خطورة الإسراف وكفران النعم

منذ 12 ساعة

من تأمل سنن الله في التاريخ، وجد أن الجوع والخصب، والنقص والوفرة، ليسوا حوادث عابرة، بل آيات يُذكّر الله بها عباده، لعلهم يرجعون.

الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، نحمده سبحانه حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُنجينا من المهلكات، ونشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوثُ بالرحمات، والدالّ على الخيرات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الميعاد.

 

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى:  {...وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ...}[1] فاتقوا الله عباد الله، فإن التقوى مفتاح كل خير، وسبب لكل نصر، وحصن من كل شر، بها تحفظ النعم، وتُدفع النقم، وتثبت الأقدام في زمن الفتن والابتلاءات..

 

أيها الإخوة: إن من سنن الله الجارية في عباده، أن النعمة لا تدوم لمن كفرها، ولا تستمر لمن أساء استعمالها. ومن تأمل سنن الله في التاريخ، وجد أن الجوع والخصب، والنقص والوفرة، ليسوا حوادث عابرة، بل آيات يُذكّر الله بها عباده، لعلهم يرجعون.

 

يحدثنا التاريخ في الجزيرة العربية، قبل سنين ليست بالبعيدة، عاش الناس فيها شدةَ الجوع وقسوة الحاجة، حتى كانت المجاعات تقلب البيوت إلى ساحات صبر، والقرى إلى ميادين ابتلاء.

 

كان الفقير يبيت على تمرة، والطفل ينام على جوع، والناس يتواصون بالقناعة، ويتقاسمون الفتات وكأنهم يقتسمون الذهب.

 

و تعد سنة الرحمة التي عاشها آباؤنا وأجدادنا كما تسمى، أو سنة الصخنة أو السخونة عام سبع وثلاثين وثلاثمئة وألف للهجرة هي الاشد وطأة في الجزيرة وحدث مع الجوع الذي حل بالناس مرض الطاعون الذي أفنى قرى ومدناً بأكملها، لدرجة لجوء بعض المشيعين إلى خلع أبواب المنازل لاستخدامها في نقل جنائز الموتى بعد أن تحطمت النعوش المتوفرة، ورجحت بعض الآراء تسميتها بسنة الرحمة إلى كثرة الترحم على الأعداد الهائلة من الموتى ذلك العام، ويقال أيضا إنه في هذا العام وسنة الجوع أصيب الناس بمرض أو فرط نهم الطعام ولا يمكن لاحدهم أن يشبع مهما أكل..

 

ذلك الجوع لم يكن مجرد فقر في الموارد، بل كان سنة من سنن الله، ييبتلي بها العباد، ويُعلّمهم أن النعمة لا تُؤخذ حقًّا إلا بشكر، ولا تُصان إلا بتقوى.

 

فما أشد المفارقة بين ماضٍ كان يُقدَّر فيه القرص اليابس، وحاضرٍ تُلقى فيه النعم في المهملات!

 

وما أبلغ العظة حين نعلم أن الإسراف اليوم خيانة لذاك الجوع، وكفرٌ بالنعمة التي جاء بها الله بعد البلاء.

 

ثم لنتأمل في قصة سبأ، قومٌ أنعم الله عليهم بخيرٍ لا يُوصف، وماءٍ لا ينقطع، وبلدةٍ طيبة، وربٍ غفور. قال تعالى:  {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [2]

 

ولكنهم أعرضوا، وأسرفوا، وكفروا بالنعمة، فجاءتهم العقوبة من حيث لا يحتسبون قال تعالى:  {..فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ...}[3]، فإذا بالجنان تتبدد، والرخاء يتلاشى، والمُلك ينهار.

 

إن الله لم يهلكهم دفعة واحدة، بل أراهم الآية، وأمهلهم، وذكّرهم، ولكنهم أبَوا إلا الغفلة، فما أعظم عدله، وما أشد انتقامه ممن أعرض عن شكره.

 

أيها الإخوة: الإسراف منهي عنه حتى في المأكل والمشرب قال تعالى:  {...وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}[4]،قال الإمام الخازن (رحمه الله): وفي هذه الآية وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء لأن محبة الله تعالى عبارة عن رضاه عن العبد وأيضا إيصال الثواب إليه وإلا لم يحبه علم أنه تعالى ليس هو راض عنه فدلت الآية على الوعيد الشديد في الإسراف.[5]

 

والإسراف لا يقتصر على الطعام أو الشراب مع النهي عنه بل يتسلّل إلى المال، والوقت، والمشاعر، والكلام، وحتى في أبواب الدين، من الغلوّ والتشدد، ما يُخرج العبد عن حدّ الاعتدال..قال تعالى:  {...وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [6]

 

وكان سعيد بْنِ جُبَيْرٍ (رحمه الله ) يفسر قوله تعالى:   {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[7]، فيقول: ما أنفقتم فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ فإن الله يخلفه[8]

 

فربّ كلمة زائدة أوقعت فتنة، وربّ مالٍ أُهدر كان أول أبواب الفقر، وربّ إسرافٍ في النعمة أتى بعقوبة لا تُرد.

