أحكام شهر شعبان

منذ يوم

إن هذا الشهر شهر شعبان سُمِّي بذلك لأن العرب كانوا يتشعبون فيه؛ أي: يتفرقون لطلب المياه، وقيل: لتشعبهم في غارات الحرب بعد خروجهم من شهر رجب الحرام، وقيل: لأنه شهر شعب؛ أي: ظهر بين شهري رجب ورمضان.

الحمد لله، الحمد لله الآمر بالتوحيد، الناهي عن اتخاذ الشريك والنديد، المتنزه عن الشبيه والمثيل، المتفرد بصفات الجلال والكمال بلا تكييف ولا تعطيل، سبحانه هو الأول فليس قبله شيء والآخر فليس بعده شيء، وسِع كرسيُّه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم، خلق فسوى وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وصلاةً وسلامًا على من كان لهذه الأمة ضياءً، ولأبصارها بإذن الله جِلاءً، ولأدوائها دواءً؛ نبيُّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمير الزمان، بديع الأنام، وبدر السماء، أحبَّك ربي فصلى عليك، عليك الصلاة وأزكى السلام؛ أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي خير زاد: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، وهي خير لباس: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].

إن المؤمن لَيتقلب في هذا الزمان، ويمُد الله له في أجله، وكل يوم في هذه الدنيا هو غنيمة له يتزود منه لآخرته: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].

 

عباد الله، إن هذا الشهر شهر شعبان سُمِّي بذلك لأن العرب كانوا يتشعبون فيه؛ أي: يتفرقون لطلب المياه، وقيل: لتشعبهم في غارات الحرب بعد خروجهم من شهر رجب الحرام، وقيل: لأنه شهر شعب؛ أي: ظهر بين شهري رجب ورمضان.

 

أما فضله وما يُستحب فيه فعله؛ فقد جاء عند أحمد وغيره، وصححه ابن خزيمة، وحسَّنه الألباني، عن أسامة بن زيد قال: ((قلت: يا رسول الله، لم أرَك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: «ذلك شهر يغفُل الناس عنه، بين رجبٍ ورمضانَ، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحب أن يُرفع عملي وأنا صائم».

 

والأجور المترتبة على الاشتغال بالطاعات وقت غفلة الناس كثيرة ومتنوعة، فتعرَّضوا لنفحات الله أيها الأحبة، وتلمَّسوا مرضاته.

 

ثم اعلم - أيها المؤمن - أن إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فيه فوائد:

1- إن فعلك لهذه الطاعة يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام؛ فإنه سرٌّ بين العبد وربه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء، وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان، فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما في سوقه، ويظن أهل سوقه أنه أكلها في بيته.

 

2- الفائدة الثانية في إحياء وقت غفلة الناس بالطاعات أنه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس إن كان على السُّنة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة رضي الله عنها: «إن لكِ من الأجر على قدر نصَبكِ ونفقتكِ»؛ (أخرجه الحاكم، وصححه الألباني).

 

ومِن الناس مَن غلا في النصف من هذا الشهر بتخصيص نهارها بصيام وليلها بقيام وعبادة، وما ورد في ذلك كما يقول أهل العلم إما ضعيف، وإما موضوع مختلَق لا يثبُت عن النبي صلوات ربي وسلامه عليه.

 

ومن غلوِّهم أيضًا صلاتهم مائة ركعة في كل ركعة يقرؤون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إحدى عشرة مرةً، وزعموا أنها تقضي حوائج الناس، والحديث موضوع كما يقول أهل العلم.

 

فقد غلا فريق من الناس وجعلوا فيها من المزايا والقُرُبات والطاعات ما لم يأذن به الله عز وجل.

 

وفريق آخر لما رأى ما لم يثبت فيها، وذلك الجفاء، جعلها ليلة كغيرها من الليالي، وجعلها ليلة لا مزية فيها.

 

والصواب - معاشر المؤمنين - أن ليلة النصف من شعبان ثبت في فضلها حديثان صحيحان ثابتان إلى المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه.

 

أما الأول: فحديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أخرجه الطبراني وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان ليلة النصف من شعبان اطَّلع الله إلى جميع خلقه، فيغفر للمؤمنين، ويُملي للكافرين، ويَدَع أهل الحقد بحقدهم حتى يدَعوه»؛ (حسنه الألباني).

 

وأما الحديث الثاني: فهو حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهو عند ابن حبان في صحيحه، والطبراني والبيهقي؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مُشاحِن»؛ (حسنه الألباني).

 

فهذان الحديثان الثابتان - معاشر المؤمنين - بيَّن فيهما المصطفى صلى الله عليه وسلم أن ليلة النصف من شعبان يغفر الله عز وجل للمؤمنين، ويطلع عليهم إلا المشرك أو المشاحن، فمن أراد أن يفوز بهذا الأجر العظيم وهذا الفضل العظيم، فما عليه إلا أن يحقِّق هذين الشرطين، لستَ مطالَبًا - أيها العبد المؤمن - بقيام ولا صيام فضلًا عن عمرة أو عبادة ونحو ذلك، كل ما أنت مطالب به أن تحقِّق التوحيد، وأن تنقِّي قلبك من الشرك وشوائبه، وتتعاهد ذلك باستمرار، وبعض الناس - معاشر المؤمنين - إذا ذُكِرَ الشرك يشمئز ويعتقد أنه متهم، والبعض الآخر إذا ذُكر الشرك عندهم ظن نفسه بمأمن منه، وعنه.

