الذب عن عرض المسلم بالغيب

منذ 18 ساعة

قالﷺ: «من ذب عن لحم أخيه بالغيبة، كان حقًّا على الله أن يعتقه من النار»، فمن الضمانات الإيمانية الأخلاقية التي تَنبُع من بحر المحبة والترابط أن يدافع المسلم عن عرض أخيه بالغيب

اعلَم - زادك الله علمًا - أن من الضمانات الإيمانية الأخلاقية التي تَنبُع من بحر المحبة والترابط أن يدافع المسلم عن عرض أخيه بالغيب، فمن فعَل ذلك نال شهادة ضمان سارية المفعول يدخل بها الجنة إن شاء الله تعالى؛ عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ذب عن لحم أخيه بالغيبة، كان حقًّا على الله أن يعتقه من النار» [1].

 

(من ذبَّ)؛ أي من دفَع (عن عرض أخيه)، زاد في رواية لمسلم (بالغيبة) قال الطيبي: هو كناية عن الغيبة، كأنه قيل: من ذبَّ عن غيبة أخيه في غيبته، وعلى هذا فقوله: بالغيبة ظرف، ويجوز كونه حالًا، (كان حقًّا على الله أن يقيَه)، وفي رواية أن يعتقه (من النار)، زاد في رواية: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، قال الطيبي: هو استشهاد لقوله: (كان حقًّا...)، وفيه أن المستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، فإن قدِر على القيام أو قطع الكلام لزِمه، وإن قال بلسانه اسكت وهو مُشتهٍ ذلك بقلبه، فذلك نفاق؛ قال أبو حامد الغزالي: ولا يكفي أن يشير باليد أن اسكُت أو بحاجبه أو رأسه، وغير ذلك، فإنه احتقار للمذكور بل ينبغي الذب عنه صريحًا كما دلت عليه الأخبار[2].

 

عن أبي الدرداء: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مَن رد عن عرض أخيه ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة[3]؛ يقول المناوي - رحمه الله -: (من رد عن عرض أخيه) في الدِّين؛ أي رد على مَن اغتابه وشان مَن أذاه وعابَه، (رد الله عن وجهه)؛ أي ذانه وخصَّه؛ لأن تعذيبه أنكى في الإيلام، وأشد في الهوان، (النار يوم القيامة) جزاءً بما فعل؛ وذلك لأن عرض المؤمن كدمِه، فمن هتك عرضه فكأنه سفك دمَه، ومن عمِل على صون عرضه، فكأنه صان دمه، فيُجازى على ذلك بصونه عن النار يوم القيامة إن كان ممن استحق دخولها، وإلا كان زيادة رفعة في درجاته في الآخرة في الجنة، والعموم المستفاد من كلمة من مخصوص بغير كافر وغير فاسق متجاهرٍ كما مرَّ، وزاد الطبراني في روايته: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47][4].

 

• وها هو الإمام الحافظ المقرئ أبو الحسين الحجَّاجي محمد بن محمد يقول عنه الحاكم: "كان أبو الحسين الحجاجي من الصالحين المجتهدين بالعبادة، صحبته نيفًا وعشرين سنة بالليل والنهار، فما أعلم أن المَلَك كتب عليه خطيئة"[5].

 

• وقال خارجة بن مصعب: "صحِبت عبدالله بن عون أربعًا وعشرين سنة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطية"[6].

 

• وعن يحيى القطان قال: "ما ساد ابن عون الناس أن كان أترَكَهم للدنيا، ولكن إنما ساد ابن عون الناس بحفظ لسانه"[7].

 

• وقال خُصيف وعبدالكريم بن مالك: "أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس"[8].

 

• وكان وهب بن الورد رحمه الله يقول: "والله لَترك الغِيبة عندي أحب إليَّ من التَّصدُّق بجبل من ذهبٍ"[9].

