال العقل وتفسده وتذهبه وتغيبه وتدمر الإنسان نفسياً وعقلياً وصحياً ومالياً وتعود على بيته وأسرته بالخراب، وتفرض على والديه وزوجه وولده العذاب، هذه السموم سماها  القرآن الكريم باسم واسع يجمع كل ألوانها وأنواعها سماها القرآن الكريم ( خمراً ) وحذر من التعامل بها بيعاً أو شراءاً أو عصراً أو شرباً أو حملاً  أو سقياً أو نحو ذلك فقال:  {﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾}

كلمة الخمر لها معني ضيقاً،  ولها معني واسعاً  .. 
الخمر بمعناها الضيق هو ذلك العصير المعروف المتخمر خبيث الطعم والرائحة خبيث الأثر، لكن كلمة الخمر يتسع معناها بعد ذلك ليتسع فيشمل كل ما خامر العقل وغيبه وخدره فأفسده فما يعمل عمل الخمر سماه الله خمراً وإن سميناه باسم آخر. 
فعن أَبى مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: «"لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» " (رواه أبو داود) 

وهنا ينشأ سؤال يقول : 
ما علة تحريم الخمر؟ 
وما علة ما يعمل في العقول عمل الخمر من المخدرات والسموم؟ 
علة التحريم فيما أرى أنها إحدى أسباب ضياع الأمة، وضياع الشباب،  وذهاب قوتهم وطاقاتهم فيما يضرهم ولا ينفعهم.. 
ثم إن من علل التعاطي لهذه السموم: أنها تقطع العبد عن ربه حين تصده عن الصلاة وعن ذكر الله، وعن صحبة الصالحين،وعن مجالسة المتقين..

 ثم إنها تقطع الإنسان عن الناس فتوقع بينهم العداوة والبغضاء { ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾}

ثم إن من آثار التعاطي لهذه السموم العدوان الصارخ على العقل، وإذهاب مروءة الإنسان، والقضاء على كرامته، وإنفاق المال فيما يضر ولا ينفع، والسعي في القتل البطيئ للنفس،  والجرأة على قتل الغير، وغياب التمييز بين الحق والباطل، وإضاعة حق الوالدين، وهدم الأسر، وزنا المحارم،  وغيرها من المهلكات.. 

عَن عبد الله ابْنِ عُمَر أَنَّ أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَنَاسًا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جَلَسُوا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ فَذَكَرُوا أَعْظَمَ الكَبَائِرِ جُرماً ( ذكروا عقوق الوالدين- ذكروا أكل أموال اليتامى- ذكروا شهادة الزور- ذكروا أكل أموال الناس بالباطل- ذكروا السحر- وذكروا الزنا- وذكروا قذف المحصنات الغافلات المؤمنات...  وذكروا غيرها من كبائر الذنوب..  ) لكنهم لم يتفقوا أي هذه الكبائر أعظم جرماً.. 

قال عبد الله بن عمر فَأَرْسَلُونِي إلَى عَبدِ اللهِ بن عَمْرو أَسْأَلهُ، فَلما سالته أي الكبائر أعظم جرماً؟  قال: أَنَّ أَعْظَمَ الكَبَائِرِ جرماً شُرْبُ الخمْرِ  .. 

قال ابن عمر فرجعت فقلت يقول عبد الله بن عمرو إن أَعْظَمَ الكَبَائِرِ جرماً شُرْبُ الخمْرِ !! 
فَأخذوا ودهشوا وَوَثَبُوا إِلَيْهِ جمِيعًا حَتى أَتَوْهُ في دَارِهِ قالوا من أين لك أن تقول: 
إن أَعْظَمَ الكَبَائِرِ جرماً شُرْبُ الخمْرِ ؟! 

قال لأني سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: «إِنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَني إِسْرَائِيل أَخَذَ رَجُلاً فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَ الخمْرَ أَوْ يَقْتُلَ نَفْسًا أَوْ يَزْني أَوْ يَأْكُلَ لحْمَ خِنْزِير أَوْ يَقْتُلُوهُ، فَاخْتَارَ الخمْرَ فشربها..  قال: وَإِنَّهُ لمَّا شَرِبَ الخمْرَ لَمْ يمْتَنِعْ مِنْ شَيءٍ أَرَادُوهُ مِنْهُ، وَإِنَّ رَسَولَ اللهِ قَالَ لَنَا (حِينَئِذٍ) مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْرَبهَا فَتُقْبَلَ لَهُ صَلاَة أَرْبَعِينَ لَيْلَة وَلاَ يمُوت وَفي مَثَانَتِهِ مِنْهُ شَيء إِلاَّ حرَّمَتْ بهَا عَلَيهِ الجَنَّة فَإِنْ مَاتَ في أَرْبَعِينَ لَيْلَةٍ مَاتَ ميتَة جَاهِلِية» ،" (رَوَاهُ الطَّبَرَاني).

اليوم نتحدث عن الخمر وما يعمل عملها من السموم والمخدرات بلاغاً للناس،  واعتذاراً إلى الله تعالى، أننا قد تكلمنا وحذرنا وبلغنا وعلمنا وفهمنا وكل إنسان بعد ذلك فقيه نفسه.. 

قال الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ولكل من قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم  {( فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ . لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ )}

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير 

الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث عن حرمة الخمر وعن حرمة ما يعمل عملها من السموم والمخدرات بقي لنا أن نقول: 
إن من الخمر خمراً أحلها الله سبحانه وتعالى،  إن من الخمر خمراً يكافئ الله بها عباده.. 

يقال لهم: {﴿ كُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ هَنِيٓـًٔۢا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾}

إنها خمر الآخرة شراب من شراب الجنة وعصير من عصائر الجنة قال الله تعالى:  {﴿ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَآ أَنْهَٰرٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَٰرٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُۥ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّٰرِبِينَ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ ﴾}

خمر الجنة حلال لأنها لا تغتال العقل،  لأنها لا تفسده ولا تغيبه،  خمر الجنة لذيذة،  خمر الجنة لا تسبب الصداع،  خمر الجنة عصير تجري بها بعض من أنهار الجنة،  خمر الجنة عصير حلال لأنها من صنع الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنون..

قال الله تعالى {﴿ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُوا۟ ٱلْعَذَابِ ٱلْأَلِيمِ ﴾﴿ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ﴿ إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ ﴾﴿ أُو۟لَٰٓئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ﴾﴿ فَوَٰكِهُ ۖ وَهُم مُّكْرَمُونَ ﴾﴿ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍۭ ﴾ ﴿ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّٰرِبِينَ ﴾ ﴿ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾}

أهل الجنة في الجنة يأكلون ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوطون، ويجتمعون فلا يتفرقون،  أهل الجنة في الجنة ينعمون فلا يبأسون ويصحون ولا يمرضون ويشبون فلا يهرمون.. 

{﴿ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ ۚ كُلُّ ٱمْرِئٍۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾﴿ وَأَمْدَدْنَٰهُم بِفَٰكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾﴿ يَتَنَٰزَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ﴾}

نسأل الله العظيم أن يجعلنا جميعاً من أهل الجنة.  اللهم آمين.

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.