التعامل مع الأقليات في المجتمعات الإسلامية: منظور فقهي

منذ يوم

فِقْهُ التعامل مع الأقليَّات في الإسلام يعكس عُمْقَ الشريعة وتوازنَها؛ حيث يضمن للأقليَّات حقوقهم، وفي الوقت ذاته يضمن وحدة المجتمع وسلامته؛ تَبرُز هذه الأحكام جزءًا من رحمة الإسلام وشُمُوله لجميع الناس

مقدمة:

تُمَثِّل الشريعةُ الإسلاميَّة نهجًا جامعًا للعلاقة بينَ الأغلبيَّةِ والأقليَّاتِ في المجتمع، مِن مُنطلَق العدل والمساواة وحفظ حقوق الإنسان؛ تسعى الشريعة إلى خلق مجتمع يُحَقِّق التعايشَ السلميَّ، ويَكفُل للأقليَّات حقوقَهمُ الدينيَّة والاجتماعيَّة، مع الحفاظ على هُوِيَّة المجتمع الإسلامي وعقيدته.

 

يَبرُز هذا التعامل مِن خلال تشريعاتِ الإسلام ومبادئه التي تدعو للرحمة والعدل والإحسان؛ كما قال الله تعالى: ﴿  {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}  ﴾ [النحل: 90].

 

مفهومُ الأقليَّاتِ في الشريعةِ الإسلاميَّة:

الأقليَّات هم جماعاتٌ غيرُ مسلمةٍ تعيش في كَنَف المجتمع الإسلامي، وقد كَفَل الإسلام لهم حقوقًا تضمن لهم العيشَ بأمانٍ وسلامٍ ضِمْن المجتمع، ومِن أبرز هذه الأقليَّات "أهل الذمة"، وهُمُ اليهودُ والنصارى الذين تعاقدوا مع الدولةِ الإسلاميَّة؛ حيثُ منحَهُمُ الإسلامُ الأمانَ على أنفسِهم وأموالِهم ودينِهم لِقَاءَ التزامهم بدفع الجِزيَة، وَفقَ ما يحقق مصلحة المجتمع ويضمن حقوق الجميع.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّة» ))؛ [ (رواه البخاري) ]، وهو تحذيرٌ شديدٌ ضِدَّ انتهاكِ حقوقِ الأقليَّات المُعاهَدة.

 

أُسُسُ تَعَامُلِ الإسلامِ مع الأقليَّات:

1- العدل والمساواة:

• الإسلام يدعو لتحقيق العدل والمساواة في التعامل مع الجميع دونَ اعتبارٍ للدين أو العِرق؛ كما قال تعالى: ﴿  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}  ﴾ [المائدة: 8].

 

• العدل في الإسلام قيمة أساسيَّة تنطبق على جميع أفراد المجتمع الإسلامي، ومن ذلك مَنْحُ الأقليَّاتِ حقوقَهم المشروعة.

 

2- حرية العبادة:

• الإسلامُ يَضمَن حريَّةَ العبادةِ للأقليَّات، وقد كَفَل لهم ممارسةَ شعائرِهم الدينيَّة دونَ مضايقة؛ استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿  {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}  ﴾ [البقرة: 256].

 

• هذا المبدأ يَظهَر بوضوح في العهد الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لأهلِ نَجْرَانَ؛ حيثُ أعطاهمُ الأمانَ على دينِهم وعباداتِهم.

 

3- حفظ الأنفس والأموال:

• أَمَر الإسلام بحفظ النفس، واعتبر قَتْلَ النفسِ مِن الكبائرِ، بغضِّ النظر عن الدين؛ قال الله تعالى: ﴿  {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}  ﴾ [المائدة: 32].

 

• كما أقرَّ الإسلام للأقليَّات بحمايَة أموالهم وممتلكاتِهم، وشدَّدَ على تجريم أيِّ اعتداءٍ عليها.

 

حقوق الأقليَّات في المجتمع الإسلاميِّ:

1- حق الحماية والأمان:

• الإسلام يمنح الأقليَّاتِ حقَّ الحمايَة والأمان داخل المجتمع الإسلامي، ومن أبرز الأدلَّة على ذلك المعاهداتُ التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين في المدينة.

 

• هذا الحق يجعل المجتمع الإسلاميَّ مُلزَمًا بحمايتِهم كما يحمي أفرادَه المسلمين.