 

• وقال أيضًا رحمه الله: "لأن أدع الغِيبة أحبُّ إليَّ من أن يكون لي الدنيا منذ خُلقَتْ إلى أن تفنى، فأجعلها في سبيل الله تعالى، ولأن أغضَّ بصري عمَّا حرَّم الله تعالى أحبُّ إليَّ من أن تكون لي الدنيا وما فيها، فأجعلها في سبيل الله، ثم تلا قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، وتلا قوله تعالى: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ [النور: 30]".

 

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: (إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا زَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا، وَفَقَّهَهُ فِي الدِّينِ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَهُ، قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ الْفُضَيْلُ إِلَيْنَا، فَقَالَ: رُبَّمَا قَالَ الرَّجُلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ؛ فَأَخْشَى عَلَيْهِ النَّارَ، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟! قَالَ: يُغْتَابُ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ، فَيُعْجِبُهُ، فَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهَا؛ إِنَّمَا هَذَا مَوْضِعُ أَنْ يَنْصَحَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ)[10].

 

- وعن محمد بن سيرين أنه قال: (إن أكثر الناس خطايا أكثرهم ذكرًا لخطايا الناس) [11].

 

- وعن الشعبي - رحمه الله - أن العبَّاس بن عبد المطلب قال لابنه عبد الله: يا بنيَّ، أرى أمير المؤمنين يُدنيك، فاحفَظ مني خصالًا ثلاثًا: لا تغتَب من له سرٌّ، ولا يسمعنَّ منك كذبًا، ولا تغتابنَّ عنده أحدًا) [12].

 

- ومرَّ ابن سِيرين بقوم، فقام إليه رجل منهم، فقال: أبا بكر، إنَّا قد نِلْنا منك فحَلِّلنا؟ فقال: (إني لا أحل لك ما حَرَّم الله عليك، فأمَّا ما كان إليَّ فهو لكم) [13].

 

- وقال الحسن: (لا غيبة لثلاثة: فاسق مجاهر بالفسق، وذي بدعة، وإمام جائر).

 

- وعن يعلى بن عبيد قال: (كنا عند سفيان بن سعيد الثوري، فأتانا رجل يقال له: أبو عبد الله السلال، فقال لسفيان: يا أبا عبد الله، الحديث الذي رُوي أن الله تبارك وتعالى يَبغَض أهل بيت اللحميين أهم الذين يكثرون أكل اللحم؟ فقال سفيان: لا ولكنهم الذين يكثرون أكل لحوم الناس) [14].

 

- وقال بعض الحكماء: (عاب رجلٌ رجلًا عند بعض أهل العلم، فقال له: قد استدللت على كثرة عيوبك بما تُكثر من عيب الناس؛ لأن الطالب للعيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها) [15].

 

- وقال الأصمعي: (اغتاب رجلٌ رجلًا عند قتيبة بن مسلم، فقال له قتيبة: أمسك أيها الرجل، فوالله لقد تلمَّظت بِمُضغةٍ طالَما لفَظها الكرامُ) [16].

 


[1] أخرجه أحمد ح 27650، والطيالسي 1632، والطبراني في الكبير ح 442، وابن أبي شيبة ح 25539، والبيهقي في الشعب 7643، وقال الشيخ الألباني: (صحيح)؛ انظر حديث رقم: 6240 في صحيح الجامع.

[2] فيض القدير [ جزء 6 - صفحة 127].

[3] أخرجه أحمد ح 27576، والترمذي ح 1931، وقال الألباني: (صحيح)؛ انظر: حديث رقم : 6262 في صحيح الجامع.

[4] فيض القدير، [جزء 6 - صفحة 135].

[5] (السير: 16/ 241).

[6] (الحلية: 3/ 37).

[7] (الحلية: 3/ 37).

[8] (الإحياء: 3/ 152).

[9] (التوبيخ والتنبيه: رقم 169).

[10] (المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (6/ 86).

[11] ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (6/ 86).

[12] مكارم الأخلاق للخرائطي برقم (2/ 207).

[13] ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (3/ 54).

[14] ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (4/ 24-25).

[15] ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (3/ 54).

[16] ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (5/ 305).

_____________________________________________________
الكاتب: السيد مراد سلامة