الله مولانا ولا مولى لكم

منذ 2012-02-22


الخطبة الأولى: أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، قال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100].

أيها المسلمون:
لما كان يوم أحدٍ أشرف أبو سفيان على المسلمين فقال: "أفي القوم محمدٌ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه» ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ـثلاثًاـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه» ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه » فالتفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، لو كانوا أحياءً لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك، فقال: اعل هبلٌ! اعل هبلٌ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» فقالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل» فقال أبو سفيان: ألا لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»" (رواه ابن حبان وصححه الألباني). وفي روايةٍ لابن إسحاق وصححها الألباني أن عمر رضي الله عنه قال لأبي سفيان: "لا سواءٌ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار".

عباد الله:
إن عالم الكفر والإلحاد اليوم، الذي انتفش وما زال يتبختر بعد أن أوقع بالمسلمين في عددٍ من بلادهم في عقودٍ مضت، إنه بما بلغه من تقدمٍ مادي وعلو دنيوي، وبما وصل إليه من تفوقٍ عسكري في هذه الفترة العصيبة، يظن أنه قد قضى على كل غيرةٍ وعزةٍ وحميةٍ في المسلمين، وأن الجو قد خلا له ليئد ما تبقى في قلوبهم ويغير دينهم ويسقط قيمهم ويفسد أخلاقهم، لكن المؤمنين الذين ينظرون بنور الله وهم منه على ثقةٍ، ينظرون للأمور بمنظار مختلفٍ، ويزنونها بميزانٍ مغايرٍ، إذ يعلمون علم يقينٍ لا مرية فيه أن نهاية الظلم مؤكدةٌ، وأن هلاك الظالمين حاصلٌ لا شك فيه، وأن نصر الله لأوليائه كائنٌ لا محالة، وأن جزاء المجاهدين في سبيله محفوظٌ لديه، ولكنها حكمٌ إلهيةٌ بالغةٌ، وأقدارٌ ربانيةٌ محكمةٌ، وسننٌ كونيةٌ جاريةٌ، لا تتغير ولا تتبدل.

ولو كانت الدنيا هي النهاية وخاتمة الأمر، لكان ما وقع ويقع للمسلمين من اضطهادٍ من الأعداء واستضعافٍ غايةً في تخلي الله عن أوليائه، ولكنها ابتلاءاتٌ لما في الصدور واختبارٌ للإيمانٍ، وتمحيصٌ لما في القلوب وتمييزٌ للخبيث من الطيب، ليتمحض للجنة عبادٌ محضوا الله قلوبهم، وليتخلص من أوضار الدنيا قومٌ أخلصوا له في قصدهم، وليصطفى للشهادة رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وليبرز للعار والنار وبئس القرار قومٌ علم الله منهم سوء النية وخبث الطوية، فأراد العزيز الحكيم لهم أن يخرجوا كل أضغانهم ويمسكوا جميع إحسانهم، وأن يفتضحوا حتى لا يلتبس على أحدٍ أمرهم، وحتى لا يشك في عداوتهم وفساد ما هم عليه.

عباد الله:
قبل ثلاثين عامًا، وفي أرض الشام، وتحديدًا في مدينة حماةٍ في سورية، عانى المسلمون الأمرين على يد الجيش النصيري الظالم الغاشم، وقتل في تلك المدينة وحدها أكثر من ثلاثين ألفًا من أهل السنة، لم يعلم بهم آنذاك إلا قليلٌ من المطلعين والمهتمين بأمر إخوانهم المسلمين، لم يدع لهم حينها في قنوتٍ، ولم يترحم عليهم على منبرٍ، ولم يدع لنصرهم إلا قليلٌ من الغيورين بأصواتٍ ضعيفةٍ خافتةٍ، لم تكن لتسمع أو تؤثر، وأما أكثر الأمة على مستوى حكوماتها وشعوبها، فقد كانوا في ذلك الوقت في سباتٍ عميقٍ، تغيب عنهم الحقائق وتطمس، ويحال بينهم وبين ما يجري، وأما اليوم فإنه لما حاول الابن الظالم أن يعيد سيرة والده الغاشم في تلك البلاد، أبى الله تعالى إلا أن يفضحهما جميعًا، وأن يبين خزي السابق بجرم اللاحق.