 

2- الحقوق الاجتماعيَّة:

• أوجب الإسلام أنْ يكونَ لأهل الذِّمَّة مكانةٌ في المجتمع، وأجاز لهم ممارسةَ أنشطتِهم الاجتماعيَّة؛ فقد شارك النبيُّ صلى الله عليه وسلم أهلَ الكتابِ في بعض مناسباتهم؛ مثل: زيارته للمريض اليهودي.

 

• إضافةً إلى ذلك، أَمَر الإسلام بعدم الإساءة إلى مشاعر الأقليَّات؛ إذ قال تعالى: ﴿  {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}  ﴾ [الأنعام: 108].

 

3- حق التعليم والتجارة:

• كَفَل الإسلام للأقليَّات حريَّة التجارة والتعليم ضمن إطار الشريعة الإسلاميَّة، وقد كان أهل الكتاب يمارسون التجارة والتعليم في المجتمع الإسلاميِّ دونَ قيودٍ تمييزيَّة.

 

• أسهم هذا الحق في تحقيق الاندماج والتكافل بين أفراد المجتمع، بغض النظر عن الدين.

 

من تطبيقات الشريعة الإسلامية في التعامل مع الأقليات:

1- الدولة الإسلاميَّة زمنَ الخلفاء الراشدين:

• استمرَّ الخلفاء الراشدون في اتباع سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأقليَّات؛ حيث أُبقيتْ لهم حقوقهم، كما في عهد الخليفة عمر بن الخطاب الذي كتب لأهل إيلياءَ (القدس) عهدًا بالأمان على أنفسِهم وأموالِهم وكنائسِهم.

 

2- الأقليَّات في الحضارة الإسلاميَّة:

• على مَرِّ العصور الإسلاميَّة، عاشتِ الأقليَّاتُ الدينيَّة في سلامٍ داخلَ المجتمع الإسلاميِّ، وأسهموا في مجالات عديدة، مثل: العلوم والفنون.

 

• كانت بعضُ الأزمات تَحدُث أحيانًا لظروفٍ سياسيَّةٍ، إلا أنَّ التعامل الفقهيَّ الثابت كان يحفظ لهم حقوقَهم.

 

3- التعامل مع أهل الذمة وفق المذهب الفقهي:

• تنوعتِ اجتهاداتُ الفقهاءِ حولَ بعض التفاصيل المتعلقة بحقوق وواجبات أهل الذِّمَّة، بَيدَ أنَّهم أجمعوا على ضرورة التعايش السلميِّ والحفاظ على حقوقهم، كما أشار الإمام الشافعيُّ وابنُ حزمٍ وابنُ القيمِ إلى أنَّ الشريعةَ تُحَرِّم الظلم، وتُوجِب الالتزامَ بالعهود.

 

أقوال العلماء حول حقوق الأقليات:

• الإمام ابنُ تيميةَ: "يجب على المسلمين أنْ يعاملوا أهلَ الذِّمَّة بالرفق والعدل، كما هو واجب مع كُلِّ مسلمٍ".

 

• الإمام القرطبيُّ: في تفسيره، أوضح أنَّ آية: ﴿  {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}  ﴾ [البقرة: 256]؛ تعني: تركَ غيرِ المسلمين على معتقداتهم، مع ضمان حريَّة ممارسة شعائرهم.

 

أهمية مراعاة حقوق الأقليات في الإسلام:

• يُسهِم التعاملُ السليم مع الأقليَّات في تحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعيِّ، ويمنح الإسلامَ صورةً إيجابيَّة عن تعاليمه القائمة على العدل والإحسان.

 

• يؤكِّد الإسلام على أنَّ حفظَ حقوق الأقليَّات هو جزءٌ من رسالة الشريعة التي تدعو إلى التعايش بينَ الناس، وهذا يظهر من خلال مواقفِ النبي صلى الله عليه وسلم وخُلفائه في العدل مع الأقليَّات.

 

خاتمة:

فِقْهُ التعامل مع الأقليَّات في الإسلام يعكس عُمْقَ الشريعة وتوازنَها؛ حيث يضمن للأقليَّات حقوقهم، وفي الوقت ذاته يضمن وحدة المجتمع وسلامته؛ تَبرُز هذه الأحكام جزءًا من رحمة الإسلام وشُمُوله لجميع الناس، وتؤكِّد على أنَّ الشريعة الإسلاميَّة قابلة للتطبيق في جميع الأزمان لما تتسم به من عدالة وإنصاف.

 

المصادر:

1- القرآن الكريم.

2- صحيح البخاري.

3- صحيح مسلم.

4- تفسير القرطبي، القرطبي.

5- إعلام الموقعين، ابن القيم.

________________________________________________________
الكاتبك الشيخ حذيفة بن حسين القحطاني