 

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير سرف ولا مخيلة» [9] فالاعتدال هو منهج النبوة، وهو طريق النجاة، أما من جاوز الحد فقد خرج من زمرة المتقين، وأشبه المترفين الذين قال الله فيهم:  {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا...} [10]

 

عباد الله الإسراف منهي عنه في كل شيء حتى فِي الْحَمْلِ على الدواب كما قال الإمام القرطبي ( رحمه الله )[11]

 

وأرسل الله الرسل بالبينات لعباده كي لا يجاوزوا الحد بالإسراف فخالفوا ذلك وأسرفوا قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}[12]

 

فنهانا الله عن طاعتهم، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [13]

 

عباد الله: هلاك المسرفين المتجاوزين عن الحد بالفسق والكفر سنة من سنن الله في خلقه، قال تعالى:  {...وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}[14]

 

وهلاكهم لا يقتصر على الدنيا بل وعدوا بالنار في الدار الأخرة قال تعالى:  {...وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}[15]

 

عباد الله: و لم يكن للإسراف عيب سوى أنه من خصال فرعون التي اتصفت بالعذاب المهين لكفى. قال تعالى:  {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [16]

 

فيا من أنعم الله عليه، تذكّر الجوع في سابقينا وانظر الجوع فيما ابتلي به بعض الناس اليوم، وقصة سبأ، وسنن الله التي لا تتبدل، فإن الشكر حفظٌ للنعم، والإسراف بوابة لزوالها، وكفر النعمة يسبق العقوبة.

 

وأخرج الإمام البيهقي في شعب الإيمان عَنْ عَائِشَةَ أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَمَسَحَهَا، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهَا مَا نَفَرَتْ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِمْ» [17]

 

أيها الأحبة في الله: إن شكر النعم لا يكون باللسان فقط، بل له عوامل يقوم عليها، لا يصح إلا بها، ومن أعظمها:

أولًا: معرفة النعمة وتذكّرها، فالعبد لا يشكر ما لا يعرف، قال الله تعالى:

{...وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً...} [19]، والمؤمن ينظر إلى نعم الله عليه في صحته، وأمنه، وماله، وأهله، وعقيدته، فيتفكر ويستحيي أن يُقابلها بالجحود أو الغفلة.

 

ثانيًا: نسبة النعمة إلى الله..فمن الناس من ينسب النعمة إلى نفسه، أو إلى غير الله، وهذا من أعظم صور كفر النعمة، قال تعالى عن قومه قارون:  {...إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي...}[20]، فخسف الله به الأرض. فقل دائمًا: هذا من فضل ربي.

 

ثالثًا: استخدام النعمة في طاعة الله، فمن شكر المال: أن يُنفق منه، ومن شكر العلم: أن يُعمل به، ومن شكر الصحة: أن تُصرف في عبادة الله، أما من يستعمل النعم في معصية الله، فقد سلب نفسه أعظم أبواب الشكر.

 

رابعًا: الرضا بالقليل.. فمن الناس من لا يشكر إلا إذا كثُر المال، أو ارتفعت المنزلة، أما المؤمن، فهو يشكر في كل حال، حتى مع القليل، قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا»  [21].

 

خامسًا: الاعتراف بالتقصير.. فكلما شكر العبد ربه، أدرك أنه لا يستطيع أداء حق الله الكامل، فيزيده ذلك تواضعًا وخضوعًا، ويقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر» [22] ، فالشكر اعترافًا من العبد بنعم الله عز وجل.

 

عباد الله: فلنلزم شكر الله في السر والعلن، ولندعوه أن يُديم علينا وعلى المسلمين نعمه ظاهرة وباطنة..

 

عباد الله:  {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [23].

 


[1] [ سورة النساء: آية: 131]

[2] [سورة سبأ: آية: 15]

[3] [سورة سبأ: آية: 16]

[4] [سورة الأعراف: آية: 31]

[5] لباب التأويل في معاني التنزيل (2 / 194):

[6] [سورة الأنعام : آية: 141]

[7] [سورة سبأ: آية: 39]

[8] اخرجه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه - كتاب الحديث بالكراريس- في الإسراف في النفقة– رقم الحديث (26598)- (5 / 331) – بتصرف يسير

[9] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه- كتاب اللباس (7 / 140) – [الناشر: دار طوق النجاة - الطبعة: الأولى، 1422هـ] ، وأخرجه الإمام النسائي في سننه - كتاب الزكاة - باب الاختيال في الصدقة رقم الحديث (2559) - (5 / 79).

[10] [سورة الإسراء: آية: 16]

[11] تفسير القرطبي (10 / 73)

[12] [سورة المائدة: آية: 32، 33]

[13] [سورة الشعراء: آية: 150، 151]

[14] [سورة الأنبياء: آية: 9]

[15] [سورة غافر: آية: 43 ]

[16] [سورة الدخان: آية: 30، 31]

[17] أخرجه الإمام البيهقي في شعب الإيمان - باب تعديد نعم الله ، وما يجب من شكرها - رقم الحديث ( 4236) - (6 / 307) - [الناشر: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند - الطبعة: الأولى، 1423 هـ - 2003 م]

[18] [سورة إبراهيم: آية: 7]

[19] [سورة لقمان: آية: 20].

[20] [سورة القصص: آية: 78].

[21] أخرجه الإمام الترمذي في سننه – باب من أبواب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - رقم الحديث (2346)- (4 / 574) ، وحسنه الإمام الترمذي والألباني.

[22] أخرجه الإمام أبي داود في سننه - باب ما يقول إذا أصبح- كتاب الأدب– رقم الحديث (5073) -(4 / 318) وضعفه الألباني.

[23] [سورة الأحزاب : آية : 56].

_______________________________________________
الكاتب: د. صغير بن محمد الصغير