فتناقل المسلمون في مختلف بلادهم وعبر هذه الوسائل التي فتحها الله، تناقلوا ما جرى ويجري لإخوانهم، وشاهد العالم كله ألوانًا من الظلم والطغيان الرافضي النصيري المجرم، الذي لم يرحم شيخًا لكبر سنه، ولا عجوزًا لضعفها، ولا شابا أعزل معرضًا، ولا بكرًا غير ذات قوةٍ ولا أطفالاً برآء.. نعم، لقد شاهد العالم حقدًا دفينًا تفجرت نيرانه وفار بركانه يمنةً ويسرةً في مدن أهل السنة وأحيائهم، فقتل الناس وعذبوا، ومثل بهم وأهينوا، وحيل بين الأحياء وبين جثث موتاهم، وقصفت المساجد ومزقت المصاحف، وضيق على الناس حتى لم يجدوا لقمةً ولم يهتنوا بشربةٍ، والأدهى من ذلك والأمر أن ترى أمم العالم هذا الظلم البشع وتشهد تلك الإبادة المقصودة، فتصر على أن تصوت ضد المسلمين المستضعفين في مجلس أممها، وتسمح لدولٍ وأحزابٍ باطنيةٍ كإيران وحزب الشيطان في لبنان، أن يفرغوا شيئًا من حقدهم في صدور أهل السنة وظهورهم في البلاد السورية.

ثم تحول في المقابل بين إخوانهم من أهل السنة أن يتدخلوا لنصرهم، في تحد سافرٍ لشعورهم، وتعمدٍ للإضرار بهم، وإصرارٍ على إعانة الظالم على ظلمه، ليظهر للمسلمين أن الأعداء وإن أظهروا حب السلام أو تظاهروا به أو ادعوا حمايته، فهم في الكفر ملةٌ واحدةٌ، لا يرقبون في مؤمنٍ إلا ولا ذمةً، ولا يريدون أن تقوم للإسلام النقي قائمةٌ، بل هم في حرب المتمسكين به ساعون، وعلى ذلك متظاهرون، ولا يهمهم بعد ذلك لو أزهقت أرواح شعبٍ بأكمله، أو أضيعت فيه الحقوق كلها ومنع من أيسر حقوق الإنسان.

ألا فلنتق الله أمة الإسلام، ولنرجع إلى الله رجوع الصادقين، ولنتمسك بما نحن عليه، ولنحذر مما يراد بنا من انسلاخٍ من ديننا وتخل عن قيمنا، ولننصر الله بتحكيم شرعه لينصرنا، فقد قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. وقال تعالى: {..وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41].

الخطبة الثانية: أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوا أمره ولا تعصوه، واشكروه ولا تكفروه، واعلموا أنه مهما انتفش العدو الكافر أو تبختر، ومهما أبرز أعوانه من المنافقين والباطنيين ريشهم ومدوا أجنحتهم، فإن في الأمة من باعوا الأرواح لله وصدقوه ما عاهدوه عليه، وهم ماضون في الجهاد في سبيله بألسنتهم وأموالهم وأنفسهم، ومهما انخذل أي مجتمعٍ من مجتمعات المسلمين أو انشغل بشهواته أو عبثت به الأهواء، فإن البديل موجودٌ إلى قيام الساعة، وما زال في الأمة هنا وهناك خيرٌ، ونحن نرى المسلمين ـولله الحمدـ على مختلف مستوياتهم يساهمون في نصرة إخوانهم، بالتصريحات التي تشفي الصدور من بعض أولياء الأمور، وبالقنوت في الصلوات، وبالدعاء واللجوء إلى الله في الخلوات والجلوات، وبالتبرع لهم بالمال، وبمقاطعة مصنوعات الدول المعادية، (كالصين والروس وإيران) وكل تلك أنواعٌ من نصرة المسلمين لإخوانهم.

فعسى الله أن يبارك في الجهود وإن قلت، وقد قال سبحانه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].

وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (رواه مسلمٌ). وأما الذين كفروا، فإنما يملى لهم والنار مثوًى لهم {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ . لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 36، 37].
وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.


عبد الله بن محمد البصري