 

والشرك - أيها المؤمنون - ينبغي على العبد أن يخافه ويحذره، كيف لا؟ وقد أوحى الله إلى كل نبي وإلى كل رسول حُكمه في هذا الأمر المنكر العظيم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، فإذا كان الخطاب موجَّهًا لإمام الأنبياء والمرسلين ولسيد الموحِّدين، صلوات ربي وسلامه عليه، فكيف لا يخاف الشرك مَن دونه من المؤمنين؟

 

قال إبراهيم التيمي رحمه الله: "من يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به، وبما يخلِّصه منه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أخوفُ ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسُئل عنه؟ فقال: الرياء»؛ (أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه، وصححه الألباني)، ومن عظيم فقه الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب في كتابه (التوحيد) أنْ جَعَلَ بابًا بعنوان: "باب الخوف من الشرك"، ثم ساق الآيات والأحاديث في هذا المعنى.

 

فإياكم والإشراكَ بالله، لنتفقَّد أنفسنا؛ فلعل الواحد منا مُبتلًى بشيء من هذه الشركيات وهو لا يدري، فالمشرك هو الذي عبد غير الله تعالى بأي نوع من أنواع العبادة؛ من دعاء أو نذر أو ذبح، أو نحو ذلك من العبادات، فمن فعل ذلك فقد أشرك واستحق العقوبة؛ وهي عدم المغفرة والخلود في النار؛ قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116].

 

وأما الشحناء وما أدراكم ما الشحناء؟ شرها عظيم، ووبالها يعُم ولا يخص، ألم يخرج نبينا صلوات الله وسلامه عليه ذات يومٍ بخبرِ ليلة القدر، فتلاحى رجلان فرُفع خبرها ونبأها؟ رُفعت تلك البركة عن الأمة إلى قيام الساعة بسبب ملاحاة رجلين وخصومة اثنين من الصحابة، فما ظنكم بما يقع في أيامنا هذه من خصومات ومشاحنات؟ سواء أكانت ماليةً، أو عند صلة الأرحام، أو عند الأراضي، أو عند إثبات نسب أو دفعه، لا أقول: مشاحنات بين المسلمين، بل بين الأشقاء، بل بين الابن وأبيه، والرجل وأمه، مشاحنات ومرافعات وقضايا، فمن لها غير الله؟

 

أين هؤلاء جميعًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم الثابت عنه صلى الله عليه وسلم: «تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيُقال: أنْظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا».

 

أيها المؤمنون:

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلُّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته؛ الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته قال: وحسبت أن قد قال:  والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته»؛ (متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما).

 

فمن للأبناء إذا وقع النزاع بين الأشقاء؟ وقد قيل: وينشأ ناشئ الفتيان فينا  على ما كان قد عوَّده أبوه، فمتى يُسفر الصباح وتنجلي الغمة عن هذه القرية حتى نراها كاليد الواحدة؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»؛ (أخرجه مسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما).

 

وقد وصف الله المؤمنين عمومًا بأنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]؛ قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة، وبهذه الخِصال بلغ مَن بلغ، وسيد القوم من يصفح ويعفو، فأقِل - يا عبدالله - حتى تُقال.

 

 

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدَّموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجلًا كان يصوم صومًا فلْيَصُمْهُ»؛ (متفق عليه).

 

الحكمة من الحديث بعدم تقدم صوم يوم أو يومين قبل رمضان:

1- تمييز العبادات عن العادات.

2- النشاط والاستعداد للواجب.

 


ويقول ابن حجر رحمه الله: أن الحكمة هي أن حكم الصيام معلَّق برؤية الهلال، فمن تقدم بيوم أو يومين، فقد حاول الطعن في ذلك الحكم، ولعل من الحكمة كراهة التنطُّع في الدين وتجاوز الحدود التي فرضها الله تعالى.

 

• وأما حديث: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا»؛ (رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه والدارمي، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني)، فقد اعتمد عليه الشافعية، لكن الجمهور ضعَّفوا هذا الحديث، واستدلوا على استحباب صوم شعبان بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

قال الشيخ تقي الدين: "لا يُكره صوم العشر الأخير من شعبان عند أكثر العلماء".

 

أما الرخصة في الصوم قبل رمضان، فهي:

1- كأن صادف يوم الخميس أو الاثنين.

2- أو صادف عادةً عنده.

3- أو ضاق عليه وقت قضاء من صيام سابق.

 

ألَا وصلوا - عباد الله - على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم إنا نسألك القصد في الفقر والغِنى، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم ارحم موتانا واشفِ مرضانا، وتولَّ أمرنا، واهدِ شبابنا، اللهم إنا نسألك الهدى والتُّقى، والعَفاف والغِنى، اللهم أحيِنا على التوحيد وأمِتنا عليه، اللهم ارزقنا تحقيقه، وسلِّمنا يا إلهنا وخالقنا من كبار الشرك وصغاره، دقيقه وجليله، وظاهره وخفيه، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتوفَّنا وأنت راضٍ عنا غير ضالين ولا مُضلين، وارزقنا الصدق والإخلاص، وأعِذْنا من الرياء والسمعة والعُجب وسائر محبطات الأعمال.

 

عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدْكم، واستغفروه يغفر لكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].

_____________________________________________
الكاتب: د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي