هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟

منذ يوم

على موعدٍ مع مشهدٍ من مشاهد القيامة، لا تصوّره العدسات، ولا تبلغه ريشة رسّام، ولا تدركه عقول الغافلين.

 

يا عبدالله، قف قليلًا… دع الدنيا خلفك، واخلع عن قلبك أثقال التعلّق، وانصت بقلبك لا بأذنك، فإنك على موعدٍ مع مشهدٍ من مشاهد القيامة، لا تصوّره العدسات، ولا تبلغه ريشة رسّام، ولا تدركه عقول الغافلين.

حديثٌ ليس ككلّ حديث، بل هو قبسٌ من نور النبوّة، ونفحةٌ من عالم الخشوع والخضوع، حديثٌ خرج من فم المصطفى ﷺ، فلم يكن مجرّد كلمات، بل كان سهامًا تخترق الغفلة، وتُذيب صخور القلوب، وتنتزع الدنيا من الأعماق انتزاعًا.

تفضّل يا أخي، وافتح قلبك، وسافر معي في هذا المقال، لِنَقِف سويًّا على أطلال تلك المواطن الثلاثة، نسمع أنفاس الخوف، ونشاهد زلزلة الحساب، لعلّنا نستفيق من سُبات الغفلة.

حديثٌ تُذيب حروفُه القلبَ، وتبعثُ في الفؤاد رعشةً لا يملك لها الإنسان دفعًا، كأنّها نفخةٌ من نفحات الآخرة تهبّ على القلب في دنيا الغفلة، فتوقظه من سباته، وتنفض عنه غبار التعلّق، وتُريه وجه القيامة المهيب.

قالت عائشة رضي الله عنها للنبي ﷺ: ذكرتُ النار، فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟

فأتاها الجواب النبويّ الذي يُشبه الجبال وقارًا، ويُشبه الرعود وقعًا، قال ﷺ:

«"أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحدٌ أحدًا: عند الميزان، وعند الكتاب، وعند الصراط"»

فيا سامعًا لهذه الكلمات، ألست من أهل الدنيا؟ ألست من أبناء آدم؟ أما تحبّ أهلك؟ أما تُؤثِر ولدك على نفسك، وزوجك على مالك، وأمك على راحة جسدك؟

ولكن انتظر… فإنّ الساعة آتية، والقيامة قادمة، وسيتبدّل الأمر، ويتغيّر الحال، ويُختم دفتر الحياة، ويبدأ دفتر الخلود، هناك لا عاطفة، لا حبّ، لا قربى.

وإليك نص الحديث العظيم: عن عائشة رضي الله عنها أنَّها ذكَرَتِ النَّارَ، فبَكَتْ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما يُبكيكِ؟ قالت: ذكَرتُ النَّارَ، فبَكَيتُ، فهل تَذكُرونَ أهْليكم يومَ القيامةِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَّا في ثلاثةِ مَواطِنَ فلا يذكُرُ أحدٌ أحدًا: عندَ الميزانِ حتى يعلَمَ أيخِفُّ ميزانُه أو يَثقُلُ، وعندَ الكتابِ حينَ يُقالُ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} حتى يعلَمَ أين يقَعُ كتابُه أفي يَمينِه، أمْ في شِمالِه، أمْ من وراءِ ظَهرِه، وعندَ الصِّراطِ إذا وُضِعَ بيْنَ ظَهْرَيْ جَهنَّمَ» .

الموقف الأول: عند الميزان:

موقفٌ رهيب… يقف العبد في ميدان العرض، وقد نُصبت موازين العدل التي لا تظلم مثقال ذرة، ولا تهمل تسبيحةً، ولا تغفل عن غمزة عين. {﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ﴾} [الأنبياء: 47]

هنا، لا ينفع الجاه، ولا الوساطة، ولا الأب الذي كان إمامًا، ولا الجدّ الذي كان صالحًا.

هنا فقط ميزانك أنت، حسناتك أنت، صلاتك أنت، خُشوعك، دعاؤك، دموعك، أو تقصيرك، وتفريطك، وغفلتك.

الميزان يوضع، والقلب يدقّ، والروح ترتجف، والناس ساكتون، يرقبون ما تؤول إليه كفّتك: هل تثقل بالحسنات، أم تخفّ، فيُهوى بك في الهاوية؟ {﴿ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ * ﴾}

عند هذا الموقف لا يذكر الإنسان أباه، ولا يلتفت لزوجته، لا يفكّر بولده الذي طالما حمله على كتفيه، لأن الخوف قد أمسك بتلابيبه.

الموقف الثاني: عند الكتاب:

يُؤتى الإنسان بصحيفته التي كتبها عليه كَتبةٌ كرام، لم ينسوا شيئًا: {﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ } [ق: 18]

كلّ همسةٍ نُقلت، وكلّ دمعةٍ سُطّرت، وكلّ خفقة قلب نُقلت إلى صحيفة لا يغادر فيها الصغير ولا الكبير {﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا﴾}

فيا لله! أيّ كتاب هذا؟

أيّ كتابٍ لا يُغادر حرفًا؟

{﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚوَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾}

هل تأخذه بيمينك؟ فهنيئًا لك.

أم بشمالك؟ أم من وراء ظهرك؟ فبئس ما عملت!

وفي تلك اللحظة، ما أغناك عن أمك، وعن زوجك، وعن كلّ من أحببت!

لأنك ترى صحيفتك، وتعلم أن فيها مصيرك الأبدي.

الموقف الثالث: عند الصراط :

وذاك موقفٌ يُصيب القلب بالهلع، ويُذهب اللبّ من شدته، الصراط المضروب فوق جهنم، وهو أدقّ من الشعرة، وأحدّ من السيف.

يمرّ عليه الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يزحف، ومنهم من تتخطفه كلاليب جهنم.

{﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾}

تأمّل! النار تحتك، والجسر فوقها، وخلفك صحائف الأعمال، وأمامك إما جنّة أو نار، والعين لا ترى غير الظلام، اللهم سلّم، اللهم سلّم.

أيّ عاقلٍ في هذا الموقف سيذكر ولدَه؟

أيّ قلبٍ سيتّسع حينها لذكر زوجٍ أو أمّ أو حبيب؟

إنه الموقف الذي تتساقط فيه الأقنعة، وتتلاشى فيه الصور، ولا يبقى إلا عملك.

فيا عبد الله،

أتبكي لفقد دينار؟ وتضجّ لفوات فرصة؟ ولا تبكي على كتابك الذي لا تدري أين يُوضع؟

أما آن لك أن توقظ قلبك قبل أن توقظك الزلزلة؟

أما آن للعين أن تبكي خوفًا من حرّ جهنم كما بكت هذه الصديقة بيت الصديقة رضي الله عنها؟

أما آن أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب؟ ونقرأ كتابنا قبل أن نُقرأه؟

يا ليتك تذكّرت هذه المواطن الثلاثة في كل يوم مرة!

حين ترى وجه ولدك الجميل، تذكّر أن ذلك الوجه ربما لن تنظر إليه في يوم الحساب،

حين تضمّ زوجك، تذكّر أنها قد لا تلتفت إليك على الصراط،

حين تجلس مع أمّك، تذكّر أن قلبها الحنون قد يُنسى إذا وُضع الميزان!

{﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾} [عبس: 34-36]

لماذا؟

{﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾} [عبس: 37]

يا من ألهته الدنيا بزخرفها، وغرّته بأمنياتها، أما آن لقلبك أن يوجل، ولعينك أن تدمع، إذا سمعت حديثًا تهتزّ له السماوات، وتكاد الجبال أن تنقضّ من هيبته؟! حديثٌ خرج من بين شفتي رسول الله ﷺ ليخبرنا أن زوج النبي ﷺ الصديقة بنت الصديق بكت، لا من فقر، ولا من مرض، ولا من ضياع دنيا، بل من ذكر النار، من ذكر يومٍ تشيب فيه الولدان، فسألته عن حال العباد في ذاك اليوم، وهل تبقى روابط المحبة، وتستمرّ أواصر القرابة، فأخبرها ﷺ أن في ثلاثة مواطن تُنسى فيها الأحباب، وتُمحى الصور، فلا قلبٌ يلتفت، ولا عينٌ تشتاق، عند الميزان حين تُوزن الأعمال ولا يُدرى أثقُلت بالحسنات أم خفّت بالذنوب؟ وعند تسلّم الكتاب، حين تُلقى الصحائف، ويُقال للعبد اقرأ كتابك، فينظر: أفي يمينه بشارة، أم في شماله خُسران، أم من وراء ظهره قهرًا وهوانًا؟ وعند الصراط، ذاك الجسر الدقيق المضروب على متن جهنم، حيث تموج النار من تحته، والناس تمضي عليه بأعمالها، فتلك المواطن التي تُنزع فيها العواطف، ويُنسى فيها الأهل والولد، لأن كلّ امرئ مشغول بنفسه: {﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾} [عبس: 37]، فهنيئًا لمن بكى من خشية الله قبل أن يبكي يوم الحسرة، وهنيئًا لمن خاف اليوم فنجا غدًا، وويلٌ لمن أضحكته الدنيا حتى أبكته الآخرة.

فيا عبدَ الله، إن كنتَ اليوم تمشي على الأرض باسطًا خُطا الرجاء، فغدًا أنت واقفٌ على شفير الصراط، إما إلى جنّةٍ عرضها السماوات والأرض، أو إلى نارٍ تلظّى لا يصلاها إلا الأشقى!

فلا تخدعك ضحكات الساهرين، ولا تسكرنك أضواء الشاشات، ولا تغرّنّك أمانيّ المتمنّين، فإنّ الساعة آتية، والأجل آتٍ، والصراط في انتظارك، والكتاب يُكتَب، والميزان سيُنصب، فلا تُفرّط في ما تبقّى من عمرك، ولا تؤجّل توبتك، فإنك لا تدري أيّ نفسٍ هي الأخيرة.

قم الآن، ولا تقل: سأقوم غدًا، تطهّر من غفلتك كما تتطهّر من الذنوب، وأقبل على الله بقلبٍ منكسر، ودمعةٍ صادقة، وندمٍ يُزهر لك جنّة، ويقيك نارًا وقودها الناس والحجارة.

فاجعل لك ذكرًا في السماء قبل أن تُنسى في الأرض، واجعل همّك نجاتك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم.

فاستيقظ يا غافل، قبل أن يختم على الفم، وتنطق اليد، وتشهد الأرجل بما كانوا يكسبون.